الواجهة الرئيسيةترجماتشؤون دولية

لماذا تحتاج الولايات المتحدة إلى محاسبة حقبة ترامب؟

كيوبوست – ترجمات

ماشا غيسن♦

في نهايةِ معركة انتخابية محتدمة، ألقى الرئيس المنتخب جو بايدن، ونائبته كامالا هاريس، خطابَين بمناسبة انتصارهما، مُذكرين الأمريكيين والعالم بما قد يبدو عليه الزعيم السياسي: مُفكراً وليس جاهلاً، حازماً وليس متغطرساً، متعاطفاً وليس قاسياً. وقطعا وعدَا بالتعافي وتحدَّثا عن الوحدة. وبلا شك كانت جاذبية عودة الأوضاع الطبيعية هائلة.

ومن المتوقع أن يتولى بايدن منصبه بعد الرئاسة الأكثر إثارة للانقسام والتدمير في ذاكرة البلاد. وفي معرض حديثه عن الرغبة الجماعية لمؤيديه في ترك كابوس السنوات الأربع الماضية خلفهم، وعد بإنهاء “هذه الحقبة القاتمة من الشيطنة”، وشدد على أن غالبية الأمريكيين، باختيارهم له، قد اختاروا “حشد قُوى اللياقة والإنصاف لتعبئة قوى العلم والأمل”؛ أي قوى كل شيء جيد وموثوق ومألوف يمكن أن يساعدنا على زعزعة الشعور بالعيش في واقع غير مستقر ومُظلم بشكل قاس. ووعد بايدن بـ”استعادة روح أمريكا”.

اقرأ أيضاً: الواقع والخيال في وداع ترامب الذي طال انتظاره!

فقد تعرضت روح أمريكا إلى الاعتداء من قِبل رئيس بغيض وكاذب، وحكومة عازمة على تدمير نفسها، وعندما ضربت جائحة كورونا البلاد، نبذت الحكومة بكل وضوح قيمة الحياة البشرية. وجعلت إدارة ترامب الأمريكيين يعلمون أنه لن يعتني بهم أو بأهلهم أو بأطفالهم أحد؛ لأن حياتهم لا قيمة لها، ويمكن التخلي عنها؛ لقد علمت الأمريكيين أن هذا البلد مكان خطير، وظل الرئيس يخبرنا أننا معرضون إلى خطر القتل على يد أجانب غير شرعيين أو اجتياح المتظاهرين العنيفين، في حين أن تجربتنا الحية أظهرت أننا على شفا كارثة إلى الأبد، وأنه ما من أحد سيحمينا، سواء من المرض أو من الضائقة الاقتصادية. وحتى الآن، يواصل ترامب محاولة ترهيب الواقع وإخضاعه..

مسيرة تضم مسلمين من جميع أنحاء نيويورك ضد الإسلاموفوبيا والتعصب ضد المهاجرين في تايمز سكوير.. مارس 2019- وكالات

إذن كيف يمكن لروح أمة أن تلتئم بعد هذا النوع من الصدمات؟ ونحن بالتأكيد لسنا أول مجتمع يواجه هذا السؤال. وبالمقارنة بأوقاتٍ أخرى، وأماكن أخرى، تبدو صدمتنا في الأعوام الأربعة الماضية ضئيلة؛ فهذا الوقت من العيش مع زعيم قاس وجاهل كان مقتضباً لحسن الحظ. فقد كان لزاماً على دولٍ أخرى أن تتعافى من الاستبداد والشمولية، ومن معسكرات العمل، والاختفاء، والإبادة الجماعية؛ وللولايات المتحدة إرثها الخاص الذي لم تتم معالجته من الاستعباد والاستعمار، والذي طغى في نهاية المطاف على الحقبة الترامبية.

إن انتقالنا الحالي ليس انتقالاً عادياً للسلطة؛ فعلى العكس من محاولة ترامب الاستبدادية، اختار الناخبون بين مستقبلين سياسيين مختلفين جذرياً؛ فالدروس واسعة النطاق التي استُخلصت من المجتمعات التي مرت بتحولات كبرى تنطبق علينا. وبشكل عام، كان على هذه المجتمعات أن تختار بين مسارَين: مسار المحاسبة، ومسار النسيان.

اقرأ أيضاً: هل فشل ترامب في جعل “أمريكا عظيمة مجدداً”؟

والحجج المؤيدة للنسيان دائماً في متناول أيدينا؛ كانت واضحة في خطابات النصر التي ألقاها بايدن وهاريس، حيث قال بايدن: “لتحقيق التقدم، يجب أن نتوقف عن معاملة خصومنا باعتبارهم أعداءنا”؛ فالخوف من الانقسام والإرهاق المطلق الذي تولده السياسات الانقسامية يُترجم بسهولة إلى الرغبة في تجاهل المشكلة خوفاً من تفاقمها. وفي أوائل التسعينيات، سارعت أول محكمة دستورية روسية في حقبة ما بعد الاتحاد السوفييتي إلى إجراء محاكمة علنية مخططة للحزب الشيوعي، ودعا العديد من قادة البلاد الشعب إلى ترك الماضي للماضي.

وجد تحقيق روبرت مولر روابط بين روسيا وحملة ترامب عام 2016 وأوجهاً عديدة لعرقلة جنائية محتملة للعدالة- “فاينانشال تايمز”

وكانت دوافعهم لذلك براجماتية إلى حد كبير؛ حيث كان من الممكن أن تكتسح المحاسبة الحقيقية كل مَن لديه أية خبرة حكومية، تاركة الجهاز البيروقراطي يعاني نقص الموظفين؛ كما كانت ستمزق العائلات والمجتمعات المحلية، وتفضح خطايا الماضي. وفي النهاية، فإن المحاسبة، سواء في المحاكم أو في وسائط الإعلام، لا بد أن تستنزف الطاقة والانتباه؛ وكانت حكومة بوريس يلتسين راغبة في إظهار طريقة أفضل، طريقة كان من شأنها أن تجعل الماضي بلا أهمية.

ولم تفلح تلك الخطة. وفي غضون بضعة أعوام، ومع تحول الانقسامات القديمة إلى فجوات لا يمكن تجاوزها، أفسح التاريخ غير المدروس للشمولية السوفييتية، المجال لنوستالجيا شاملة. وبالطبع، فإن جرائم أمريكا ضد نفسها لا يمكن مضاهاتها بجرائم روسيا؛ لكن الحجج التي بدأت تتبلور متشابهة بالفعل. ويتعين علينا أن نركز على المستقبل، وألا نخوض في الماضي؛ إذ لا ينبغي لنا الانغماس في سردية الاضطهاد الخاصة بترامب ومؤيديه المؤمنين بنظرية المؤامرة.

اقرأ أيضاً: من نيكسون إلى ترامب.. كيف كانت السياسة الخارجية طوق نجاة من العزل؟

فنحن نتوق إلى ردود فعل تحررنا من الحقبة الترامبية. وفي نصف القرن الماضي الذي بدأ بعفو جيرالد فورد عن ريتشارد نيكسون، واستمراراً حتى تنازل آل جور عن الانتخابات الرئاسية لصالح جورج دبليو بوش، وحتى وقتنا الراهن بقرار باراك أوباما عدم التحقيق في جرائم إدارة بوش؛ حولت الثقافة السياسية الأمريكية للتسامح والنسيان من فضيلة إلى صنم.

مايكل كوهين المحامي السابق لترامب- “فاينانشال تايمز”

وستتطلب المحاسبة من إدارة بايدن أن تتخلى عن هذا التقليد. وقد تتخذ المحاسبة أشكالاً مختلفة؛ منها التحقيقات، وجلسات الاستماع، والمحاكمات، والتجمعات العامة. ويجب أن تكون مشروعاً وطنياً، وليست سعياً بطولياً لمدَّعٍ عام فيدرالي منفرد، أو مدَّعٍ عام لولاية، أو مراسل استقصائي. وسيكون لزاماً على الإدارة أن تقودها، وسيتعين عليها أن تقبل أن سياساتها وإجراءاتها تحتاج إلى مشاركة الصفحات الأولى، لبعض الوقت، مع فحص للسنوات الأربع التي قضاها ترامب في منصبه.

ولنتأمل هنا عواقب اختيار عدم المحاسبة، فما الذي سنتركه إذا اخترنا عدم النظر إلى الوراء. وعلى الأرجح سيستمر المشرعون الجمهوريون الذين مكَّنوا ترامب، والذين يرفض بعضهم الاعتراف بنتائج الانتخابات، في شغل المناصب والفوز بها. وسيواصل موظفو السلطة التنفيذية نشر المذكرات التفصيلية، وتأمين المقابلات في مراكز البحث والكليات، في انتظار الإدارة الجمهورية المقبلة.

اقرأ أيضاً: الإدارة الجديدة لن تجعل الديمقراطية الأمريكية تتعافى!

والانتخابات لا تغسل هذا الألم والغضب والخوف والعجز؛ خصوصاً أن هذه الانتخابات لم تكن بأغلبية ساحقة بأية حال من الأحوال. فبالنظر إلى النسب المئوية للأصوات الشعبية التي حصل عليها كل مرشح، يمكن للمرء أن يستنتج أنها كانت مجرد منافسة انتخابية عادية؛ وهي في الحقيقة لم تكن كذلك.

وقبل بضع سنوات، عندما كنت أبحث في كتاب عن الصدمة الشمولية في روسيا، قضيت بعض الوقت مع بعض منشئي هذا النهج، في مركز دولويتش في أستراليا. وقد تم تطبيق عملهم، الذي شمل مجتمعات السكان الأصليين في أستراليا، وفي جميع أنحاء العالم. وينطوي هذا النهج على عدد من الأساليب؛ بما في ذلك سرد القصص، وكتابة الرسائل والطقوس. وقد يروي الناس ما فعلوه، وما حدث لهم، وقد يروون قصصهم مراراً وتكراراً في بيئات وأشكال محددة، وقد ينتجون سجلاً للرواية.

واصل الفريق القانوني للرئيس ترامب بمَن فيه رودي جولياني (في الوسط) محاولة الطعن في نتيجة الانتخابات الرئاسية- “رويترز”

ويحقق هذا النهج عدة أهداف؛ فمن خلال خلق طقوس جديدة فإنه يعطي صوتاً للأشخاص الذين لم تُسمع أصواتهم في العلن. ومن خلال التركيز على أفعال السرد والإصغاء، فقد يُطعن على الافتراضات المتعلقة بالعدالة باعتبارها فعل إنزال العقاب. ومن خلال إشراك جمهور أكبر، يسعى بعض الأشخاص الذين يعملون على معالجة الصدمات الجماعية إلى معالجة مسألة الأذى المعنوي.

اقرأ أيضاً: كيف تتفكك القوة الأمريكية وتنتهي هيمنة القطب الأوحد بلا عودة؟

وفي إطار الصدمة الجماعية، فقد وقع الأذى المعنوي على المجتمع ككل، وليس فقط على الضحايا بل أيضاً على الجناة والمارة، بالتأكيد ليس بالطريقة والمقدار نفسه؛ لكن المجتمع برمته هو الذي تضرر، والهدف من المحاسبة هو التعويض المعنوي.

وترقباً لانتهاء رئاسة ترامب، اقترح بعض الأشخاص أنه يجب علينا إنشاء لجان لتقصي الحقائق والمصالحة. وقد وصفت زميلتي جيل ليبور، في مقالة بجريدة “الواشنطن بوست”، هذه الفكرة بـ”الفظيعة”، وجادلت بأن “مخالفات إدارة ترامب -وهي سلسلة تتضمن الفساد، وإثارة التمرد، وفصل الآباء والأطفال على الحدود، وقمع المعارضة السياسية بعنف- يجب أن يتم التحقيق فيها من قِبل الصحفيين، وتسجيلها من قِبل المؤرخين، وفي بعض الحالات محاكمة مرتكبيها بشكل طبيعي في المحاكم العادية”.

أشار الرئيس المنتخب جو بايدن إلى أنه ليس حريصاً على إجراء تحقيق أو محاكمة لترامب لتكون محور اهتمام إدارته- “فاينانشال تايمز”

ومن شأن الطقوس العامة المتمثلة في سرد قصص عصر ترامب أن تضمد الجراح؛ لأنها ستضمن سماع الناس، وهو ما من شأنه أن يخلق المساءلة والشفافية؛ ليس بالضرورة من خلال إصدار عقوبات جنائية بل من خلال فرض تكاليف تتعلق بالسمعة قد تمنع الأشخاص الذين كذبوا لصالح ترامب من الحصول على الزمالات المرموقة، وتبعد الأشخاص الذين عملوا مع ترامب، وخرقوا القانون ومراكز البحث. والأهم من ذلك، أنها ستجبرنا على طرح السؤال حول السبب الذي جعل رئاسة ترامب أمراً ممكناً.

وفي حديث موجز تم تسجيله هذا الصيف، قدم عالم النفس جاك ساول، الذي يدرس الصدمات الجماعية، ما سماه “مُقترحاً أخلاقياً” للتعافي الوطني، واقترح سلسلة من الطقوس؛ من بينها طقوس التذكر، وطقوس الحزن، وطقوس الاحتجاج لتأكيد قيمنا الأساسية، وطقوس تصور المستقبل الذي نرغب في تحقيقه، وما يجب أن نصبح عليه، لكي نعيش في العالم الجديد.

اقرأ أيضاً: عندما يخترق اليمين المتطرف أجهزة تطبيق القانون!

وبعبارة أبسط، علينا أن نتحدث عما حدث وكيف يمكننا أن نعيش بطريقة لا تجعله يتكرر مرة أخرى. وبطبيعة الحال، لا يمكن لهذه العملية أن تنجح ما دامت أعداد متساوية تقريباً من الأمريكيين تعيش في واقعَين غير متقاطعَين؛ ولكن هذه العملية تمثل أيضاً أفضل أمل لنا لاستعادة واقع مشترك. فعندما يكون لديك جرح عميق متقيح، فأنت لا تشفيه بالتظاهر بأنه لم يكن هناك جرح؛ بل تقوم بتنظيفه، ثم تضميده. 

♦كاتبة في صحيفة “نيويوركر”، لها 11 كتاباً؛ من بينها كتاب «النجاة من الاستبداد» و«المستقبل هو التاريخ»، وفازت بجائزة الكتاب الوطني لعام 2017.

المصدر: نيويوركر

اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

مقالات ذات صلة