الواجهة الرئيسيةترجمات

لماذا أرسل ستالين الجيش الأحمر لغزو أفغانستان؟

كيوبوست – ترجمات

أندريه موزجوخين

في ديسمبر 1979، سيَّر شيوخ الكرملين العجائز، بقيادة بريجنيف، “وحدةً محدودة” تابعة للجيش الأحمر السوفييتي لتقتحم حدود أفغانستان عبر نهر آمو داريا بالقرب من مدينة ترميز، دافعين بلادهم نحو حرب لا تعنيها، وانتهت بالفشل بعد عشر سنوات.

بالكاد تذكَّر هؤلاء الشيوخ تاريخ هذه القضية، أنه قبل 90 عامًا، أي في ربيع عام 1929، وعبر الطريق نفسه قاد فيتالي بريماكوف أيضًا “وحدةً محدودةً” تابعة للجيش الأحمر لشنّ غارة سريّة أولى على أفغانستان الجارة، وانتهت أيضًا بالفشل بعد بضعة أشهر.

لماذا ساعد ستالين يومها الملك الأفغاني المخلوع؟     

وكما قبيل أفول عهد بريجنيف، كذلك في أواخر عشرينيات القرن الماضي، تصاعد التدخل العسكري السوفييتي في الشؤون الداخلية لأفغانستان التي أصبحت مرةً أخرى مسرحًا لمواجهة بين موسكو ولندن؛ تمامًا كأيام اللعبة القديمة الكبرى (التنافس الجيوسياسي) بين الإمبراطوريتَين الروسية والبريطانية.

شاهد: فيديوغراف…كيف عاشت وريثات الاتحاد السوفيتي؟

حتى عام 1929 خاض الإنجليز ثلاث حروب للسيطرة على أفغانستان؛ انتهت الأخيرة منها عام 1919 بفشل الإنجليز. بعدها أدار أمير البلاد الجديد “أمان الله خان” ظهره إلى البريطانيين واتّبع سياسة خارجية مستقلة. وفي العام نفسه كانت أفغانستان أول دولة في العالم تعترف رسميًّا بروسيا السوفييتية وتقيم علاقات دبلوماسية معها.

وكان البلاشفة في موسكو في عشرينيات القرن العشرين قد بدؤوا حراكًا حثيثًا في جميع أنحاء الشرق المسلم: دعموا تركيا الكمالية وأنقذوها من الهزيمة العسكرية، حاولوا تأسيس قوة سوفييتية في شمال إيران، وكانوا أول مَن اعترف بالمملكة العربية السعودية التي أُعلنت حديثًا. وفي السياق نفسه، عقدوا صداقتهم مع أمير أفغانستان، وتوجوها بمعاهدة مشتركة بين الدولتَين عام 1921.

في خريف عام 1924، استعانت الحكومة الأفغانية بالطيارين السوفييت؛ لقمع الجماعات الأفغانية المتمردة المختبئة في الجبال. ألهمت نجاحات الطيران السوفييتي “أمان الله خان” بفكرة أن يطلب رسميًّا من الاتحاد السوفييتي مساعدته في بناء سلاحه الجوي الأفغاني؛ الأمر الذي رحَّبت به موسكو.

ولكن؛ كيف لبلد آسيوي خامل مثل أفغانستان أن تنشأ فيه معارضة مسلحة؟!

ما حدث هو أن أمير كابول (الذي أصبح ملك أفغانستان منذ عام 1926)، اختطّ لبلده مسار التحديث على الطريقة الأوروبية، واحتذى بالنموذج التركي لا السوفييتي. أطلق “أمان الله خان” عام 1923 دستورًا جديدًا للبلاد ألغى فيه تعدُّد الزوجات، وسمح للنساء بعدم ارتداء الشادور وارتياد المدارس، وحارب بقايا التقاليد الشائنة كزواج الأطفال مثلًا.

القوات السوفييتية

كانت إصلاحاته متسرعة وغير حكيمة، واستجرّت رفضًا شعبيًّا واسع النطاق في مجتمع بدائي كأفغانستان، يضاف إلى ذلك عسف سلطاته وفسادها. تزامن الأمر أيضًا مع انتقال عشرات آلاف اللاجئين الأوزبك والطاجيك والتركمان من آسيا الوسطى السوفييتية إلى أفغانستان فرارًا من البلاشفة، أطلق هؤلاء على أنفسهم لقب (المجاهدين البيسماتشي). كان معظمهم بغيضين وعدوانيين، أقضّوا مضاجع حراس الحدود السوفييت والقرى الحدودية السوفييتية؛ لتقود هذه الأمور مجتمعةً إلى تفجير الوضع في البلاد.

والأرجح أن لمؤامرات الإنجليز يدًا في ذلك. كانت لندن منذ زمن مستاءةً من السياسة الدولية النشطة لموسكو في الشرق المسلم الذي تعتبره بريطانيا منطقةً حصرية لمصالح إمبراطوريتها.

وإن كان لدى المجاهدين أسلحةٌ ومستشارون إنجليز من الهند البريطانية (باكستان الحالية)؛ إنما لا يزال دعمُ الإنجليز للمتمردين الأفغان موضعَ جدال، وما إذا كان للكشّاف الشهير توماس لورانس (لورانس العرب) بالذات يدٌ فيه. لابد كذلك من تفهُّم أن أي تدخل خارجي لن يكتب له النجاح إلا بتوفر الأسباب الداخلية الجدية في أي بلد.

ملكة أفغانستان ثريا تارزي   

والأرجح أن الإنجليز أنفسهم سرَّبوا صورة جريئة؛ بل فاضحة في أفغانستان الإسلامية، للملكة “ثريا تارزي” تظهر فيها بالزي الأوروبي وبوجه مكشوف. تسبب سلوكُ الملكة النسوية، إحدى أولى “نساء الشرق المتحررات”، في فضيحة طالت حتى دوائر أفغانستان القضائية، وأسقطت ثقة مجتمعها بملكته.

ثريا تارزي ملكة أفغانستان

عندما بدأ تمرد حبيب الله باتشاي ساكاو، ذي الأصول الطاجيكية، الفارّ من السجن، مجهول النسب؛ لم يدافع الأهالي عن ملكهم “أمان الله خان”، بل تلقَّى حبيب الله المتمرد دعمًا علنيًّا من الملالي وزعماء القبائل وحتى من بعض أقطاب السلطة؛ فأعلن نفسه أميرًا للبلاد في يناير 1929، واستولى على كابول تقريبًا دون قتال، وارتكب فيها مجازر جماعية.

هرب الملك المخلوع “أمان الله خان” إلى قندهار، ومنها بدأ في جمع مؤيديه.. أرسل مبعوثيه أولًا ثم قام بزيارة رسمية إلى موسكو طلبًا لمساعدتها العسكرية. وأكد جوليام نبي خان، القنصل العام الأفغاني في الاتحاد السوفييتي، أن السكان المحليين سيلاقون “الضيوف” السوفييت بترحاب كبير.

حبيب الله باتشاي و ساكاو

في ما يخص الزعماء السوفييت، كان التغيير المفاجئ في السلطة على الحدود الجنوبية لآسيا الوسطى المضطربة أصلًا مفاجأة ليست بالسّارة أبدًا، فقد كان “أمان الله خان” حليفَهم ضد المجاهدين الأوزبك والطاجيك، بينما أعلن حبيب الله، حاكم أفغانستان الجديد، تحالفه مع إبراهيم بك (أحد قادتهم)، وألغى جميع الإصلاحات التي أجراها سلفه: حظر الإذاعة في البلاد وأغلق المدارس العلمانية وأعاد تطبيق الشريعة؛ لتعود أفغانستان خلال فترة حكمه القصيرة إلى العصور الوسطى.

بعد المداولات، وفي مارس 1929، قرر ستالين دعمَ الملك الأفغاني المخلوع. شكَّل أولًا كتيبة مسلحة مشتركة على حدود آسيا الوسطى السوفييتية من مؤيدي “أمان الله خان” الذين فرّوا إلى هذا الإقليم، وتبيّن سريعًا أن الأفغان عديمو الخبرة في التعامل مع الأسلحة البسيطة فضلًا عن المدافع الرشاشة، فاضطر السوفييت إلى إشراك وحدة من الجيش الأحمر الروسي قوامها ألفا جنديٍّ بقيادة فيتالي بريماكوف. كان بريماكوف ملحقًا ومستشارًا عسكريًّا سوفييتيًّا في الصين ثم في أفغانستان، وقبلها كان قد شارك في الاستيلاء على القصر الشتوي عام 1917، وأبلى بلاءً حسنًا في المعارك في شرق أوكرانيا خلال الحرب الأهلية. دخل بريماكوف بجنوده من شمال أفغانستان باتجاه كابول على وعد مساندة السكان المحليين وَفق تطمينات القنصل الأفغاني.

اقرأ أيضًا: قصص عشق عاصفة ونهايات حزينة…كيف عاشت وريثات حكام الاتحاد السوفيتي؟ الجزء الأول

حصار مزار شريف

كان إعداد العملية وتنفيذها سريًّا للغاية. أُعطي بريماكوف اسمًا مستعارًا (الضابط التركي رجب بيك)، وأُعطي جنودُه زيًّا عسكريًّا أفغانيًّا وأسماء أفغانية. اجتازت المفرزة معبر آموداريا فجر يوم 15 أبريل 1929، وسبقتها ضرباتٌ مفاجئة بالطيران السوفييتي للمواقع الحدودية على الساحل الأفغاني.

تقدمت السلطات المحلية الأفغانية بشكوى عن العدوان لدى الدبلوماسيين السوفييت، وأنكر الدبلوماسيون أيّ دورٍ لحكومتهم في هذا الغزو. وفعلًا، ربما لم يُبلَّغ المجلس الوطني للشؤون الخارجية بأمر الحملة؛ فقد كان يرأسه جورجي تشتشيريني، الرجل المريض بشدة، والذي أقاله ستالين من منصبه في غضون ذلك العام.

فيتالي بريماكوف

في البداية، استولت وحدة بريماكوف بيسرٍ على مدينتَي كليف وخان آباد، ثم في 22 أبريل، وبعد معركة شرسة، استولت على مزار شريف، النقطة الاستراتيجية الأهم في شمال أفغانستان.

وعلى عكس المتوقع، واجه بريماكوف عداوة السكان المحليين الصريحة تجاه حملته، فلم ينضم إليها سوى بضع مئات من الهازارا، وهؤلاء لهم أسبابهم الخاصة للعداوة مع جيرانهم الأوزبك والطاجيك. كذلك اكتشف شيوخ القبائل المحلية أن مهاجميهم غرباء وليسوا أفغانًا، فأعلنوا الجهاد ضد “الكفار”، وانضم إليهم بعض أنصار “أمان الله خان” السابقين.

اقرأ أيضًا: كيف يعيش ورثة حكام ما بعد الاتحاد السوفييتي؟ (2)

حوصرت مفرزة بريماكوف في قلعة مزار شريف، وفشل الفرسان المجاهدون في محاولاتهم العديدة لاقتحام القلعة؛ بسبب نيران المدافع السوفييتية الرشاشة.

شبَّه ونستون تشرشل في كتاباته حصارَ مزار شريف بمعركة أم درمان بين البريطانيين والمهديين في السودان في عام 1898. بينما وصف ليف غوميلوف (رحّالةٌ قام برحلة علمية طويلة إلى طاجيكستان عام 1932) هذا التكتيك العسكري الخاص للمتطرفين الإسلاميين: “هاجم الفرسان المجاهدون المدافعَ الرشاشة تحت تأثير الأفيون، وكانوا أيضًا يفركون به خطم خيولهم وهم على ظهورها”.

اقرأ أيضًا: هل تكفي ترجمة الكلاسيكيات بين الأدبَين العربي والروسي؟

حتى نهاية أبريل فشلت محاولة السوفييت بإرسال تعزيزات أرضية إلى بريماكوف، وتابع الطيران السوفييتي قصف مواقع المجاهدين حول مزار شريف، ورمي الإمدادات الجوية إلى المحاصرين المنهكين بعد أن نفدت لديهم مياه الشرب. أخيرًا طرد المجاهدون مفرزة بريماكوف إلى ما وراء آمو داريا.

في 5 مايو وصل 400 جندي أحمر كمؤازرين يرتدون الزي الأفغاني ويقودهم سليم خان (اسمه الحقيقي: إيفان بيتروف، الذي قاد الجيش لاحقًا، وكان قبلها قائد فوج سلاح الفرسان التركماني الثاني في آسيا الوسطى). بمعونة الضربات الجوية للطيران السوفييتي على المواقع الأفغانية، وصل سليم خان بعد مسيرة يومين إلى رجب بيك (بريماكوف) في مزار شريف، وتآزر القائدان على تفريق المجاهدين المحليين، (ومن ضمنهم مفرزة البسماشي إبراهيم بيك، وعدادها 1500 من الحرس الشخصيين لحبيب الله)، وطردوهم جنوبًا باتجاه مدينة طاشكورخان.

إيفان بيتروف

نهاية حزينة

إضافةً إلى عداء السكان المحليين وإعاقتهم لمؤازرة الحملة، كانت المشكلة الكبرى في عدم موثوقية الحلفاء الأفغان، الذين من أجلهم جاء الجيش الأحمر ليقاتل في بلد غريب. كان مؤيدو “أمان الله خان” تباعًا يغادرون الكتيبة هاربين. في هذا الوقت استُدعي بريماكوف بالطائرة عاجلًا إلى موسكو، وعُيِّن بدلًا منه علي أفضال خان (اسمه الحقيقي: ألكسندر تشيريبانوف، مستشار عسكري سابق في الصين).

والحقّ أن العملية العسكرية السوفييتية في أفغانستان أصبحت تفتقد أي معنى؛ فمن أجل عودة “أمان الله” إلى عرشه كان على بريماكوف أن يشنّ غارة “عبر النهر”، ويُمنى بهزيمة ساحقة، بينما هرب الملك المخلوع نفسه خارج البلاد.

أيامها انتقدت صحف العالم تدخل السوفييت في أفغانستان، وسرى انطباعٌ دوليٌّ بالغ السوء عن هذه الدولة الفتية، أسوأه في بريطانيا العظمى التي تدهورت العلاقة معها من “الخلافات الدبلوماسية” إلى “القلق الحربي”؛ لتصبح أسوأ من أي وقت مضى.

ابراهيم بك

ليس واضحًا لماذا توقَّف “أمان الله خان” فجأة عن المقاومة من دون التشاور مع موسكو، ولماذا لم يغادر قندهار إلى الاتحاد السوفييتي الذي كان صديقًا له؟!

هرب “أمان الله” إلى الهند البريطانية الخاضعة لسيطرة الإنجليز، الذين كانت علاقته معهم دومًا متوترة!

ربما، وعبر مفاوضات سرية لم تدرِ بها موسكو، أعطاه الإنجليز بعض الضمانات، وأقنعوه بإنهاء الصراع على السلطة. بعد هروبه إليهم سافر إلى إيطاليا، ثم استقر في سويسرا.

في 28 مايو 1929، وبعد هرب الملك، تلقى تشيريبانوف أمرًا بالإخلاء الفوري إلى الاتحاد السوفييتي. عادت الحملة السوفييتية إلى الوطن عبر عبور نهر آمو داريا، نفس الطريق الذي أتت منه قبل شهر ونصف الشهر، والذي عبره الجيش السوفييتي بعد 60 عامًا.

اقرأ أيضًا: موسكو .. كم مرَّة حاولوا تغيير اسمها؟!

تناقضت نتائج حملة 1929 على أفغانستان. فقد بذل القادة والجنود السوفييت عسكريًّا أقصى إمكاناتهم لإنجاز المهمة، وليس خطؤهم أنهم لم يصلوا إلى كابول. وبهذا المعنى فقد قدَّم السوفييت إلى الملك الأفغاني المخلوع صداقتهم كاملةً. إنما سياسيًّا، كانت غارة بريماكوف مغامرة حماسية غير محسوبة ولا مجهزة، ولم  تستعن بخبرات الدبلوماسيين، وبسببها تكرس الانطباع العالمي بأن الاتحاد السوفييتي بلد معتدٍ.

لم يعش فيتالي بريماكوف طويلًا بعد مهمته الفاشلة، مات مقتولًا بالرصاص في يونيو 1937، بأكثر من تهمة سخيفة وملفقة؛ منها قضية “توخاشيفسكي” في لوبيانكا، ومنها اتهام ضباط الأمن له بالعمالة مع المخابرات البريطانية فقط استنادًا إلى أن مكان عمله عام 1929 كان في أفغانستان، وعبثًا حاول بريماكوف إقناع ضباط الأمن هؤلاء أنه لم يذهب إلى ذلك البلد إلا تنفيذًا لأوامر ستالين.

المصدر: Lenta.ru   

اتبعنا على تويتر من هنا

 

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

مقالات ذات صلة