الواجهة الرئيسيةترجماتثقافة ومعرفة

“لقد أخذ حياتي بكل تأكيد”.. كيف دمر الفيروس عائلات برمتها قرب الحدود؟

كيوبوست- ترجمات

إدغار ساندوفال♦

بعد بضعة أيام من تحضير وتقديم وليمة عيد الشكر، كانت ماريبل رودريغز تحاول تجميع عزيمتها لتبدأ التحضير لزينة عيد الميلاد؛ من شجرة وأضواء وديكورات مختلفة التي كانت تزين بيتها في السنوات الماضية، ولكنها بدلاً من ذلك وجدت نفسها تصلي أمام الجرار الثلاث التي تحتوي على رماد زوجها ووالدتها وخالتها الذين كانوا يتشاركون المنزل معها.

قالت السيدة رودريغز التي تعيش في منزل ريفي في إيدنبورغ بولاية تكساس: “كان زوجي هو مَن يقوم بتركيب الشجرة وتزيينها، وكان هو مَن يرتدي زي سانتا كلوز في كل عام.. لا أستطيع أن أقوم بذلك بنفسي.. أجهشت بالبكاء قبل أن ألمس أياً من قطع الزينة”. أُصيب زوجها السيد دومينغو دافيلا؛ ذو الخمسة وستين عاماً، بالفيروس في شهر سبتمبر بعد أن كان قد خضع لعملية بتر ساقه، وفي غضون أيام ظهرت الإصابة على السيدة رودريغز، وعلى والدتها ماريا غوادالوبي رودريغز، وعلى خالتها ميرثالا راميريز.

تعافت السيدة رودريغز من المرض؛ ولكنّ الآخرين لم يفعلوا. فقدت السيدة رودريغز سبعة من أقاربها بسبب الفيروس منذ أن ضربت الجائحة منطقة وادي ريو غراندي. تقول السيدة رودريغز: “هذا الفيروس لم يقتلني؛ ولكنه بالتأكيد أخذ حياتي”.

وبعد صيف مدمر في هذه المنطقة الحدودية؛ حيث ساعدت التجمعات العائلية في تسريع تفشي الفيروس، كانت عائلات كثيرة قد فقدت شخصَين أو ثلاثة، وربما أكثر.

اقرأ أيضاً: المسنون أم العاملون الأساسيون.. مَن يجب أن يحصل على لقاح فيروس كورونا أولاً؟

بلغ معدل الوفيات ذروته عند خمسة في المئة، وبقي مرتفعاً في منطقة “إل فالي” التي تمتد على طول الحدود مع المكسيك، والتي شهدت ما لا يقل عن 2168 جنازة، بينما بلغت نسبة الوفيات على المستوى الوطني 2% فقط. يلقي مسؤولو الصحة باللائمة في انتشار المرض ضمن الأُسر على توليفة من الفقر ونقص الرعاية الصحية وثقافة التماسك الاجتماعي في الأسرة. يقول الدكتور إيفان ميلينديز، من الهيئة الصحية في مقاطعة هيدالغو: “واقعنا هو أن شعبنا هو الأكثر إصابة بالمرض؛ ولكننا لا نستطيع الابتعاد عن بعضنا.. وبالمقارنة مع بقية مناطق البلاد، فإن الجائحة أشد بكثير هنا”. ومما زاد في شدة فتك الفيروس في المنطقة، هو أنه من الشائع أن تعيش عدة أجيال من العائلة في منزل واحد -وهذا يجعل التباعد الاجتماعي مستحيلاً- وغالباً ما يكون الأقارب الأكبر سناً يعانون أمراضاً مزمنة؛ مثل السكري والسمنة. يضيف الدكتور ميلينديز: “منذ البداية كنا نرى الكثير من المرضى يدخلون المشفى مع أفراد آخرين من عائلاتهم الكبيرة”.

اقرأ أيضاً: فيروس كورونا.. متى نستطيع التوقف عن استعمال الكمامة؟

كان الوضع أسوأ في الصيف؛ حيث وصل عدد الوفيات إلى 60 شخصاً يومياً؛ ولكن مسؤولي الصحة لاحظوا وجود ارتفاع مفاجئ كبير مثير للقلق بعد عطلات عيد الشكر والهالوين، وهم يتوقعون ارتفاعاً آخر بعد احتفالات أعياد الميلاد ورأس السنة. وفقاً لإحصاءات المقاطعة، فإنه يوجد حالياً نحو 2500 مصاب يصارعون فيروس كورونا. وقد أصبحت هذه الإحصاءات شخصية بالنسبة إلى السيدة رودريغز. فبينما تنتظر مناسبة كانت دائماً وقتاً للاحتفال مع عائلتها، تجد نفسها وحيدة يؤرقها صوت حذائها على بلاط الأرضية الذي حل محل صخب الضحك والبهجة. وبعد وفاة رفاق سكنها الثلاثة، قررت أن تعرض منزلها الكبير المؤلف من طابقَين للبيع. وقالت إنها تركت عملها كممرضة رعاية في أحد الأديرة؛ لأن المرض أثر على جسدها، وهي الآن تعيش على التبرعات، وما تجنيه من بيع معجنات التامالي.

الدكتور إيفان ميلينديز مسؤول الهيئة الصحية في مقاطعة هيدالغو- “نيويورك تايمز”

قال لها الوكيل العقاري إنه يجب أن تخلي الغرف من متعلقات أقاربها المتوفين. تمالكت نفسها وهي تدير مقبض باب غرفة والدتها للمرة الأولى بعد وفاتها. كانت ملابسها على السرير، ومجوهراتها على الطاولة، وحقيبة اليد التي طلبتها كهدية مبكرة لعيد الميلاد. نظرت حولها وحبست دموعها. “فتحت باب الغرفة وتمنيت لو أراها هنا”، وقالت أيضاً: “منذ أن وجد هذا القاتل المجهري طريقه إلينا تمكن من إزهاق العديد من الأرواح”.

في أحد أيام الربيع الماضي، عادت إلى منزلها بعد نوبة عمل طويلة لتجد زوجها السيد دافيلا، الذي يعاني تقرحات في الرئة وأمراضاً أخرى، يشتكي من لدغة عنكبوت في ساقه اليمنى. وصل الالتهاب إلى العظم في الأشهر التالية، ومع ذلك ظل يرفض الذهاب إلى المشفى؛ خوفاً من التقاط الفيروس. حاولت أن تحترم رغبته؛ ولكن في أواخر أغسطس ساءت حالة ساقه كثيراً، وأخبرها الأطباء أنه لا بد من بترها. جاءت نتائج اختبارات الفيروس سلبية قبل العملية وبعدها؛ ولكن الأعراض ظهرت عليه بعد وصوله إلى مركز لإعادة التأهيل. قالت السيدة رودريغز: “كان يشعر بالبرد وارتفعت درجة حرارته”. وسرعان ما تدهورت حالته إلى أن أخبرها الأطباء أن تأخذه إلى المنزل “قال لي الأطباء إنه لم يعد بإمكانهم فعل أي شيء له”.. توفي في الخامس عشر من سبتمبر.

السيدة رودريغيز في غرفة والدتها- “نيويورك تايمز”

كانت نهاية قاسية لرجل كان راقصاً بارعاً يحظى بشعبية كبيرة في نادي البلدة؛ حيث التقته للمرة الأولى. قالت السيدة رودريغز إنه في موعدهما الأول طلب الكثير من الفتيات الرقص معه، إلى درجة أثارت غضبها وكادت تغادر المكان؛ ولكنه بعد ذلك اليوم لم يرقص مع غيرها. لا تزال صور الزوجَين السعيدَين تزيّن المنزلَ، هو بقبّعة راعي البقر وهي بفساتينها المتألقة.

اقرأ أيضاً: كي نوقف الجائحة.. مقاربة أفضل لمنظمة الصحة العالمية

بعد وفاته بأيامٍ قليلة، أُصيبت السيدة رودريغز بسعال لا يتوقف، وشعرت وكأن يداً جليدية تعتصر أحشاءها. وعندما تهاوت في سريرها جرّت والدتها خطاها إلى غرفتها لتطمئن عليها. لم يستغرق الأمر طويلاً قبل أن تُصاب والدتها ذات الثمانين عاماً، وخالتها ذات السبع والسبعين سنة، بالفيروس. تم نقل الشقيقتَين إلى المستشفى بفارق أيام قليلة، ووُضعت الشقيقتان اللتان أمضيتا كل ساعة من ساعات عمريهما معاً في وحدة العناية المشددة نفسها. توفيت والدتها في الثاني عشر من أكتوبر، وتبعتها خالتها بعد أقل من أربع وعشرين ساعة. كانت قد انتهت للتوّ من إجراءات حرق الجثث الثلاثة عندما رنّ جرس الهاتف. لقد قتل الفيروس أربعة من أقاربها في المنطقة. قالت: “كيف يمكن لشيء صغير إلى درجة أنك لا يمكن أن تراه أن يأخذ منك الشيء الكثير؟!”.

كانت هذه معاناة الكثير من الأُسر على امتداد الوادي منذ ذلك الصيف.

في ذروة انتشار الفيروس في المنطقة، وجد طريقه إلى منزل عائلة غارسيا في سان خوان على بعد عشرة أميال جنوبي إيدنبورغ. تجد بريسيليا غارسيا صعوبة كبير في استيعاب كيف أُصيب والداها رونالدو ويولاندا المتزوجان منذ خمسين عاماً، واللذان لا يخرجان من المنزل إلا نادراً. قالت السيدة غارسيا: “لقد ذهبا إلى المستشفى في اليوم نفسه، ولم يعودا منه قط”. توفي الزوجان بفارق أيام عن عمر ناهز سبعين عاماً. تابعت غارسيا: “لقد حدث كل شيء بسرعة فائقة، لا يخطر على بالك أبداً أنك قد تفقد والدَيك في الوقت ذاته”.

بريسيليا غارسيا تحمل صورة والدَيها يولاندا ورولاندو غارسيا- “نيويورك تايمز”

ومع أنها كانت ترتدي كمامة عند زيارة والدَيها، تمكَّن الفيروس من التسلل إليها، ثم إلى زوجها، ثم إلى ابنتها ذات العامَين التي عانت عوارض ثانوية فقط. مؤخراً، زارت السيدة غارسيا منزل والدَيها المزيَّن بصور العائلة والأزهار البلاستيكية. ابتسمت وهي تداعب تمثالَي طيور الحب أمام الجرار التي تحوي رماد والدَيها، وتذكرت أن والدتها كانت تدير تمثال عصفورة الحب لتدير ظهرها للعصفور عندما تغضب من والدها. “هكذا يعرف أن عليه أن يبقى بعيداً” والآن عاد العصفوران في الاتجاه الصحيح.

كانت بعض العائلات في الوادي تعاني قبل وصول الجائحة؛ ففي غضون عام واحد فقدت ماريبل أفيلا رايان، رب أسرتها؛ بسبب تليُّف الكبد، وعمها بسبب نوبة قلبية، وابنة أختها التي كانت تعيش في هيوستن وقتلت في حادث إطلاق نار في أبريل. ثم جاء الفيروس ليزيد الأمور سوءاً ويحصد أرواح عمها فرتوسو جاسو، 74 عاماً، في الثامن والعشرين من يوليو، وشقيقتها الكبرى داليا إينيت سوليس، 52 عاماً، في السادس عشر من أغسطس.

تتذكر السيدة أفيلا أنه في اليوم نفسه الذي أدخلت فيه شقيقتها إلى المستشفى، كانت العائلة قد علمت أن ابنتها حامل في طفلة. أحبت داليا أحفادها كثيراً؛ ولكنها كانت تتوق منذ سنوات إلى حفيدة تستطيع أن تلبسها وتدللها مثل أميرة.

اقرأ أيضاً: كيف يتم استغلال “كوفيد-19” لنشر الكراهية وتحقيق مكاسب سياسية؟

تقول السيدة أفيلا: “عيد الميلاد هذا العام سيكون حزيناً بشكل استثنائي مع وجود العديد من الكراسي الفارغة حول الطاولة.. إنك تشعر بالغضب عندما تفكر لماذا علينا أن نعاني كل هذه المعاناة.. أعلم أن آخرين قد عانوا أكثر وربما فقدوا ثلاثة أو أربعة من أفراد عائلتهم.. ولكن الأمر لا يزال مؤلماً بالنسبة إليّ”.

بدا وكأن الرجل الذي كان يلبس زي سانتا كلوز قد تبخر وتركه وراءه- “نيويورك تايمز”

السيدة رودريغز تعاني الشيء نفسه، وأجبرت نفسها على أن تضع شجرتَين بدلاً من واحدة، والكثير من زينة الميلاد بعد أن أصر حفيداها التوأمان البالغان ست سنوات من العمر، على أن سانتا كلوز سوف يتخطى المنازل التي لا توجد فيها شجرة الميلاد.

في الغرفة التي كان يسميها زوجها “الكهف”، بحثت السيدة رودريغز عن زي سانتا كلوز، ووجدته ملقى على كرسي. حبست أنفاسها.. بدا وكأن الرجل المرح الذي كان يرتديه كل عام قد تبخَّر فجأة وتركه وراءه.

♦مراسل “نيويورك تايمز” يغطي شؤون العدالة الجنائية.

المصدر: نيويورك تايمز

اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

مقالات ذات صلة