الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفة
لعبة نيوتن.. نص جريء يجمع عناصر النجاح في مكان واحد
يقدم تامر محسن عملاً طموحاً وجريئاً.. بسبب تطرف القصة التي يقدمها وصعوبة تحويلها إلى أحداث واقعية وملموسة

كيوبوست- عبيد التميمي
مضى ما يقارب 20 حلقة من مسلسل “لعبة نيوتن”، ولا يزال المستوى يتصاعد بشكل رائع، وفي كل مرة يتباطأ نسق المسلسل وتهدأ وتيرة السرد، يتم البناء للحظة الانفجار التالية، ومع كل لحظة انفجار شديدة الحدة يأتي المسلسل بعدها ببضع حلقات، ويقدم عرضاً يتفوق على سابقه. يصنع تامر محسن هذه السنة عملاً رائعاً ومحكماً، عملاً يجعلك تتجاهل كل العيوب والنواقص حينما تشاهده في أفضل حالاته.
يتحدث المسلسل عن هناء “منى زكي” وحازم “محمد ممدوح“؛ زوجَين يقرران إنجاب ابنهما الأول في أمريكا؛ بغرض الحصول على الجنسية الأمريكية. وبعد فشل الخطة في أولى خطواتها، يتعقد الموضوع بشكل خطير على الزوجَين، وتصبح المشكلة أكبر من عالمهما الصغير، وتتوسع دائرة الفوضى لتشمل كل مَن يقف في طريقهما.
على السطح، تبدو قصة المسلسل ميلودرامية بشكلٍ مبتذل، وأعني أنه حينما نضع الأحداث الرئيسية كرؤوس أقلام، دون جميع التفاصيل الأخرى، سوف نكون أمام قصة ميلودرامية بحتة بل وربما غير واقعية؛ لكن هذه القصة مكتوبة بإحكام وعناية فائقَين يجعلان التطرف والمبالغات والحدة التي يحتوي عليها المسلسل واقعية للغاية، بل وترتبط تماماً بالمشاهد. قد لا يرتبط المشاهد بفكرة ضيقة المجال؛ مثل إنجاب ابن في أمريكا، لكنه قطعاً سوف يتجاوب مع فكرة خطة زوجَين مستقبلية تبوء بالفشل وتتعقد بشكل مهول.
تطوير الأحداث والشخصيات هو الركيزة الأساسية التي يبني عليها المسلسل بقية عناصره، وهنا يستطيع المسلسل أن ينتقل من حدث إلى آخر بشكل واقعي وسلس، رغم تضارب هذه الأحداث وابتعادها عن بعضها بعضاً. هنا تصبح فكرة عودة “هناء” من أمريكا بزوجٍ جديد غير مجنونة، وفكرة تهديد حازم لها بالقتل بعد اعتذاره المليء بالذنب لها، هي أكثر الأفكار واقعية على الإطلاق.

“لعبة نيوتن” هو مثال ممتاز على الأعمال التي تجعل من شخصياتها تحرك القصة وتدفع بها إلى الأمام. كبداية، هذا المسلسل مليء بالشخصيات العاطفية، واتحاد هذه العاطفة مع الشعور العارم بالعزلة والوحدة هو محرك هذه الشخصيات. “هناء” المعزولة جسدياً وذهنياً عن زوجها وعائلتها في أمريكا تخوض تجارب قاسية، وتؤثر هذه التجارب بشكل واضح عليها، وعلى طريقة اتخاذها القرارات، وتتحول شخصيتها دائمة التردد والتوتر، إلى امرأة تتخذ قرارها بشكل مباشر دون التفكير في أي شخص آخر، بل وحتى دون التفكير في العواقب أحياناً.
اقرأ أيضًا: Pieces of a Woman.. عن تراجيديا الفقد
نفس الأمر يحصل مع حازم، الذي بسبب مشكلة زوجته يصبح معزولاً بشكل كامل عن جميع معارفه، ويحمل هذا الهم وحيداً في أغلب الوقت، صارخاً في وجه زوجته تارةً، ومعتذراً تارةً أخرى. وحتى محمد فراج بدور “مؤنس”، هو معزول ووحيد؛ بسبب مشاعره تجاه “هناء”، ولا يستطيع مصارحة حتى زوجته، أقرب الناس إليه، بخصوص هذا الموضوع، ويبني جميع قراراته وتصرفاته على هذه العاطفة الجياشة، والشهوة الخالصة، ولا شيء سواهما.
مقابلة مع المخرج والمؤلف تامر محسن:
إن ما فعله تامر محسن وورشة الكتَّاب الذين عملوا على سيناريو المسلسل، هو عمل استثنائي حقاً. تحويل هذه القصة المعقدة والمتشابكة إلى سردٍ سلس وسريع، وتغطية موضوعية لجميع الشخصيات وأحداث حياتها، نرى وجهة نظر كل شخصية ومبرراتها دون أن تظهر الشخصية بمظهر الخير الخالص أو الشر الخالص؛ الكل يتحرك وفق مبادئه وقناعاته وتجارب حياته، والكل يرى أن ما يفعله هو عين الصواب. حتى حينما تغيب شخصيات بشكل كامل عن بعض الحلقات، لا تحس أن المسلسل قد نسي هذه الشخصية؛ لكن المسلسل يكون في مرحلة من القصة لا تتطلب ظهور تلك الشخصية. فمثلاً، شخصية “مؤنس” لم تظهر في أولى الحلقات، ومع أنه من أهم الشخصيات في المسلسل، فإننا فعلاً لم نكن نحتاج إلى أن يظهر، بل وظهوره كان سوف ينعكس بشكل سلبي على مردود شخصيته لدى المتابعين؛ لأن ارتباطه بسير الأحداث كان معدوماً بشكل كامل.
وبمجرد ظهور شخصيته في الوقت المناسب، تمت إضافة محرك رئيسي جديد إلى القصة يقلب الموازين بشكل كامل، ويعصف بالأحداث.

ومن المجحف أن نعزوَ نجاح المسلسل من هذه الناحية إلى الكتابة فقط؛ لأن للمونتاج دوراً موازياً في الأهمية. والمونتاج هو من العناصر التي قد لا تلاحظ تميزها بشكل مباشر في أي عمل؛ لكن غيابه يشكل فارقاً بشكل مباشر وواضح، لعل أحد أهم فوائد المونتاج المميز والذي يفتقده بعض الأعمال الرمضانية، هو طريقة إنهاء الحلقات وبدايتها؛ لأنني كمشاهد، مهما كانت درجة اهتمامي بالعمل الذي أشاهده، يعتمد هذا الاهتمام بشكل كبير على قدرة المسلسل على شدّ انتباهي لإكمال الحلقة بعد مشهد البداية، ومتابعة الحلقة القادمة بعد مشهد النهاية؛ لكن المونتاج في “لعبة نيوتن” هو أسمى من هذه المهام الأولية بكثير، إن المسلسل يعتمد بصورة كبيرة على اللحظات المشحونة، والمواجهات الضارية بين شخصياته، ولا تتم هذه المواجهات ولحظات الشد النفسي إلا بمونتاج ذكي يستوعب ما يتطلبه النص، ويجهز المنصة التي سوف تستقبل المواجهة بأفضل شكل ممكن.
اقرأ أيضًا: Promising Young Woman .. انتقام فتاة شابة
الطاقم التمثيلي يأخذ النص المكتوب إلى مستوى آخر، سيد رجب رغم الغموض المحيط بشخصية “بدر” التي يؤديها حتى الآن؛ فإنه يسرق أغلب المشاهد. بدر الذي رغم لسانه المعسول ورقَّة قلبه التي تغمرك في كل مرة يتحدث؛ فإنك لا تستطيع طرد الشعور بالخوف من هذا الشخص، وما يستطيع أن يفعله في لحظة غضب، ولا أعتقد أن أداء سيد رجب يوحي أن هذه الشخصية تمتلك “لحظة” غضب؛ بل عصراً منه. محمد فراج يُظهر بوادر الخيلاء والغرور منذ البداية، وتدريجياً يبدأ هوسه بـ”هناء” يسيطر ويستحوذ عليه، والشخص الذي يقول كل كلمة بشكل محسوب وتخطيط مسبق، يتحول إلى شخصٍ تنسل منه الكلمات والاعترافات بشكل لا إرادي. فراج يؤدي دور رجل الدين الذي يأخذ من الدين ما يرغب ويترك ما يكره، يقلِّب الفتاوى بأدلتها كيفما يشاء، ويظهر دائماً بمظهر الشخص الذي لا يغضب الله.
مشهد من المسلسل يجمع منى زكي ومحمد ممدوح:
التفاهم والجاذبية بين منى زكي ومحمد ممدوح كانتا نقطة مهمة في سرد هذه القصة؛ زوجان عاطفيان للغاية وكل منهما يمتلك نقطة ضعف الآخر، لكن تميُّز هذين الاثنين لا يقتصر على المشاهد التي تجمعهما.
منى زكي استطاعت السيطرة على حلقات كاملة بسبب مشاهد لها؛ مثل مشهد الولادة المرعب، واستطاعت استيعاب كل التغييرات والتحولات التي طرأت على شخصيتها، والآن تشاهد ماضيها وحاضرها يحترقان معاً. لكن في الحقيقة محمد ممدوح وما يفعله يجعله يخطف الأفضلية من كل سابقيه، في هذا الدور العظيم يقوم محمد ممدوح بكل ما في جعبته كممثل، ويكفيني في هذه الناحية أنه يؤدي العديد من مشاهده وأفضلها حتى وحيداً وممسكاً بهاتف فقط. احتمالية كره المشاهد لشخصية “حازم” وعدم تعاطفه معها هي احتمالية كبيرة للغاية؛ لكن المشاهد يتعاطف مع “حازم” بسبب محمد ممدوح، ينفجر كالبركان وقت الغضب، ومن ثم يظهر بكل خضوع وانكسار وترجٍّ في لحظات الضعف، يحاول أن يبقى صامداً قوياً في مواجهة كل الظروف، ومن ثم يسقط خائر القوى بعد نهاية أية معركة.
تامر محسن يقدم لنا عملاً طموحاً وجريئاً؛ طموحاً بسبب تطرف القصة التي يقدمها وصعوبة تحويلها إلى أحداث واقعية وملموسة، وجريئاً لأنه يناقش قضايا مهمة وحساسة مثل قضية الطلاق، وما يتبعها من تعقيداتٍ دينية واجتماعية؛ لكن لا تشعر ولو لدقيقة واحدة أن تامر محسن يعتمد على عاملَي الطموح والجرأة فقط، بل هو يستخدم كل ما في جعبته وجعبة فرق العمل من أدوات؛ حتى يبرر لنا هذا الطموح وهذه الجرأة. مضى ما يقارب20 حلقة على مسلسل “لعبة نيوتن”، وأنا أتشوق لمشاهدة نهاية هذه القصة الرائعة.
إيميل الكاتب: [email protected]