الواجهة الرئيسيةشؤون عربية

كيف يواجه التاريخ التطرف وثقافة الكراهية؟

مؤرخون يتحدثون لـ"كيوبوست" عن طرق ومناهج تسهم في جعل مادة التاريخ منهلاً لزرع ثقافة التسامح والعيش المشترك

كيوبوست – حسن الأشرف

يمكن للتاريخ، معرفة وتدريساً وتعلماً، ومطالعة وتحليلاً واستشرافاً، أن يلعب أدوارا حاسمة في مواجهة التطرف والتصدي لثقافة الكراهية، ما يجعل الاهتمام بالتاريخ يتجاوز “الترف الفكري” أو “الهم المعرفي” ليبلغ درجة الضرورة المجتمعية في انتشال الأجيال الحالية والمقبلة من مستنقع التطرف والتشدد ورفض الآخر.

ويرى أكاديميون مغاربة أن مادة التاريخ سواء في المدرسة أو في المؤلفات المتخصصة كفيلة بتدريب الطالب على التمييز والتحقق من الأحداث التاريخية بهدف عدم الارتهان لما تروجه و”تفبركه” الجماعات المتطرفة في فهمها “المبتور” للتاريخ الذي ليس هو حروب ومجاعات ودماء فقط، بل أيضاً تعايشا بين الشعوب المختلفة وقدرة على فهم الغير، والتمسك بالحد الأدنى من التسامح والاعتدال.

 اقرأ أيضاً: المغرب يراهن على المذهب المالكي للوقاية من التطرف الديني

ثقافة المشتركات

لمناقشة هذا الموضوع اتصل موقع “كيوبوست” بالمؤرخ والأكاديمي والأستاذ الجامعي الدكتور إبراهيم القادري بوتشيش، الذي قال إن التاريخ يأتي ليشكل آلية فكرية لتحصين المجتمع وحمايته من الأفكار المنحرفة والمتطرفة، بيد أن التاريخ سلاح ذو حدين، يمكن توظيفه لنشر الأفكار المتطرفة، كما يمكن في ذات الوقت استثماره للحد من التطرف إذا ما أحسنا منهج قراءته وتدريسه وتأويله، وبالتالي كيف يمكن توظيفه في الجوانب الإيجابية، التي تعكس التعايش والتساكن والتثاقف بين الشعوب، وليس الاحتراب والتعصب والتطاحن.

واستطرد بوتشيش قائلاً: “بحكم أن التاريخ هو جزء من النظام التعليمي التربوي المؤثر في العقليات، إلى درجة أن البنك الدولي أوصى بأن تعمل الحكومات على تحديد الطرق التي يمكن من خلالها توظيف التعليم لحماية الناشئة من الفكر المتطرف، فإنه برسالته التربوية الأخلاقية هذه، يجسد فضاء لاستنبات القيم الإنسانية، وإشاعة ثقافة المشتركات الحضارية بين الشعوب والأعراق والأجناس وطنياً وإقليمياً ودوليا”.

المؤرخ المغربي إبراهيم القادري بوتشيش

ويكمل المؤرخ المغربي: المعروف بأنه يمكن لأستاذ مادة التاريخ الذي هو مالك سلطة معرفية، ومربٍّ في الوقت نفسه، أن يجعل من الفضاء الدراسي بيئة مناهضة للتطرف، ويتصدى لثقافة الكراهية من خلال الدرس التاريخي عبر مستويين؛ الأول تعويد قدرة الطالب على التفكير النقدي، والتعلم من خلال الاستفسار والتحقق من الأحداث التاريخية، حتى لا يقع فريسة لوجهات النظر التي تروج لها الجماعات المتطرفة العنيفة، من خلال مقولات الجهاد، والصدام الحضاري، واستعداء الآخر.

وأما المستوى الثاني، بحسب المتحدث عينه، فهو تلقين أستاذ مادة التاريخ للناشئة انطلاقاً من مناهج تربوية مدروسة، أن التاريخ ليس مجرد حروب وتوترات ودمار وسفك دماء، لأن هذه الحروب لا تمثل سوى الاستثناء، بينما القاعدة هي التعايش المشترك بين الشعوب، والتعامل فيما بينها انطلاقاً من مبادئ التسامح والاعتدال والانفتاح واحترام الآخر، وهذا ما يساهم في مواجهة الروح العدوانية ضد الغير، وتحرير العقل الاجتماعي من التطرف، ومن النظرة الدونية للآخر، وقبوله مهما بلغت مساحة الاختلاف معه.

اقرأ أيضاً: كيف يواجه المغرب مضامين التطرف في مقررات التعليم؟

مشاهد تاريخية مضيئة

ولتطبيق هذا الكلام على الواقع، أي توظيف التاريخ كآلية في التصدي للفكر المتطرف، وتحصين المجتمع من أخطاره، شدد بوتشيش على أنه ينبغي الانكباب على قراءة المشاهد المضيئة من الاعتدال واللاعنف في التاريخ الإسلامي، انطلاقاً من نموذجين على سبيل المثال لا الحصر، يمثل النموذج الأول المقاومة السلمية المعتدلة التي حققت أهدافها من دون تطرف فكري أو ثورات مسلحة، بينما يمثل النموذج الثاني التعايش والتساكن والتثاقف بين الشعوب عبر التاريخ، من خلال النموذج الأندلسي.

وفي تفصيل النموذج الأول، أبرز المؤرخ المغربي أن التجربة النبوية تعد التجربة الرائدة والقدوة في المجتمعات الإسلامية، وكانت في معظمها تجربة سلمية، تقوم على الحوار مع الآخر، واستقطابه، وعقد معاهدات سلم وصلح معه كما يعكس ذلك صلح الحديبية الذي مهّد الطريق لفتح مكّة سلماً ومن دون قتال. وحتى الحروب التي اضطرت لخوضها من أجل نشر الفضيلة وحقوق الإنسان، اتسمت بالطابع الإنساني الحريص على عدم الإضرار بالعدو واحترامه.

التاريخ ليس حروباً فقط

وتابع “في سبيل تجفيف منابع الفكر المتطرف، يمكن استحضار درس التاريخ وعبرته من خلال الانتصارات التي حققتها المقاومة السلمية، كانتصار دعاة المسيحية على استبداد الإمبراطورية الرومانية، واجتثاث ديانتها الوثنية من دون سفك دماء، وفي التاريخ الحديث يمكن استحضار انتصار الزعيم الهندي المهاتما غاندي على الاستعمار الإنجليزي..”.

وبخصوص النموذج الثاني المتعلق بتعايش الشعوب في ظلّ التسامح، يورد بوتشيش نموذج التجربة الأندلسية التي نجحت في مدّ إشعاعها الحضاري، من دون تطرف أو إقصاء للغير، إذ يمكن ملامستها من خلال التسامح الذي نهجته الإمارة الأندلسية الحاكمة تجاه المستعربين، حيث إنها تركت لهم نظامهم الاجتماعي والقضائي كما كان في العصر القوطي دون تدخل أو إكراه، أو إرغام على تغيير ذلك النظام، رغم أنها كانت تمثل السلطة الحاكمة، كما احترمت تقاليد وأعراف اليهود والمسيحيين، بل شارك الأندلسيون إخوانهم المسيحيين احتفالاتهم بمناسبة عيد ميلاد المسيح، وعيد سان خوان، وغيرها من المناسبات.

اقرأ أيضاً: عوائق التنفيذ الناجع لبرامج مكافحة التطرف العنيف في إفريقيا

واسترسل المؤرخ المغربي “أسفر هذا الانصهار عن انتشار ظاهرة الزواج المختلط بين العرب الفاتحين والنساء الإسبانيات، ومشاهد من التثاقف في الأزياء والتجميل، وظهرت لغة تتألف من كلمات عربية ولاتينية عرفت باسم اللغة العجمية، وبها كُتب الزجل الأندلسي، ناهيك عن حرية المعتقد، حيث تعايشت في الأندلس الديانات السماوية الثلاث، الإسلام والمسيحية واليهودية جنباً إلى جنب، رغم ما كان يطرأ على صفو العلاقات بين هذه الديانات من غيومٍ عابرة”.

نفي القداسة عن الماضي

ومن جهته، يؤكد عبد الواحد بنعضرا، الباحث وأستاذ التاريخ، أن الأجدر بالحديث في هذا السياق هو “التاريخ كذاكرة علمية ينتجها المؤرخ المحترف، وليس التاريخ كذاكرة جمعية”، مبرزاً أنه يمكن إجمال دور التاريخ في مواجهة فكر التطرف الديني، في عدة نقط ومحاور، الأول كون التاريخ يتيح فرصة التعرف على وقائع تاريخية قد تخفيها الذاكرة الجمعية، أو تقزّمها لصالح تضخيم وقائع هامشية، والنفخ في أدوار بعض الفاعلين غير المؤثرين في الوقائع.

عبد الواحد بنعضرا

ويكمل بنعضرا، في حديثٍ مع “كيوبوست”، بأن الذاكرة الجمعية بطبعها انتقائية، وبذلك يتعرف المتلقي أو القارئ على وقائع تجعله يشك فيما كان يعتقد من قداسة الزمن الماضي أو قداسة بعض الفاعلين فيه، وطرح أسئلة عن مدى صحة ما كان يتم إخباره به من قِبل بعض الفاعلين السياسيين المعاصرين أو الأسرة أو الإعلام أو من خلال بعض الأعمال الفنية ذات الطابع التمجيدي للماضي.

ووفق مؤلف كتاب “العقل المستقيل.. نقد الإسلام السياسي ومرجعيته”، هذا المتلقي أو القارئ ينتبه إلى أن هذا الماضي في المحصلة تاريخ بشر، بما لهم وبما عليهم، بآمالهم وآلامهم، بأطماعهم وطموحاتهم، برهاناتهم وحساباتهم، وصراعاتهم خدمة لمصالحهم، وليس تاريخ ملائكة، وبالتالي كل ما سبق يجعله يتخفف من ثقل الماضي، ومن ضرورة إعادة إحيائه، انطلاقاً من كونه عصراً ذهبياً كما تم تلقينه في إطار الذاكرة الجمعية، وبذلك يخف تشنجه وتوتره ورغبته في إقناع الناس بأفكاره وبالعنف، انطلاقاً من شكه في كونه يملك الحقيقة المطلقة.

اقرأ أيضاً: المغرب يحارب التطرف بالتصوف لمواجهة “الإسلام الراديكالي”

تجارب إنسانية مختلفة

ويستطرد بنعضرا بأن من أقوى الأمور التي يمكن أن يستفيد منها القارئ للتاريخ أن الأفكار المجردة شيء والواقع شيء آخر، من خلال التعرف على تجارب السابقين، وكيف أن الواقع أكثر تعقيداً، وبالتالي يفهم أنه لا يوجد إسلام مجرد، أو إسلام معياري إلا في أذهان البعض، وأنه ليس هناك انحراف عنه، بل هناك تجارب إنسانية مختلفة حسب ظروف كل جماعة بشرية، ومختلف السياقات التي حددت تجاربها، وبالتالي كيف يستساغ فرض تجربة بشرية قديمة أو معاصرة على جماعة بشرية أخرى، إذ إن كلها إسلام كما تحقق في التاريخ، أي في الواقع، لذلك يترسخ لدى القارئ للتاريخ أنه لا يوجد معنى واحد للإسلام، وأن الأمور نسبية جداً.

وزاد بنعضرا بأن الأمر قد يكون أكثر فائدة لهذا القارئ لكتب التاريخ، إذا تملك فهماً جديدا للزمن واستطاع من خلال قراءته أن يفهم أن التاريخ لا يسير في خط مستقيم أو دائري، وتخلص كذلك من فكرة الحتمية؛ حيث يتعلق الأمر بفكرة الزمن الاحتمالي وما يثيره من أهمية الانتباه للممكنات التي تحققت ولغيرها من الممكنات التي لم تتحقق، من هنا فمعنى سيطرة تيار ديني معين لا يعني أن هو الوحيد الصحيح والصائب، بل يعني أن هناك ظروفاً ساعدته على البروز مقابل إجهاض مكونٍ آخر.

ومن جانبٍ آخر، يختم بنعضرا، سيتخلص المتلقي أو القارئ من النظرة الإعجازية للنصوص التي تكبّل أحياناً العقول، وتزيد من تطرف البعض على أساس أن في القرآن كل شيء حتى المعارف العلمية، وهذا على خلاف الإمكانات التي يتيحها مفهوم الزمن الاحتمالي، المنفتح على تعدد الاحتمالات والقراءات، وضرورة مواصلة الابتكار والإبداع، وأن لا شيء محسوماً أو منتهياً أو حتمياً.

اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

حسن الأشرف

صحفي مغربي

مقالات ذات صلة