الواجهة الرئيسيةترجماتشؤون دولية
كيف يمكن أن تؤثر الكاريزما على الإرهاب والتطرف؟ (2/2)
التأثر بالشخصيات الكاريزمية قد يكون سببًا في التوجه نحو الإرهاب

كيوبوست- ترجمات
كيف ومتى تنجح السلطة الكاريزمية –المرتبطة بالمجتمعات القبلية ما قبل الحداثة– في الدفع باتجاه الأشكال الثقافية الاجتماعية الأكبر، والأكثر تماسكًا وتطورًا من الناحيتين المادية والتعليمية؟ مجددًا، يمكن لها أن تحقق ذلك طالما توفرت وسائل الاتصال. ولكن، عندما تفشل هياكل السلطة القائمة، فإنها تفقد قدرتها على الإقناع، وتخفق في إدارة الوقائع الاجتماعية التي يراها الناس من حولهم. هنالك شخصيات كاريزمية في جميع الأماكن وفي جميع الأوقات، لكنها لا تسود ما لم تتفسخ هياكل الوضع الراهن السائدة بطريقة أو بأخرى (مصطلح بيتر بيرغر في الستار المقدس).
إن الحفاظ على الخرافة أمر هام في جميع النطاقات الحضارية، ولا توجد هناك أية ثقافة إنسانية خالية من العقيدة. وعندما تتوقف القصص التي ترويها السلطة عن الإقناع، ينطلق بحث جديد عن قصص قادرة على تحقيق النجاح، من أجل تفادي الأزمة الإدراكية الجماعية على الأقل.
اقرأ أيضًا: دور الخطاب الديني الأصولي في إغواء الشباب نحو التطرف والعنف
إذا كان انهيار المرتكزات العقائدية في المجتمع عميقًا بما فيه الكفاية، قد ينشأ سوق للسلطة الكاريزمية، فضلًا عن ظهور جوانب متعددة من التفكير الأسطوري (الخرافي) المرتبط بها، حتى عندما تسود البنى الاجتماعية الثقافات الحديثة. وعندما يحدث ذلك، فإن اللغة المجازية الأسطورية تغلب على اللغة السياسية إلى درجة أكثر من المعتاد.
ربما كان إيريك فويجلين أول من أشار صراحة إلى أوجه التشابه بين النظام العقائدي الديني وأيديولوجيات الحركة الجماهيرية في أوائل القرن العشرين: الفاشية والشيوعية. وربما كان خوسيه أورتيغا غاسيت هو أول من أظهر طبيعة الفاشية والشيوعية العاطفية للغاية، وأسباب رفضهما المنطقية، وتغليفهما بالسلطة القانونية العقلانية بغلاف كاريزمي، وقد كتب عام 1930 قبل وصول هتلر إلى السلطة: “اتصفت المخلوقات الفاشية والمذهبية بظهور النوع الأول للإنسان، الذي لم يكترث بشرح الأسباب حتى لو لم يكن على حق، والذي كان مصممًا على فرض آرائه. وهذه هي البدعة: أن تمتلك الحق في عدم الصواب، وأن تمتلك الحق في أن تكون غير منطقي، وبعبارة أخرى، منطق اللامنطق”.
التقنيات الرئيسة في تلك الحقبة، التي أدت إلى انتشار السلطة الكاريزمية في المجتمعات الحديثة بشكل سريع، مثل الصحف والمجلات والإذاعة، دفعت الحكومات إلى الرغبة بالسيطرة على هذه التقنيات، إدراكًا منها بقدرة هذه الوسائل على تحفيز السلوك السياسي الفوضوي، وربما العنف. ولذلك، جرى إنشاء لجنة الاتصالات الفدرالية في الولايات المتحدة عام 1934، على سبيل المثال، من بين مؤسسات أخرى مشابهة في مختلف دول العالم.

تميزت الحركات الشمولية الاستبدادية بوجود شخصيات كاريزمية خاصة بكل واحدة منها، فضلًا عن البدع والطقوس المصاحبة لكل شخصية من تلك الشخصيات: موسيليني وهلتر، فرانكو وبيرون، لينين وستالين، وماو تسي تونغ. جميعهم كانوا مضربًا للأمثال، يأتون على خيول بيضاء من أجل إنقاذ “الناس”، وجرى تصويرهم بالوحدة والتراص الاجتماعي.
تتميز أشكال الشعبوية اليمينية واليسارية اليوم بوجود زعماء يتمتعون بالكاريزما، أو قادة بارزين محتملين، أو أشكال مشابهة لهذا النوع من القيادة. حتى أن بعض الناس يصرون على أن دونالد ترامب يتمتع بشخصية كاريزمية!
إن صعود النزعة الشعبوية في اللحظة الراهنة هو بالطبع أحد أعراض انحطاط السلطة النخبوية السابقة التي أخفقت في إخبار القصص وفشلت في تحقيق مصداقية في نظر الجماهير. وقد انتقلت تكنولوجيا الإرسال اليوم إلى ما هو أبعد من الراديو أو التلفاز؛ إلى الإنترنت.
اقرأ أيضًا: كيف يؤثر صعود اليمين المتطرف في أوروبا على المسلمين؟
إسقاط على الحاضر
والآن، وبعد أن حددنا المصطلحات، ووضعناها في سياق اجتماعي – تاريخي، كيف يمكننا ترجمة كل ما سبق إلى مشكلة التطرف المعاصر والعنف الناتج عنه؟ يجب أن تكون الإجابة واضحة لأولئك الذين يتمتعون بوعي شديد بوقائع العالمين العربي والإسلامي. إن رواد التطرف الإسلامي، الذين يرغبون في إثارة العنف داخل وخارج المجتمعات الإسلامية، يستهدفون بشكل رئيس الأفراد الذين لم يعودوا يؤمنون بقصص “الصدق واللوم”، التي يسمعونها بشكل متكرر من قبل السلطات التقليدية (في المنطقة)، أو السلطات القانونية العقلانية (في الغرب بشكل رئيس).
وللأسف، يمكن فهم ضعف الدول العربية على نطاق واسع، لا سيما الدول الحديثة المعاصرة غير الملكية. ويمكن كذلك إدراك ضعف الدول الإسلامية غير العربية مثل باكستان وأفغانستان وحتى تركيا وإيران. وقد حملت روايات النخب العربية تأثيرًا قويًا في فترة ما بعد الاستقلال مباشرة، مما غذى الاستياء من الاستعمار، وعزز رؤى النهضة العربية، لكنها تراجعت مع مرور الوقت بسبب مجموعة متنوعة من أوجه القصور والخلل: الفشل الإداري في توفير الخدمات الأساسية، عدم القدرة على توليد نمو اقتصادي مشترك على نطاق واسع، والفشل في التغلب على الانقسامات الطبقية، وعدم التجانس الطائفي، وغيرها من الإخفاقات.
لا تزال نظرية هشام شرابي حول الحداثة المشوهة في العالم العربي صحيحة وجوهرية، لا سيما وأن هذه الحداثة جرى استعارتها من التشوهات الماركسية، تمامًا مثل البيت المتهاوي الذي يجمع بين الأشكال الحديثة والأشكال الموروثة – حسب وصف شرابي.
اقرأ أيضًا: لماذا يحتاج كل من الفِكر الإسلامي المتطرف و”أقصى اليمين” في الغرب بعضهما البعض؟
إحدى نتائج أوجه القصور المذكورة هي ظهور شخصيات كاريزمية عربية، عملت على تعويض العجز في تحقيق الحداثة في المجتمعات. كان جمال عبد الناصر هو الأكثر شهرة من بين تلك الشخصيات. وقد أطلق عبد الناصر راديو القاهرة من أجل إثارة ومعالجة الجماهير العربية ببراعة. وظهر أيضًا قادة أكثر فاعلية -مثل الحبيب بورقيبة- قاموا بنشر أشكال أكثر إقناعًا وجاذبية وكاريزمية، بغرض ممارسة الحكم وغرس التغيير من الأعلى في مجتمعات موروثة.

وبعد أن جرى قذف الأشكال الكاريزمية إلى الحياة السياسية العربية، في ظل التحديث المجتمعي الفاشل وغير المكتمل، تهاوى الخطاب السياسي في غالبية الدول العربية منذ فترة طويلة، وتحول إلى نوع من التمثيل الإيمائي الموازي، استخدم فيه القادة والإعلام والجمهور كلمات إيمائية مجردة بغرض حماية أنفسهم من الأذى، وليس من أجل مناقشة المشاكل والقضايا الفعلية. غالبية تلك المجتمعات متوقفة عن الحداثة؛ وبعضها انهار بسبب انفجار سياسات الهوية الطائفية والعرقية. كما أن جميع القصص التي تخبر بها القيادات الوطنية تسقط على مسامع الشعوب الشابة المحبطة بكل سخرية.
مرتكزات أساسية
يحتاج الناس بشكل أساسي إلى 3 مرتكزات جوهرية من أجل المشاركة بثبات في المجتمع، وبالتالي المساهمة في استقرار الأمة ككل: الهوية والمجتمع والهدف. يحتاج الفرد إلى الشعور بمعرفة نفسه أولًا، وإلى معرفة ما يمكن الارتباط به لتحقيق المنفعة المتبادلة بشكل موثوق، وبالتالي القدرة على إيجاد أهدافه السامية في المجتمع. وفي الوقت الذي يفقد فيه المجتمع بعض أو كل هذه المرتكزات، سرعان ما يسقط في حالة من القلق والخوف، ويدخل في حالة من الذعر أثناء محاولة إعادة تأسيس المرتكزات، وحينها، يتعرض المجتمع للانجرار إلى أي شخص أو منظمة تقدم وعودًا بالغوث والإنقاذ.
ولهذا السبب، وفي سياق الروايات القومية العربية المفزعة في يومنا هذا، تزدهر المنظمات الشبيهة بالظاهرة اللينينية، مثل الإخوان المسلمين، التي حققت نجاحًا في المناطق الحضرية التي غالبًا ما تعج بالوافدين من الريف – الذين انقطعوا حديثًا عن التقاليد العائلية والتقليد الشعبي؛ بعبارة أخرى، الذين انسلخوا عن نسيج السلطة التقليدية التي ضعفت في كثير من الحالات بسبب التغيير المجتمعي السريع.
هذا هو السبب الذي يجعل الهاربين من الأمية عرضة للتودد والاستهداف من قبل التعقيد الفكري في الخطب المليئة بالواعظين المتطرفين. قبل أربعين عامًا، جسدت أشرطة الكاسيت تقنية جديدة لصالح روح الله خامنئي، وكذلك لصالح أسامة بن لادن وأنور العولقي، وغيرهم من المتطرفين، من بينهم من ماتوا.

اقرأ أيضًا: علميًا: كيف تتسرب الدعاية المتطرفة إلى عقول الناس؟
وهذا هو السبب أيضًا الذي جعل التلفاز وسيطًا قويًا في الشرق الأوسط المعاصر، ووسيلة نقل فعالة جدًا في نشر الأفكار الراديكالية –لاحظوا شعبية خطب يوسف القرضاوي التي تبث من الدوحة، كأحد الأمثلة الهامة– إذ أن فئة قليلة نسبيًا من الجمهور المستهدف مثقفة بشكل عميق؛ فقد ترعرعت في الهياكل الاجتماعية القبلية المتوارثة. ولهذا، نجدهم منسجمين جدًا مع جمالية هكذا نداءات ومناشدات. ربما يكونون قادرين على قراءة قوائم وكتيبات، لكن الثقافة الحقيقية العميقة ما زالت نادرة نسبيًا في العالم العربي الإسلامي، كما أن المعرفة العميقة في اللغة العربية وغيرها من لغات الشرق الأوسط لا تزال نادرة في صفوف أولئك الذين يعيشون المجتمعات ذات الأقلية المسلمة، مثل المجتمعات الأوروبية.
بالنسبة لمجتمعات الأقليات المسلمة في أوروبا، القارة المستهدفة من قبل الإرهاب السلفي، فقد أوضح أوليفر روي وآخرون أن ذلك النوع من الناس –معظمهم من الذكور المسلمين غير المتزوجين– الذين اعتنقوا الإرهاب السلفي، لا يعتبرون جزءًا من شبكات الأسرة التقليدية المسلمة، ولا يتلقون عادة تعليمًا على مستوى المدارس الدينية حول الثقافات الدينية الخاصة بهم.
ولذلك، نراهم ينجذبون إلى النداءات الأصولية الجديدة، باعتبارهم لاجئين من الخلل الاجتماعي المحيط بهم. قد يكون أو لا يكون لديهم سمات شخصية تجعلهم عرضة للاستهداف، والوقوع فريسة في شباك سلطة الآخرين الاجتماعية الكاريزمية، لكن من الواضح أنهم يتعرضون لـ”صدمة” دون وجود عازل صدمات، ذلك العازل الذي يعمل على تخفيف حدة الصدمة، الذي يقي من طرق التفكير والسلوك المتناقضة مع تنشئتهم الاجتماعية المبكرة، سواء كان ذلك في الشرق الأوسط، أو في أحضان آبائهم المهاجرين في أوروبا. وعلى هذا النحو، ربما يجدون أنفسهم بين عوالم عدة، مرتبكين، منعزلين عن العائلة، يشعرون بالوحدة، ولذلك، لا بد من أخذ ما يلي بعين الاعتبار:
لدى كل عصر، وثقافة، وعادة، وتقليد، طابع خاص بكل واحد منها. لكل منها نقاط قوة ونقاط ضعف، وأوجه جمال وأوجه قبح. كل واحدة منها تقبل بوجود أوجه معاناة، وتتعامل مع بعض الشرور بصبر وهدوء. في الواقع، تهبط حياة الإنسان إلى معاناة حقيقية، بل إلى الجحيم، عندما يتداخل عصران اجتماعيان ببعضهما البعض. في الحقيقة، هنالك أوقات يسقط فيها جيل كامل في هذا الطريق، بين عمرين أو نمطين من أنماط الحياة، ونتيجة لذلك، نراه يفقد كل القدرة على إدراك وفهم ما يحيط به.
المجتمع أكثر قوة في “ما قبل الحداثة”
قد يكون من الصعب، وربما من المستحيل، إجراء تحسينات على تلك الكلمات من أجل تقديم شرح عام لما يعيشه العرب المسلمون اليوم، سواء في منطقة الشرق الأوسط، أو في أوروبا على وجه الخصوص – كلمات كتبت عام 1927 من قبل هيرمان هيس في “ستيبينوولف”، في وصف معاناة جيل ما بعد الحرب العالمية في أوروبا. إن الصدى القوي الذي نسمعه اليوم في تلك المعاناة كافٍ للتأكيد على حقيقة أن الطاقة الكامنة وراء العنف السياسي لا تقتصر على أية جماعة عرقية أو دينية بعينها. كما تؤكد كذلك على نوعية الظروف غير المستقرة، التي تكون فيها جاذبية السلطة الكاريزمية أقوى من أي شيء آخر.
يمكن للأسلوب الكاريزمي الجذاب –الهادف إلى تحقيق سلطة على الآخرين- أن يعمل في أي هيكل اجتماعي، أو أية ثقافة، خصوصًا عند توفر ظروف غير عادية واستثنائية. لكنه يعمل بشكل أكثر فعالية وسهولة على المستهدفين المجردين من الثقافة والتعليم العميقين، لا سيما أولئك المنقطعين عن السلطة التقليدية، وعن مرتكزات الأساليب التعليمية المرتبطة بالعائلة. يعمل الأسلوب الكاريزمي الجذاب على أفضل نحو على أولئك الذين يشعرون بالانعزال، والتمييز (سواء كان ذلك حقيقة أو مجرد أوهام)، والمنزلة الاجتماعية المتهاوية، فضلًا عن الشعور المتكرر بالذنب الجنسي والإحباط.
اقرأ أيضًا: دعاية المتطرفين.. هكذا عرفنا المستقبل بصحبتهم
علاوة على ذلك، يشعر أولئك الذين ينتمون إلى البنى الاجتماعية في “ما قبل الحداثة” بالضعف الفردي، وعادة ما يشعرون بقوة المجتمع أكثر من قوتهم الباطنية. إن التسلسل الهرمي للسلطة، في المجتمعات القبلية والمجتمعات الموروثة في الشرق الأوسط، لا يشجع الشباب الذكور المهمشين اجتماعيًا على تكوين أو إبداء آراء خاصة حول المسائل السياسية والدينية، وهذا ينطبق أيضًا على النساء في غالبية المجتمعات. ليس من المفترض أن يمتلك هؤلاء الأشخاص أفكارًا خاصة بهم، ولذلك، من شأن أساليب التعليم التقليدي -التي تهيمن على معظم المجتمعات الإسلامية حتى هذا اليوم، التي نادرًا ما تعلم مهارات التفكير النقدي- أن تحوّل الجنوح والاستبعاد إلى واقع.
عندما يجري زج هكذا أفراد في مواقف اجتماعية -تنطوي على القوة الفردية والسلوك الواضح- فإنهم غالبًا ما يعانون من الاختلاج الإدراكي، والشلل التفكيري. وبالتالي، يذهب الكثير منهم للبحث عن أشخاص يستطيعون منحهم الآراء التي من المفترض أن يمتلكوها، حسبما طلب منهم الآخرون. ومن أجل العثور على هكذا أشخاص، فإنهم يبحثون عن أب بديل أو شيخ –شبكات قربى افتراضية مرتبطة بهم– مثل تلك الشبكات التي كانوا يعرفونها من قبل. ومن المعتاد أن يرغب هؤلاء الأفراد في تسليم القوة إلى الآخرين، من أجل التخلص من مسؤولية الاختيار. نحن نميل إلى تركيز الملاحظات التحليلية على القادة، ولكن، من الحكمة أن نبحث عن فهم أفضل للأتباع والمناصرين، الذين بدونهم، سيصبح القادة عاطلون عن العمل.

هؤلاء الباحثون الشباب في الغالب عبارة عن شخصيات موجهة بقوة من أجل استخدام اللغة المشهورة في كتاب “الحشد الوحيد” (1961)، لا سيما أن ثقافتهم والبنية الاجتماعية المصاحبة لها ساعدت بقوة في جعلهم بهذا الشكل. وهذا هو السبب الذي يوفر لأصحاب الكاريزما من الوعاظ في المساجد الأوروبية الكثير من فرص التجنيد في صفوف الشباب. ولذلك، نرى المستهدفين يأتون بأعداد هائلة، بأرواح محروقة إن جاز التعبير، وبيأس كبير، يبحثون عن الهوية، وعن المجتمع، وعن الهدف. وبعد ذلك، وبمجرد اصطيادهم، تبدأ الضغوط الممارسة عليهم بتحقيق فعالية كبيرة، مستبعدة أي أفكار متنافرة.
الإنترنت: أداة تجنيد
ولكن حتى في غياب مجتمع واقعي من المؤمنين بالتبشير، فإن الإنترنت -كما يقول ساغمان- أداة تجنيد قوية جدًا للتطرف والعنف داخل البلدان الغربية. غرف الدردشة والاتصال عبر الإنترنت لا تقتصر على إنشاء مجتمعات افتراضية، يمكن اللجوء إليها في حال تعذر إنشاء مجتمعات واقعية، بل كذلك توفر بيئة رئيسة لا يمكن التطفل عليها أو تتبع عمليات الإرسال فيها.
في البيئة الاجتماعية العادية، نادرًا ما يستطيع رواد التطرف الاستفراد بالمساحة المعرفية الخاصة بمستهدف ما، أو الخاصة بمجند محتمل. في اللقاءات الاجتماعية التي تجري وجهًا لوجه، غالبًا ما يجري استخدام إشارات متنوعة باتجاهات مختلفة، وفي تلك الحالة، تعبّر الأطراف الخارجية عن شكها، وتبدأ بطرح العديد من الأسئلة. يمكن لفقاعات الحماسة التي يستحضرها رواد التطرف أن تكون مندفعة جدًا، لكن ليس في الاتصالات عبر الإنترنت، نظرًا لطبيعتها كاتصالات مغلقة وخفية.
نعم، يمكن للصور المصاحبة لكلمات صادرة عن شخصية كاريزمية أن تكون قوية وساحرة جدًا، تمامًا مثل المنوم أو المغناطيس. نعلم جميعنا أن الصور أفضل من التحليل العقلاني في ممارسة التأثير على الآخرين. ولكن في الوقت ذاته، يبرع رواد السلفية في زراعة رسائلهم لتتناسب مع قابلية التأثير بالأسلوب الكاريزمي.
لدى المجتمعات الغربية إرهابيون محليون بالطبع، وهنالك أمثلة تتبادر إلى الذهن حول دول يكثر فيها الإرهاب المحلي، تشمل جزيرة تاسمانيا، والنرويج، وإيرلندا الشمالية، وإسبانيا، وألمانيا، والولايات المتحدة.
نعم، نرى في الولايات المتحدة هجمات ذئب منفرد إسلامية، وعنف مستوحى من الإنترنت، وحدث هذا في ولايات مثل فورت هود، سان برناردينو، بوسطن، أورلاندو. لكننا شهدنا كذلك نوبات من الإرهاب المحلي، لا علاقة لها بالإسلام بأي شكل من الأشكال، تشمل غارة جون براون على بلدة هاربر فيري عام 1859، وهذا مثال تاريخي على الإرهاب المحلي الداخلي، وليس هناك شك موضوعي في ذلك. وفي الآونة الأخيرة، حصلت العديد من الحوادث الإرهابية المحلية مثل مطلق النار في باركلاند، ومطلق النار في فلوريدا، ومطلق النار في لاس فيغاس، ومطلق النار في مدرسة ساندي هوك الابتدائية، وغيرها من الهجمات.
اقرأ أيضًا: جرائم السلاح في الولايات المتحدة دون رادع قانوني
لقد عانينا كذلك من حلقات انتحار مفجعة، وليست مجرد حالات قتل بسيطة، وهذا يشمل حالة جيم جونز الشهيرة، وكذلك بعض الحالات الأخرى المحاطة بالغموض، مثل انتحار باب السماء الجماعي.
ولكن، لننظر بعناية إلى ما يلي: لم يقم أحد بتجنيد هؤلاء القتلة، ولم تتلاعب بهم شخصية كاريزمية، ولم يقنعهم أحد بفعل أي شيء، ولم يرسل لهم أحد أي شريط كاسيت أو روابط عبر الإنترنت. ولا يوجد ما يدل على أن أيًا منهم حصل على توجيهات خارجية. جميع الأدلة تشير إلى أنهم أفراد موجهون من تلقاء أنفسهم وغير مرتبطين بأية مجموعة، كما أن جميعهم يتمتعون بتعليم عميق. إن الفوارق بينهم وبين الإرهابيين الإسلاميين المتطرفين، في المنطقة وفي أوروبا، بالكاد واضحة.
هذا يعني شيئًا ما. وبشكل مختصر، هذا يعني أن أساليب الإقناع والتلاعب الممارسة من قبل رواد التطرف تميل إلى العمل بشكل أفضل عندما تتلاقى مع أشكال السلطة السائدة في بيئة اجتماعية تناسب أهدافهم. الأساليب الكاريزمية لا تعمل بشكل جيد على الغربيين من الأفراد المثقفين الذين يتمتعون بقوة باطنية، إلا في ظروف غير اعتيادية للغاية، أي عندما تفتح الجحيم أبوابها، مثل الظروف التي أعقبت “ستيبن وولف” في جمهورية فايمار، التي مكنت من صعود النازيين.
وعلى المنوال ذاته، الأساليب القانونية العقلانية النصية لا تعمل بشكل جيد على المجتمعات القبلية الموروثة في الشرق الأوسط، وعلى الشعوب الأخرى المرتبطة بالهياكل الموروثة والهياكل الاجتماعية القبلية.

هنالك دلالة واحدة على الأقل، من الدلالات الواضحة، التي يمكن تقديمها لصناع السياسات الغربيين: تجنبوا المغالطة في جهود مكافحة الإرهاب. إن مراكز المراسلة الحكومية –التي تركز على النصوص المراد كتابتها، ثم ترجمتها، ثم نقلها بطريقة أو بأخرى إلى مروجي العنف في المنطقة- لن تثمر ولن تفلح على الإطلاق. الإرهابيون من العوام لا يجندون أنفسهم من خلال قراءة مقالات سيد قطب باللغة العربية الأدبية. إنها ليست الطريقة المناسبة لمحاربة ما يسمى حرب الأفكار.
هنالك كذلك العديد من الدلالات العملية التي يمكن استنباطها من هذا التحليل. تشير إحدى هذه الدلالات إلى أن التعرض للشخصيات الكاريزمية -حتى لو جرى ذلك من خلال التلفاز أو الإنترنت– يؤدي إلى إثارة ردود فعل نفسية شبيهة بتفاعلات الإدمان على تجارب معينة، مثل المقامرة، والجنس، وقطار الملاهي، والرياضة المتطرفة، وغيرها. لندع هذه الدلائل تنتظر وظائفها المستقبلية.
المصدر: عين أوروبية على التطرف