الواجهة الرئيسيةترجماتشؤون دولية

كيف يمكن أن تؤثر الكاريزما على الإرهاب والتطرف؟ (1/2)

التأثر بالشخصيات الكاريزمية قد يكون سببًا في التوجه نحو الإرهاب

كيوبوست- ترجمات

من مجلة “عين أوروبية على التطرف”، بقلم آدم جارفينكل، مؤلف أكاديمي أمريكي معروف، مؤسس مجلة “ذي أميركان إنترست” الأمريكية.

الجزء الأول:

إن أشكال السلطة الاجتماعية القادرة على تحفيز الأفراد على الانخراط في أعمال عنف وإرهاب ليست ثابتة في جميع المجتمعات. فمن شأن البنى الاجتماعية المختلفة، فضلًا عن الثقافات المرتبطة بها، أن تؤثر على أساليب الإقناع والتلاعب، التي تساعد في توليد أسوأ أنواع السلوك، بأفضل وجه ممكن.

ينهمك اليوم جيل كامل من الباحثين ومحللي السياسات في محاولة فهم الأسباب التي تدفع البعض إلى التطرف السياسي، إلى درجة الاستعداد للانخراط في أعمال عنف، أو حتى الاستعداد للانخراط في أعمال إرهابية. وخلال السنوات الـ17 الأخيرة -منذ هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001- انتشرت الكثير من النظريات المستندة إلى أصول تهذيبية متنوعة، وهي كافية لملء مكتبات بأكملها، لكنها لم تسفر سوى عن حالة تفكير مترامية الأطراف، فقد بات من المستحيل فهم المؤلفات الموجودة بشكل عميق.

هجمات 11 سبتمبر 2001- أرشيف

وبرغم كل هذه الجهود والمؤلفات، ليس هنالك توافق في الآراء حول نموذج توضيحي شامل، قوي بما فيه الكفاية لتوجيه صناع القرار بمختلف المستويات، وفي مختلف البلدان.

من شأن استعراض مثال واحد أن يبين لنا المشكلة العملية في هذا السياق. قبل عقد من الزمان، طرح الطبيب النفسي الأمريكي، المسؤول السابق في المخابرات المركزية الأمريكية، المؤلف د. مارك ساغمان نظرية “الجهاد بلا قيادة”. استعرضت النظرية عملية من 4 خطوات، تبيّن كيفية حصول التطرف. كما شددت النظرية على الدور الجديد للإنترنت، باعتباره نظامًا فعالًا للتعبئة الاجتماعية. وقد رفض ساغمان في نظريته جميع الميول الهيكلية، أو الحجج الحتمية، وبالتحديد، الادعاء بأن الإرهاب ناتج عن عيوب المجتمع الأكبر، أو عيوب النظام العالمي، أو عيوب سمات شخصية ميالة للإرهاب، وهذه هي الاتجاهات التي شاعت في الأيام الأولى بعد هجمات أيلول/سبتمبر.

إلا أن خبير شؤون الإرهاب، البروفيسور بروس هوفمان، انتقد ساغمان لتضخيمه تأثير الإنترنت، وتخفيض الدور المركزي المستمر للمنظمات الإرهابية الهرمية مثل تنظيم القاعدة. ثم ناقش الاثنان المسألة، وانضم آخرون للنقاش، لكن البعض انتقد ساغمان لعدم منح الإنترنت دورًا أكبر في التأثير في عملية التطرف (لأنه قلل من دور الصور كمحفزات عاطفية). ساعدت تلك المناقشة في توضيح خطوط الخلاف، وتوليد أسئلة أفضل، لكنها لم تقدم الكثير من المساعدة لصناع السياسات رفيعي المستوى، أو للمسؤولين عن الأمن الداخلي وإنفاذ القانون، في مسائل تتعلق بكيفية توزيع مواردهم واهتماماتهم.

اقرأ أيضًا: معظم الإرهابيين المدانين تحولوا إلى التطرف عبر الإنترنت

وكما لوحظ في مقال سابق، ترك الاختصام ميراثًا من الفوارق السياقية بين البلدان المستهدفة من قبل التنظيمات الإرهابية. تلك الفوارق تمثل الجهود الذي تبذلها السلطات الوطنية في تعاملها مع مشاكلها المتباينة. على سبيل المثال، يميل الأمريكيون إلى التركيز على قوة الأفكار الدينية، ويقللون من شأن الديناميكيات الاجتماعية الأقل وضوحًا، أما السلطات الأوروبية، فتهمل التفكير الديني، وتركز على الأبعاد الاجتماعية كأفكار محفزة بجميع أنواعها.

دور السلطة في تحفيز الانخراط في العنف 

إن تحليل العنف السياسي والإرهاب ليس من عملي اليوم، وأنا لا أدعي إدراك الجزء الأكبر من المؤلفات حول هذا الموضوع. لكن الإبداع في العلوم غالبًا ما يقع على عاتق من هم على دراية بالأصول المنهجية الحديثة. قد يحتوي منهجي على ميزات، وربما على سلبيات كذلك، ولذلك، آمل أن أتخطى معظم الأدبيات الخاصة بالإرهاب، وأن أقدم اقتراحًا جديرًا بالاعتبار.

جوهر الاقتراح هو أن أشكال السلطة الاجتماعية القادرة على تحفيز الأفراد على الانخراط في أعمال عنف وإرهاب ليست ثابتة في جميع المجتمعات. فمن شأن البنى الاجتماعية المختلفة، فضلًا عن الثقافات المرتبطة بها، أن تؤثر على أساليب الإقناع والتلاعب التي تساعد في توليد أسوأ أنواع السلوك، وبأفضل وجه ممكن.

ومن أجل التخصيص، يمكن للسلطة الكاريزمية أن تحقق فاعلية في التحفيز أو التلاعب في سلوك الأفراد الذين ترعرعوا في مجتمعات ذات هياكل اجتماعية قبلية متوارثة، أكبر من فاعليتها في المجتمعات الحديثة التي تسيطر فيها السلطة الرسمية ويتلاشى فيها الطابع الشخصي. والأهم من ذلك، فإن السلطة الكاريزمية فعالة بشكل خاص عندما تتراجع أو تنهار السلطة التقليدية.

سيلاحظ دارسو علم السلوك الاجتماعي أننا نستحضر ماكس فيبر حتى دون ذكر اسمه. ففي مؤلفه الشهير “السياسة كمهنة” لعام 1919، ميّز فيبر بين 3 أنواع من السلطة الاجتماعية: السلطة القانونية العقلانية، والسلطة التقليدية، والسلطة الكاريزمية. وأشار فيبر إلى 3 أنظمة للتوصيل الاجتماعي، تعمل على إقناع الشباب على وجه التحديد بالاعتراف بسلطة كبار السنّ والشيوخ: المكانة، والمعرفة، والمنزلة الاجتماعية. يمكن لهذه الأنظمة الثلاثة أن تعمل مع أنواع السلطة الثلاثة، ولكن ليس بالنسب نفسها.

عناصر إرهابية- أرشيف

السلطة هي الاستخدام المعتمد اجتماعيًا للقوة، على شكل قواعد اجتماعية متداولة. بعبارة أخرى، هي قوة خارقة اكتسبت شرعيتها في مجتمع كامل، يجري ممارستها بشكل غير مباشر وبشكل غير متساو. إن وضع القواعد وتطبيقها أمر موجود في كل مجتمع بشري، وهو ما يساهم جزئيًا في تعريفنا كمخلوقات اجتماعية. وفي هذا السياق، لا يمكن لكل ميل اجتماعي أن يتحول مع الوقت إلى نزاع، ولا يمكن كذلك القول إن مجموعة ما ستتوقف عن الوجود نتيجة لتلك النزعات. وبالتالي، فإن قواعد الانضباط تعمل كوظائف اجتماعية، يجري تعميمها على السلطة الاجتماعية.

كانت السلطة القانونية العقلانية هي الشكل المهيمن في الدول الغربية المتقدمة في عصر ماكس فيبر. وقد ارتبطت تلك السلطة ببيروقراطيات الأمم الحديثة وبحكومات الدول. في المقابل، احتاجت الدول إلى براعة تجريدية من أجل خلق شعور بالوحدة الاجتماعية، علمًا بأن الغالبية العظمى من الناس لم تكن تنظر إلى بعضها البعض من منظور المقارنة، برغم أن غالبية المجتمعات الأوروبية الحديثة في ذلك الوقت تألفت من عائلات ممتدة كبيرة. وقد تحققت البراعة التجريدية آن ذاك في إطار التثقيف الشامل، وهي حقيقة اجتماعية تاريخية هامة، لكن غالبًا ما يتم تجاهلها. مكنت تلك البراعة من بث شعور القوة في صفوف الأفراد؛ ذاك الشعور القوي الذي يطلق عليه بعض علماء النفس اسم “قوة الباطن”.

كما يأتي مع هذه البراعة مفهوم نمطي للأدوار الاجتماعية: يمكن ربط الرجل بعائلة، ولكن أيضًا بمهنة، وطبقة اجتماعية، وحتى بمجتمع ديني مختلف عن مجتمع والديه. لقد كانت المعرفة المتخصصة في المجتمعات ذات السلطة القانونية العقلانية أكثر أهمية من المكانة الشخصية أو المنزلة الاجتماعية فيما يتعلق بوسائل الإقناع.

اقرأ أيضًا: إعادة صياغة النقاش حول مكافحة الإرهاب والتطرف العنيف

السلطة التقليدية في مواجهة السلطة القانونية

السلطة التقليدية هي القوة التي حصلت على شرعيتها من خلال قوالب ثقافية طويلة الأمد، ذات أصول دينية بحتة، أو ذات منابت مغلفة بالدين، تتوافق مع بنية اجتماعية تشمل أعدادًا أصغر من الناس المرتبطين ضمن عائلة أو عشيرة موسعة جينيًا. وهكذا، ترتبط السلطة التقليدية بمجموعات إثنية لغوية أو عرقية (غالبًا ما تتداخل مع جماعات طائفية)، وترتبط حتى بالمجموعات الحديثة التي تشكل اليوم مجتمعات متداخلة في دول حديثة.

ولذلك، تسود وتهيمن السلطة التقليدية –على سبيل المثال– على “إمارات” المسلمين في شمال نيجيريا، في ظل وجود “رجال كبار” وشبكات الحماية والمحسوبية، بعيدًا عن السلطة القانونية العقلانية للدولة النيجيرية.

تكون مستويات التثقيف العميق في مجتمعات السلطة التقليدية أقل من نظيرتها في مجتمعات السلطة القانونية العقلانية، كما تكون البراعة المجردة أقل قوة فيها، حيث يجري استبعاد الفعالية السحرية، ويكون نطاق الهويات النمطية أضيق كذلك.

في المجتمعات التي تسود فيها السلطة التقليدية، غالبًا ما يجري تعريف البنية الاجتماعية المتوارثة من خلال الذرية والنسل، حيث يسود فيها الزواج اللحمي، أو الزواج بين الأقارب. في هكذا مجتمعات، تكون المنزلة الاجتماعية أكثر أهمية من المعرفة المتخصصة كوسيلة للإقناع.

عناصر متطرفة- أرشيف

السلطة من خلال الكاريزما

وكما يصفها ماكس فيبر، السلطة الكاريزمية هي السلطة التي تحصل على شرعيتها من خلال شخصيات غير اعتيادية واستثنائية وخارقة للعادة، قادرة على إلهام الولاء والطاعة في صفوف أفراد المجتمع ككل.

ونظرًا للمحددات الفيزيائية التي تحدّ من قدرة الإقناع الشخصية، لا سيما في تلك الظروف التي سبقت الحداثة والتكنولوجيا، اقتصرت السلطة الكاريزمية آن ذلك على مجموعات صغيرة لا تشكل دولة حديثة أو حتى مجموعة عرقية. في ذلك الوقت، لم يتمكن الأفراد الجذابون سوى من الصراخ بصوت عال لجذب انتباه من في المكان فحسب.

هذه السلطة الكاريزمية تتوافق بشكل أفضل مع البنى الاجتماعية القبلية. وفي هكذا مجتمعات، تكون المكانة الشخصية أكثر أهمية من المعرفة المتخصصة والمنزلة الاجتماعية من ناحية القدرة على الإقناع.

تزدهر السلطة الكاريزمية بشكل سلس في البيئات ذات الطابع المؤسسي، المتصفة بهياكل اجتماعية غير متخصصة (وأيضًا في البيئات المنزوعة عن الهياكل المؤسسية، كما سنرى فيما بعد). ارتبطت الشخصيات الكاريزمية بشكل وثيق بالسحرة في الماضي، في مجتمعات ما قبل الحداثة، التي اتسمت بالوعي الأسطوري، أو الخرافي. وارتبطت الكاريزما كذلك بمجموعة من الشخصيات المعتبرة، التي برزت خلال عملية التحول الاجتماعي باتجاه السلطة التقليدية، التي امتازت بالانتقال التدريجي من الخرافة إلى الدين. فما الفرق بينهما؟

بين الأسطورة والدين

يتساوى الوعي الأسطوري مع مفاهيم روحانية عالمية، في عالم مغمور بالسحر، وبعاطفة صلة الدم والقرابة، كما يتحرك من خلال قانون التحول، الذي يمكن خلاله لأيّ شيء أن يتحول إلى أيّ شيء آخر. في هكذا عالم، تكون الآلهة ملازمة للبشر، بل بينهم، وليس متعالية أو أبعد من مدى تجربة الإنسان الفيزيائية. في هكذا عالم، تسود كلمة سحر. وفي هكذا معتقد، فإن معرفة اسم شيء ما تمنح الفرد القوة على ذلك الشيء المسمى.

في هكذا عالم، تكون القوة شخصية للغاية، إذ يجري استنساخ السلطة لمنح الفرد دور المهيمن. في هكذا عالم، لا يجري تمييز النظام الاجتماعي بدرجة كبيرة، لأن التخصص في العمل محدود للغاية. في هكذا عالم، تُمارس السلطة فقط من خلال قوة اللغة الشفوية، وتكون لغة لاذعة وغامضة في غالب الأحيان في طريقة التقائها مع الأفكار الدينية.

تكون الرواية في هذا العالم مثل الحلم والخيال. في هكذا عالم، يقدّم الرقص والموسيقى وغيرهما من أشكال الفن عناصر تفصيلية لطقوس أسطورية خرافية، مأخوذة من سرد خرافي بحت. وأخيرًا، فإن جمع ما سبق يميز المجتمعات القبلية كما وصفها علماء الأنثروبولوجيا الثقافية.

وعلى الجانب الآخر، يعتمد الدين بشكل مطلق على الكتاب المقدس، لا سيما الدين الإبراهيمي، وغيره من الأديان. في هكذا بيئة، غالبًا ما يجري الحديث عن أمور خارقة ومعجزات، يمكن رؤيتها في كل قصص الكتاب المقدس. في الرواية الواردة في الكتاب المقدس، لا يمكن تحويل شيء إلى شيء آخر حسب أهواء ونزوات شخص ما. هنالك صرامة منطقية متأصلة في السرد، وأيضًا في الطريقة التي يُقرأ بها، وكذلك في الطريقة التي ينقل بها من قبل الأشخاص القادرين على القراءة إلى الأشخاص الذين لا يقرؤون.

هذا النوع من التواصل مغمور بعاطفة كبيرة، لكن المحتوى المعجمي للكتاب المقدس يحدّ من انحراف القوة العاطفية للمفردات. في هكذا بيئة، الروايات لا تتشابه مع الأحلام والخيالات؛ بل تتحدث بقصص متماسكة ومحكمة ومترابطة منطقيًا، تتمحور حول مسائل أخلاقية وسببية قابلة للتعلم. في هكذا بيئة، تكون الفنون الداعمة حاضرة، ولكن بشكل منسلخ عن الطقوس. الدين المكتوب في الكتب المقدسة ليس موجهًا للسحرة، بل للكهنة والأنبياء والرسل. في هكذا بيئة، يكون الإله متعال عن البشر فيزيائيًا، وليس بين البشر، أو داخل الروح ذاتها.

يستطيع الكاهن أو النبي –في ظروف مناسبة– أن يستخدم الكتاب المقدس ودروسه وقواعده وطقوسه من أجل الوصول إلى ما وراء المجموعة الصغيرة من العشيرة أو القبيلة الأكبر. وعندما يحدث ذلك، يسود نفوذ السلطة الكاريزمية، ويهيمن على المجموعات الأكبر حتى لو كان ذلك بشكل مؤقت، فالأمر يعتمد على أساليب النقل المتاحة. يمكن لهذا التأثير أن يبقى طالما بقي صاحب الكاريزما على قيد الحياة. وبعد ذلك، يتبخر التأثير، إما بسرعة أو ببطء، أو يكتسب الطابع المؤسسي عبر الوقت، وعند هذه النقطة، تتحول السلطة الكاريزمية إلى سلطة تقليدية مغروسة بشكل عام في الثقافة الدينية المتوارثة.

يمكن تجسيد الحالة الأولى في “جيش الرب”، الذي قاده جوزيف كوني في أوغندا، والذي فشل في إضفاء الطابع المؤسسي على جيشه. ويمكن تجسيد الحالة الثانية في عقيدة وليام ميلر الفريدة لعام 1830، الذي تمكن بمساعدة تابعيه من إضفاء الطابع المؤسسي على أنفسهم، من خلال تأسيس طائفة “الأدفنتست السبتيين”. ربما ساهمت الهياكل الاجتماعية المختلفة في منتصف القرن التاسع عشر (القبلية في أوغندا) و(الحديثة في أميركا) في فشل جوزيف كوني في إضفاء الطابع المؤسسي على جيشه، وفي نجاح ميلر في تحقيق ذلك.

اقرأ أيضًا: كيف يسهم التنافر المعرفي في التطرف العنيف؟

ومن أجل أن تتمكن المؤسسات من الظهور والبقاء، عليها أن تتوافق مع المواقف في رؤوس الناس: إذا كان النظام الاجتماعي الأوسع يوفر دلالات ثقافية مؤسسية، سيجد الناس محفزًا من أجل إضفاء الطابع المؤسساتي على مشروعهم الاجتماعي. وفي هذا السياق، ستظهر نماذج تبين كيفية القيام بذلك. وإذا لم يكن الأمر كذلك، فإن الابتكار المؤسسي سيصبح أكثر صعوبة وأقل قابلية للتحقيق.

من الأسطورة إلى الدين

هذه الحركة الانتقالية من الأسطورة إلى الدين، كما هو محدد هنا، تُميّز تاريخ الإسلام منذ بداياته. لقد كان (النبي) محمد شخصية قبلية كاريزمية، تمكن من إيصال رسالته، واستطاع تحقيق قوة وسلطة عابرتين للقبائل. ويرجع ذلك جزئيًا إلى أن سياقه الاجتماعي في القرن السابع، في الجزيرة العربية، مثّل نقطة مفصلية بين الثقافات الشفوية والثقافات المكتوبة، فضلًا عن السياق المادي الذي اندمجت فيه الهياكل الاجتماعية القبلية الأصغر حجمًا مع الهياكل العرقية المتوارثة الكبيرة، في الوقت الذي اعتمدت فيه البيئة الحجازية على تجارة القوافل المزدهرة.

تمكن (النبي) محمد من توحيد معظم القبائل المتشاحنة في الجزيرة العربية من خلال قوة الرواية الإبراهيمية، كما استخدم سلطته الكاريزمية لتعزيز وتغذية ما وصفه أنتوني والاس بـ”الحركة التنشيطية” – أو ما يطلق عليه الجميع اسم الإسلام. ومع تمرير السلطة لأبي بكر والخلفاء اللاحقين، جرى تأطير السلطة الكاريزمية في سلطة تقليدية، وبعبارة أخرى، سلطة متضمنة في ثقافة، أي ثقافة دينية متغيرة بشكل كبير.

هذا النمط الأساسي تكرر لفترة طويلة بعد أن غاب (النبي) محمد عن المشهد. لنأخذ بعض الأمثلة المعروفة فقط، من بينها الزعيم الكاريزمي [محمد] بن تومرت، مؤسس الحركة الموحدية في القرن الثاني عشر، والحركة المهدية في أواخر القرن التاسع عشر في السودان (محمد أحمد بن عبد الله)، وحركة السانوسية في أوائل القرن العشرين في ليبيا (محمد بن علي السنوسي)، وأيضًا تنظيم القاعدة (أسامة بن لادن)، والدولة الإسلامية (إبراهيم عواد إبراهيم علي البدري) اللتان ظهرتا في الآونة الأخيرة.

انطلقت جميع هذه الحركات -والعديد من الحركات الأخرى التي يمكن الاستشهاد بها داخل المجتمعات الطائفية السنية، والمجتمعات القائمة على البدعة- في سياق قبلي، وتوسعت تدريجيًا من أجل نشر السلطة الكاريزمية إلى مجموعات أكبر، بغرض إضفاء الطابع المؤسسي عليها في نهاية المطاف، أو تحولها إلى سلطة تقليدية إن فشلت في تحقيق ذلك، أو الانصهار في سلطة تقليدية قائمة، كل ذلك يحدث بمجرد غياب الشخصية الكاريزمية عن المشهد.

من القبلي إلى العرقي

إن الانتقال من المستوى القبلي (السلطة الكاريزمية) إلى المستوى العرقي (السلطة التقليدية) ينطبق على كل قارة مأهولة، وعلى كل مجتمع ديني، وليس على العرب والمسلمين فحسب. على سبيل المثال، اعتمد نموذج التعبئة السياسية وبناء الهوية في جنوب الصحراء الإفريقية –ما بعد الاستقلال- على شخصيات قبلية كاريزمية، مثل كوامي نكروما (أكان)، وجومو كينياتا (كيكويو)، وجوليوس نيريري (زانكي). وقد تمكن أولئك من توسيع سلطتهم الشخصية إلى مستويات أكبر، على مستوى العرق والولاية. كانت المجتمعات آن ذاك قبلية -في مرحلة ما- من ناحية البنية الاجتماعية. ولكن مع مرور الوقت، أصبحت تقليدية عرقية، وبعضها تحول إلى النمط الحديث.

وفي سياق هذه الهياكل الاجتماعية، يمكن للسلطة الكاريزمية أن تنشأ في أي مكان توفرت فيه وسائل الاتصال. في الواقع، جميع النماذج الواردة في إطار الحركة الدينية القديمة (التي سبقت الألفية) انطوت في مرحلة ما على قذف السلطة الكاريزمية إلى المجال الاجتماعي الأوسع. وفيما يلي قائمة مختصرة: قاد شمعون بار كوخبا اليهود المتحمسين في القرن الثاني ضد الاحتلال الروماني، بمساعدة الحاخام أكيفا، وقد فعل ذلك على غرار نموذج المكابيين الذين قادوا ثورة ناجحة ضد اليونانيين السلوقيين قبل ذلك بحوالي 300 عام.

وقاد الإمبراطور الصيني زهو يوانزهانغ تمرد العمامة الحمراء في مجتمع “وايت لوتس” ضد سلسلة المغول في القرن الرابع عشر. وقاد توماس مونتزر ثورة الفلاحين عام 1525 فيما يعرف اليوم باسم ألمانيا. وأثار هونغ أكزوكوان تمرد تايبينغ في منتصف القرن التاسع عشر في الصين. وقاد وفوكا “الشبح” الأمريكي الأصلي أو “رقصات الروح” في الوقت ذاته تقريبًا. وباستثناء جزئي لـ”وفوكا” و”راقصي الأشباح”، لم تنشأ أي من هذه الحلقات داخل بنية اجتماعية قبلية.

المصدر: عين أوروبية على التطرف

اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

مقالات ذات صلة