الواجهة الرئيسيةترجماتثقافة ومعرفة

كيف يساعد المشي على التفكير؟

ربما تكشف العلاقة الأكثر عمقاً بين المشي والتفكير والكتابة عن نفسها في نهاية النزهة عند العودة إلى المكتب، حيث يتضح أن الكتابة والمشي هي أنشطة متشابهة للغاية جسدياً وذهنيا.

كيوبوست- ترجمات

قال فارس جبر، في مقالٍ كتبه في “نيويوركر”، إن العديد من الكتّاب اكتشفوا وجود علاقة عميقة بين المشي والتفكير والكتابة، حيث يعود ذلك إلى زمن الفلاسفة اليونانيين المتجولين. ونقل عن ديفيد هنري ثورو قوله: “أعتقد أنه في اللحظة التي تبدأ فيها ساقاي بالحركة، تبدأ أفكاري في التدفق”. فيما يقول توماس ديكوينسي إن الشاعر ويليام ووردزورث -الذي يفيض شعره بالسير في الجبال والغابات والطرق العامة- قد سار في حياته مسافة نحو 290 ألف كيلومتر. فما الذي يجعل المشي يحفز التفكير والكتابة؟

تبدأ الإجابة بالتغييرات في الكيمياء. فعند السير في نزهةٍ على الأقدام تتسارع ضربات القلب، ويضخ كمية أكبر من الأوكسجين، ليس فقط إلى العضلات، بل إلى جميع الأعضاء بما في ذلك الدماغ أيضاً، مما يحسِّن من أداء الذاكرة والتركيز. كما أن ممارسة المشي بانتظام تعزِّز الروابط الجديدة بين خلايا الدماغ، وتقي من الذبول المعتاد لأنسجته مع التقدم بالسن، وتزيد من حجم المنطقة المخصصة للذاكرة فيه، وترفع مستوى الجزيئات التي تحفز نمو الخلايا العصبية الجديدة، ونقل الرسائل فيما بينها.

وقد تبين أن الطريقة التي نتحرك بها تغير طبيعة تفكيرنا، فالاستماع إلى الأغاني ذات الإيقاع السريع يحفزنا على المشي بشكلٍ أسرع، والمشي السريع يجعلنا نفضِّل الموسيقى ذات الإيقاع السريع. كما أن السائقين الذين يستمعون إلى الموسيقى الصاخبة يميلون إلى القيادة بسرعة، أما المشي على وتيرتنا الخاصة فيخلق ردود فعل حقيقية صادقة بين إيقاع أجسادنا وحالتنا العقلية. إن ردود الفعل هذه لا تحدث عند ممارستنا لأي نوعٍ آخر من أنواع الحركة، فأثناء السير تتأرجح وتيرة أقدامنا بشكلٍ طبيعي مع مزاجنا وإيقاع كلامنا الداخلي، ويمكننا تغيير وتيرة أفكارنا بشكلٍ فعال من خلال تغيير سرعة مشينا.

اقرأ أيضاً: هذه الأسباب ستدفعك إلى المشي يومياً!

ونظراً لعدم الحاجة لتخصيص الكثير من الجهد الواعي لعملية المشي، يبقى دماغنا حراً للتفكير، وإغراقنا بسيلٍ من الصور من مسرح العقل، وهذا هو بالضبط نوع الحالة العقلية التي ربطتها الدراسات بالأفكار المبتكرة وومضات البصيرة.

نُشرت مؤخراً مجموعة من الدراسات للباحثتين ماريلي أوبيزو، ودانييل سوارتز، من جامعة ستانفورد، تقيس بشكلٍ مباشر تأثير المشي في الإبداع. وفي سلسلةٍ من أربع تجارب، طلبت الباحثتان من 176 طالباً جامعياً الخضوع لاختباراتٍ مختلفة للتفكير الإبداعي أثناء الجلوس أو المشي على السير المتحرك أو السير في حرم الجامعة. ومن هذه الاختبارات على سبيل المثال، كان على المشاركين التفكير في استخداماتٍ غير نمطية للأشياء اليومية، مثل زر أو إطار السيارة. فكانت النتيجة في المتوسط أربعة أفكار جديدة أثناء الجلوس، بمقابل ستة أثناء المشي. وفي اختبار آخر نجح 95% من الطلاب الذين كانوا يسيرون في إيجاد استعاراتٍ لغوية فريدة لعبارة ما، بمقابل خمسين في المائة فقط ممن كانوا جالسين.

عرف الفلاسفة اليونانيون أن المشي يحفز تدفق الأفكار- صورة تعبيرية

لكن المشي في الواقع أدَّى إلى تراجع أداء الطلاب في اختبارات تطلبت على سبيل المثال إيجاد كلمة واحدة تجمع معاني ثلاث كلمات. وتبرر أوبيزو هذا التراجع بأنه عند وضع العقل في بحرٍ مُزبد من الأفكار فإن المشي يؤدي إلى نتائج عكسية في حالة التفكير الذي يركز على نقطة واحدة. وتقول: “إذا كنت تبحث عن إجابة واحدة محددة لسؤالٍ محدد، فأنت لا تريد سيلاً من الأفكار المنبثقة”.

كما أن المكان الذي نسير فيه يلعب دوراً مهماً أيضاً. وفي دراسةٍ قام بها مارك بيرمان من جامعة ساوث كارولينا، نجح الطلاب الذين مشوا في حديقة مزهرة بتحسين أدائهم في اختبار الذاكرة أكثر من الطلاب الذين ساروا في شوارع المدينة. وتشير العديد من الدراسات إلى أن السير في الحدائق والمتنزهات والغابات يمكن أن يجدد الموارد العقلية التي تستنفدها البيئات التي صنعها البشر، فالسير في تقاطعٍ مزدحم بالسيارات والمارة واللوحات الإعلانية يشتت انتباهنا، وعلى العكس فإن المشي على ضفة بحيرة مثلاً يسمح لعقلنا بالانجراف بشكلٍ عفوي من تجربةٍ حسية إلى أخرى، من تموجات المياه إلى حفيف القصب مثلاً.

ومع ذلك، فإن مسارات المشاة في المدن يمكن أن توفِّر مزايا فريدة للعقل، فالسير في المدينة يوفر نوعاً من التحفيز الفوري ومجموعة أكثر تنوعاً من الأحاسيس التي يمكن للعقل أن يلعب بها، ولكن إذا كنا أصلاً على شفا الإفراط في التحفيز فمن الأفضل أن نلجأ إلى الطبيعة.

اقرأ أيضاً: كيف يعكس نمط حياتك العمر الفعلي لعقلك؟

ربما تكشف العلاقة الأكثر عمقاً بين المشي والتفكير والكتابة عن نفسها في نهاية النزهة عند العودة إلى المكتب، حيث يتضح أن الكتابة والمشي هي أنشطة متشابهة للغاية جسدياً وذهنياً، فعندما نختار مساراً عبر مدينة أو غابة، يقوم دماغنا بمسح البيئة المحيطة بنا ورسم خريطة ذهنية للعالم المحيط والمسار الذي نتخذه، ويترجم تلك الخريطة إلى سلسلةٍ من الخطوات.

وبالمثل، فإن الكتابة تدفع الدماغ إلى مراجعة منظره الطبيعي ورسم مساره ضمن تلك التضاريس العقلية، ونسخ مسار الأفكار الناتج عن ذلك من خلال توجيه اليد، فالمشي ينظم العالم من حولنا، والكتابة تنظم أفكارنا.

المصدر: نيويوركر

اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات