الواجهة الرئيسيةترجماتشؤون دوليةفيديو غراف
كيف يتخلص أردوغان من النخبة الفكرية في تركيا؟ (فيديوغراف)
الممارسات القمعية تشمل فصل الأكاديميين ومنعهم من السفر ومطاردتهم قضائيًّا

ترجمات-كيوبوست
كان إلهان أوزغل في طريقه من قرية أياس التركية إلى أنقرة، عندما تلقَّى خبر الاستغناء عنه من قِبَل الجامعة. كان الرجل قد أمضى بعض الوقت مع والده العجوز في قريتهما، قبل أن يجلس أمام عجلة القيادة في سيارة من طراز “هوندا سيفيك. وبعد منتصف الليل بقليل وبينما يقود سيارته، تلقَّى مكالمة هاتفية من أحد مساعديه السابقين بالجامعة (إلهان هوكام)، وسمع صوت تلميذه يتحدث إليه مبجلًا ومرتبعًا يقول: “أستاذي يؤسفني أن أبلغك أن اسمك ورد في قائمة المفصولين”.
وصل أوزغل إلى شقته في أنقرة؛ ليجد طفله البالغ من العمر 4 سنوات نائمًا؛ لكن زوجته (إلسين إكتوبارك) لا تزال متيقظةً في حالة من القلق والكآبة، ليتبادلا الأخبار السيئة؛ حيث كانت إلسين قد عملت مع زوجها لسنوات عديدة كأستاذة في الجامعة (جامعة أنقرة) وفي المبنى نفسه (كلية العلوم السياسية) المدعوة بمدرسة مولكاي، وقد تلقَّت قرار الاستغناء عنها هي الأخرى.
في تركيا، كي يحصل المرء على منصب في كلية مولكاي ينبغي أن يكون مواطنًا تركيًّا في الأساس، وبمجرد حصوله على هذا المنصب يتحوَّل إلى شخص ذي مكانة في بلده. وهكذا كان أوزغل أحد المتخصصين الرواد في مجال العلاقات الأمريكية- التركية، كما قام بتأليف وتحرير عدد من الكتب المهمة؛ مثل كتاب “التطلعات المحلية والسياسة الخارجية”، وظل يُدرِّس بنجاح في كلية مولكاي على مدى 30 عامًا، حتى السابع من فبراير 2017، اليوم الذي تلقَّى فيه خبر فصله من الجامعة.
اللافت أن أوزغل ليس هو الحالة الوحيدة التي تعرَّضت للدهس في هذه الأزمة؛ بل تم الاستغناء عن نحو 6000 أكاديمي من بين عدد 15000 شخص تعرضوا للمصير نفسه في تركيا. فعبر هذا التطهير الذي أجراه رجب طيب أردوغان وحلفاؤه في الداخل، خسر الآلاف من الأكاديميين وظائفهم، بينما تم منع بعضهم من السفر ، وأُلغيت جوازات السفر الخاصة بهم. وفي الغالب لم تعد لديهم إمكانية العمل في أية جامعة حكومية أو خاصة مرة أخرى. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ بل تم رفع بعض الدعاوى القضائية في حق البعض الآخر، ويبدو أن هذه الأزمة ستأخذ زمنًا أطول من اللازم؛ حتى يتم نسيان هؤلاء الناس من قِبَل الجماهير.
اقرأ أيضًا: بالأرقام.. هكذا يشدد أردوغان قبضته على تركيا
وعلى الجانب الآخر، لن يتمكن الأكاديميون المقيمون في الخارج من العودة إلى بلادهم مرة أخرى، ومن الطبيعي أن تتركهم هذه القرارات في حالة من التخبُّط يخشون معها الإدلاء بأي تصريحات للصحافة أو إجراء مقابلات مع الإعلام؛ حيث لا يجد المفكر المقيم داخل تركيا نفسه في مأمن من التعرُّض للاعتقال، وبعضهم قد اقتيد إلى السجن بالفعل، كما يمكن الإشارة إلى حالة واحدة على الأقل قامت بالانتحار بسبب ما يحدث. وهناك نحو 90 أكاديميًّا تم فصلهم من جامعة أنقرة وحدها، من بينهم 36 أستاذًا ينتمون إلى كلية مولكاي؛ ما يزيد الشكوك في رغبة القيادة السياسية في استهداف كلية مولكاي أكثر من أي مكان آخر، ضاربةً بعرض الحائط التاريخ الطويل لأهم مدرسة لتدريس العلوم السياسية في تركيا، والتي يبلغ عمرها 160 عامًا!
ولم يعُد يُخفى على أحد الأسباب التي دفعت الحكومات التركية المتعاقبة إلى القيام بهذه الأمور؛ فهي ترغب في العودة بالبلاد إلى حالة من حالات الديمقراطية الزائفة؛ لكن في ما يبدو أن الأتراك لن يتركوا الأمور تسير على هذا النحو، وهو ما بدا ظاهرًا للعيان في الانتخابات المحلية الأخيرة؛ حيث حصل مرشح المعارضة على كرسي إسطنبول، ذاك الذي ظل محجوزًا لحزب العدالة والتنمية على مدى عقدَين متواصلَين. وهكذا تظل الانتخابات الحرة في تركيا في مواجهة دائمة مع الأنظمة المستبدة.
تطهير غير مسبوق للجامعة
تم تأسيس كلية مولكاي في فترة حكم الإمبراطورية العثمانية في المدينة التي عرفت بعد ذلك باسم القسطنطينية؛ حيث كان الهدف من تشييدها هو تدريب المسؤولين الحكوميين والدبلوماسيين على ممارسة السياسة، ثم قام مصطفى كمال أتاتورك مؤسس الجمهورية التركية الحديثة، بنقل الكلية إلى العاصمة الجديدة، آنذاك، (أنقرة). حدث ذلك في عام 1930، وكان المعيار الذي اتّبعه أتاتورك في اختيار أساتذة الكلية عمليًّا ورمزيًّا في الوقت نفسه، فقد كان يدرك أن انهيار الإمبراطورية العثمانية وإنشاء دولة جديدة يتطلب رجال دولة من نوع مختلف؛ أي سياسيين ذوي اتجاهات علمانية وقومية مخلصة، هذا إلى جانب ميولهم إلى تحديث الدولة الناشئة.

ومع مرور الوقت، تحوَّلت كلية مولكاي إلى محرك رئيسي للحياة الفكرية والسياسية في تركيا، ولم يتوقف دورها عند ذلك؛ بل تحوَّلت مع الزمن إلى ملجأ دائم للمعارضة التي ترغب في دعم بلادها إلى جانب سعيها لتغيير الأوضاع.
وهكذا تم تأسيس المبادئ الأولى للسياسة الخارجية التركية في كلية مولكاي؛ حيث أثَّرت خبرة الحروب التي خاضها العثمانيون في القرنَين التاسع عشر والعشرين على توجهات المدرسة الفكرية، وبالتالي على السياسة الخارجية بشكل عام، وأصبح النزوع نحو الاستقلالية والرغبة في الدفاع عن النفس مبادئ محركة لهذه السياسة، كما نشأ توجه أصيل للحد من التدخلات الخارجية عن طريق الحرب، هذا إلى جانب توجيه الدفة نحو التحالف مع الغرب، دون الوقوع في فخ التبعية المطلقة لأي من حلفاء تركيا الأقوياء.
يقول تيمور كوران، أمريكي من أصول تركية، وهو أستاذ الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة ديوك: “اعتاد أعضاء كلية مولكاي على التأثير في التوجهات السياسية الخارجية؛ حيث عملوا باستمرار على تقييد السياسيين في مواقع السلطة عن استخدام السياسة الخارجية بشكل مرحلي؛ أي أنه كانت هناك أجندة دائمة لدى أساتذة السياسة في (مولكاي) يدافعون عنها ضد الخطط قصيرة الأمد للحكام”.

وربما ولَّد تداخُل الأدوار هذا بين الحكومة والنخبة المفكرة في “مولكاي” نوعًا من الصراع؛ وهو ما يفسِّر تعرضها (النخبة المفكرة) إلى الاضطهاد على مدى تاريخ الكلية؛ ففي عام 1960 نُشبت اعتراضات عنيفة من قِبَل طلاب “مولكاي” على الرئيس التركي عدنان مندريس؛ ما أدى به إلى إصدار قرار بإغلاق الكلية. ومع مرور الوقت وبعودة “مولكاي” لممارسة دورها كمحرك للحياة السياسية التركية؛ أصبحت تتمتع بدور الملهم لحركات المعارضة التركية. ومع دخول عقدَي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، تعرَّض أعضاء هيئة التدريس في الكلية من ذوي الاتجاهات اليسارية إلى الاعتقال؛ لكن مع انفراج الأزمة في كل مرة كانوا يعودون إلى ممارسة أدوارهم الطبيعية، كما تمتع أكثرهم سطوةً وشهرةً بالحصول على مناصب قيادية في الحكومات الجديدة.
هناك أيضًا القصة المعروفة لممتاز سويسال، أحد الذين جلسوا على كرسي عمادة كلية مولكاي، والذي تعرَّض للاعتقال عام 1971؛ بسبب اتهامه بالترويج للشيوعية، وربما كانت قصته محزنة إلى حد بعيد؛ حيث يروي أحد أساتذة “مولكاي” السابقين عن قيام ممتاز بتنظيف دورات المياه داخل السجن لمدة طويلة، لكن الأمور لم تبقَ على حالها؛ حيث خرج ممتاز من السجن ليحصل على منصب وزير الخارجية التركية بعد 20 عامًا من قرار اعتقاله، لكن مع مرور الوقت كان تأثير كلية مولكاي على الشأن الداخلي والبيروقراطية التركية والأمور المالية يخفت تدريجيًّا.
وقد استمر الحراك الليبرالي واليساري على الدوام داخل “مولكاي”؛ حيث ناصر الأساتذة من كلا الجانبَين قضايا بعينها، من بينها حقوق الإنسان؛ بما في ذلك حقوق الأكراد والإسلاميين، هذا إلى جانب دعمهم انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، والعمل على دمقرطة تركيا بشكل متزايد. وتزامن ذلك مع بعض القرارات العنيفة التي اتخذتها القوات المسلحة التركية عام 1998؛ إذ قامت بإغلاق مقرات الحزب الإسلامي الحاكم، آنذاك، كما فرضت بعض القيود على ممارسة الإسلاميين للسياسة، إلى جانب تكبيل بعض الرموز الدينية الأخرى، ثم ألقت القبض على أردوغان وإيداعه في السجن.. حدث ذلك في الوقت الذي كان يشغل فيه الأخير منصب عمدة إسطنبول.

وبينما شهد عام 2000 صعودًا مفاجئًا لحزب أردوغان، الذي تحول إلى اتجاه ذي بُعد إسلامي مع بعض الميول الليبرالية، أظهر كثيرون من أساتذة “مولكاي” تعاطفًا كبيرًا مع حصول أردوغان على منصب رئيس الوزراء؛ وهو المنصب الذي حصل عليه للمرة الأولى عام 2003.
اقرأ أيضًا: تركيا مرفوضة “دائمًا” من الاتحاد الأوروبي
وقد تدهورت علاقة الكلية مع رئيس جامعة أنقرة؛ خصوصًا بعد أحداث صيف عام 2013؛ حيث اندلعت احتجاجات حديقة جيزي التي بدأت في إسطنبول كرد فعل على التدمير المخطط له للحديقة، ثم سرعان ما امتدت إلى أنقرة وعبر البلاد؛ كرفض لحكومة حزب العدالة والتنمية. وليس من قبيل المبالغة في تقدير مدى حجم الرعب الذي سببته هذه الاحتجاجات لأردوغان؛ فقد جلبت احتجاجات جيزي الطلاب، حتى غير السياسيين، إلى الشوارع، وانضمت إليهم فئة الأشخاص الذين هم في منتصف العمر؛ حتى تلك الأُسر التي عادةً تمنع أبناءها عن السياسة خرجت معهم إلى الشوارع، وهذا شيء جديد تمامًا في تركيا.

لكن السنوات الأولى من حكم أردوغان كانت مختلفة تمامًا عما يحدث الآن؛ حيث دخلت الحكومة في حالة من الوئام مع حزب العمال الكردستاني، وتدفق الطلبة الأكراد للتعلُّم في جامعات تركيا؛ وبالأخص في جامعة أنقرة ذات التاريخ الطويل في معارضة الحكام. وكانت تفضيلاتهم تنحصر في كليات الاتصالات والتعليم والقانون والعلوم السياسية (كلية مولكاي)، وقد تمتع الطلاب اليساريون والأكراد والمناصرون لحقوق الأكراد بدرجة فريدة من درجات الحرية لم تتوفر في التاريخ التركي من قبل؛ حيث سيطرت الميول المحافظة على الجامعة في هذا التوقيت، ربما كانت ناتجة عن اتجاهات علمانية أو إسلامية.
وفي مطلع عام 2016، قامت مجموعة من الأكاديميين الأتراك بإعداد عريضة نصَّت على دعم الحل السلمي ومطالبة الحكومة بتجنُّب الحرب مع حزب العمال الكردستاني؛ حيث لقَّبت نفسها بـ”أكاديميين من أجل السلام”، واتخذت العريضة عنوان “لن نكون جزءًا من هذه الجريمة”، وكان هذا الفعل يعد أمرًا معتادًا وطبيعيًّا في الجامعات التركية حتى هذا الوقت. وقد نجح الذين قاموا بإعداد العريضة بسهولة في الحصول على توقيعات 2000 أكاديمي تركي دفعة واحدة.
ولم يكن أساتذة “مولكاي” مجرد متضامنين مع ما ورد في العريضة؛ لكنهم كانوا يعتبرون أنفسهم شركاء في فضح الكذبة غير الديمقراطية التي ارتكبها النظام؛ تلك الكذبة التي اعتبروها إهانةً للجمهورية التركية نفسها، عن طريق الترويج بأن تركيا هي بلد الجنس المنحدر من التركمان وحدهم، في حين يعيش فيها ملايين الناس الذين ينتمون إلى العرق الكردي ولم يكونوا أتراكًا بهذا المفهوم ليوم واحد.
اقرأ أيضًا: ما أسباب تفشِّي “كراهية الأجانب” في تركيا؟ وما علاقة الخطاب الحكومي بذلك؟
وقد جاءت اللغة التي كُتبت بها العريضة صارمةً إلى حد بعيد؛ حتى إن الكلمات التي وردت فيها قد تطارد موقّعيها لزمن طويل، وذلك كالتالي:
“لن نسمح كأكاديميين وباحثين من هذا البلد بأن نكون شركاء في هذه الجريمة.. هذه المذبحة المتعمدة والمخطط لها مسبقًا لا يمكن اعتبارها إلا اختراقًا للقوانين التركية والمعاهدات الدولية التي وقَّعت عليها تركيا من قبل.. نحن نطالب الحكومة بالتوقُّف عن هذه المذبحة التي تحدث الآن مع سبق الإصرار والترصُّد، وكذلك التوقف عن ترحيل الأكراد والأجناس الأخرى من البلاد”.
وبعد صدور العريضة بزمن يسير، قام رجب طيب أردوغان، ببلاغته المعتادة، بالتعقيب عليها؛ إذ لم يكن بإمكانه تجاهلها، فالكلمات التي وردت فيها كانت تجازف بوصفه شخصيًّا كمجرم حرب، وربما للسبب نفسه قام بتوجيه الدفة في الاتجاه المضاد؛ حيث وصف الأكاديميين باعتبارهم مذنبين من الدرجة الأولى في حق بلادهم، وذلك كالتالي:
“لقد تم بناء تركيا القديمة بتلك السواعد الرثة، هؤلاء الذين قدموا أنفسهم للناس باعتبارهم مفكرين وأكاديميين، تركيا القديمة هذه لن تعود من الآن فصاعدًا، وهذه الدوائر الرثة قد كشفت أخيرًا عن وجهها القبيح. وبتصريحاتهم تلك قد أوقعوا أنفسهم في فخ الدعاية المباشرة للإرهاب. ليس في الأمر غرابة؛ فقد اعتادوا على تلك الممارسات سنوات طويلة، وإن كانت تتم بطرق غير مباشرة.. هل تفضلون وحدة وفرادة تركيا؟ إذا كنتم تفضلون وحدة البلاد فلِمَ تلجؤون إلى التحدُّث بلسان تلك المنظمة الإرهابية؟ تتحدثون بألسنة هؤلاء الذين روَّعوا المواطنين الآمنين، ويرغبون في جعل الأتراك حفنةً من التعساء، وقاموا بمهاجمة قوات الأمن. لا يمكنني اعتبار ما قام به هؤلاء الأكاديميون إلا دعاية للإرهاب”.
وكرد فعل صارم على محاولة الانقلاب التي حدثت عام 2016، قام أردوغان بتفريغ مؤسسات الدولة كافة؛ قوات الشرطة والجيش والمدارس الثانوية والمستشفيات، بالإضافة إلى الصحف والمؤسسات غير الهادفة للربح؛ نحو 150 ألف شخص تم تسريحهم من أعمالهم. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ حيث تم اتهام كثيرين بالمشاركة في حركة غولن، وهي الحركة التي اتُّهمت بتدبير محالة الانقلاب، ولم ينتظر كثيرًا بعد أن انتهى من مذبحة الجهاز الحكومي والمؤسسات؛ إذ توجَّه إلى تصفية جبهة اليسار والأكاديميين.

إن هؤلاء الذين عايشوا مجد كلية مولكاي، لم يعُد بمقدورهم التعرُّف عليها الآن؛ فالجدران التي كانت تزدحم بالملصقات الدعائية لليسار لم يعد يزيّنها سوى بعض الأعلام التركية، كما تم إغلاق مكتب حقوق الإنسان التابع لها، ثم أُعيد فتحه مرة أخرى؛ لكن تحت الإشراف المباشر لرئيس الجامعة، ولم تعد هنالك فرصة لتدريس بعض الموضوعات، كما تم إلغاء كثير من مشروعات الماجستير والدكتوراه.
اقرأ أيضًا: “هيومن رايتس ووتش”: تبخر حلم العودة إلى احترام حقوق الإنسان في تركيا
كان كارم ألتيبارماك من بين الأساتذة الذين احتفظوا بوظائفهم في “مولكاي”، وهو يعمل الآن ضمن فريق من المحامين مهمتهم الدفاع عن 100 تركي في المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان والمحاكم الجنائية التركية، كما كان أحد المستهدفين من عملية التطهير التي قام بها أردوغان عقب الانقلاب؛ لكنه وللغرابة لم يتم فصله، واضطر منذ عام إلى تقديم استقالته لإدارة الجامعة.
لم يعد ألتيبارماك يشعر أن الأجواء مناسبة لأية حياة جامعية؛ فقد وجد نفسه مطلوبًا للتحقيق معه قبل أن يقدم استقالته. ولم تكن هناك أسباب منطقية للتحقيق سوى أنه فتح مناقشة علمية مع الطلبة حول إحدى القضايا السياسية في البلاد؛ لكن إدارة أردوغان لم تكن لتسمح بمناقشة قضايا من قبيل (تفعيل قانون الطوارئ بعد محاولة الانقلاب الأخيرة)، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ حيث تبع التحقيق قيام الجامعة بإجبار الأكاديميين داخلها على التوقيع على خطاب يحذِّرهم جميعًا من الاقتراب من بعض الخطوط الحمراء في المناهج الدراسية.
اقرأ أيضًا: تقرير: أردوغان يبني نظامًا سياسيًّا جديدًا من خلال المراسيم الحكومية
وعلى صعيد آخر، قامت الجامعات التركية بتمكين الطلاب المحافظين من تقديم الشكاوى ضد أساتذتهم، وذلك من خلال إنشاء مكتب غريب من نوعه يُدعى “مركز الاتصالات الرئاسية”.

وليس من المستغرب أن يتسبب كل ما يحدث في تفريغ تركيا من قواها الفكرية؛ حيث اضطر الآلاف من الأكاديميين الأتراك إلى مغادرة بلادهم، منهم العاملون بالعلوم الاجتماعية والعلوم المادية؛ لدرجة أن بعض الجامعات أعلن عن وجود أزمة نقص صارخة في بعض الأقسام العلمية؛ وهو ما دفع مصطفى فارناك وزير الصناعة والتكنولوجيا في تركيا، إلى تقديم بعض الوعود، وهي لا تعدو كونها محاولة لجذب الأكاديميين المهاجرين للعودة، من خلال بعض الإغراءات؛ كرفع رواتبهم إلى 24000 ليرة، أي ما يساوي 4200 دولار أمريكي، هذا في حال عودتهم إلى تركيا مرة أخرى.

ولم تُعَطِّل وعود وزير الصناعة مخاوف الأكاديميين من السجن؛ فهناك نحو 2000 جلسة قضائية عُقدت خلال الفترة الماضية لمحاكمة الموقعين على عريضة (أكاديميين من أجل السلام)، ولم يحصل أي من المتهمين فيها على البراءة. وكان الأكثر حظًّا من بينهم قد تلقَّى أحكامًا بالسجن لمدة 15 شهرًا مع وقف التنفيذ، كما لم يحصل 30 متهمًا منهم على حكم قضائي يُعَطِّل التنفيذ؛ مثل فوسون أوستل الذي يقضي عقوبته في السجن حتى الآن. كما يقضي أحد الموقعين، وهو تونا ألتينيل، فترة حكم بالسجن على ذمة قضية أخرى.
وهكذا لم يكن المصير الذي واجهه أوزغل هو الحالة الوحيدة. وستبدو حالة أوزغل لكل مَن درس التاريخ التركي جيدًا كأمر معتاد؛ فالتقليد التركي المعروف بالتطهير كان مصاحبًا لنشأة الدولة التركية نفسها، كما استمر حاضرًا طوال التاريخ التركي الحديث، ولم يكن التطهير شذوذًا عن القاعدة بأية حال؛ بل كان جزءًا مكملًا للسياسة التركية، وكذلك أداة فاعلة من أدوات النظام.
المصدر: “نيويورك تايمز“