الواجهة الرئيسيةترجماتشؤون دولية
كيف كشفت حرب إسرائيل و”حماس” عن قيود الحرب الدقيقة؟!

كيوبوست- ترجمات
سيث جاي فرانتزمان♦
يبدو الاستماع إلى جيش الدفاع الإسرائيلي وهو يشرح الحرب الأخيرة بين إسرائيل و”حماس“، والتي بدأت في العاشر من مايو بإطلاق “حماس” صواريخ على القدس، وكأننا نستمع إلى إسرائيل وهي تحاول شرح الكيفية التي قد تحقق بها بعض النصر من بين فكَّي الاستنزاف، وذلك لأن “حماس” قد دخلت هذه الحرب بخطة معروفة.
فـ”حماس” تدير قطاع غزة منذ عام 2006، والحربان الدمويتان بشكلٍ استثنائي اللتان أرسلت فيهما إسرائيل قوات برية إلى غزة، في عامَي 2009 و2014، قد علَّمتا إسرائيل محاولة إدارة الصراع مع “حماس” عن طريق شنِّ ضرباتٍ جوية دقيقة. وتعرف الأخيرة أنه ستتم الإطاحة بها، كما تعرف قواعد اللعبة، وتسعى إلى استغلالها. وقد قامت بذلك من خلال 3750 صاروخاً أطلقت في الأيام العشرة الأولى من الحرب. كما اشتملت بعض عمليات القصف على 140 صاروخاً تم إطلاقها في بضع دقائق، وهو عدد غير مسبوق.
اقرأ أيضاً: مكاسب “حماس” وإسرائيل كمن يهيم من دون رأس.. والسلطة تأكل أظافرها
ويحقق نظام الدفاع الجوي الإسرائيلي “القبة الحديدية” نجاحاً بنسبة 90% ضد الصواريخ التي يسعى لاعتراضها. وهذه ليست كل الصواريخ؛ لأن العديد منها يسقط في مناطق مفتوحة. فقد سقط نحو 550 صاروخاً في غزة؛ بسبب فشل بعضها. ومع ذلك، كان على إسرائيل اعتراض أكثر من 1000 صاروخ موجه إلى مدن كبيرة؛ مثل عسقلان وتل أبيب.
ونفذت إسرائيل عدة جولات من الغارات الجوية واسعة النطاق على ما تقول إنه 100 كيلومتر من أنفاق “حماس” تحت الأرض في غزة. وهذه الأنفاق لا تشبه الأنفاق التي بنتها “حماس” قبل ذلك لتهريب الأسلحة عبر سيناء، أو تلك التي حاولت بناءها داخل إسرائيل؛ فهذه الأنفاق تمر تحت المدن وتمكِّن “حماس” من نقل الأسلحة تحت الأرض. وتعتقد إسرائيل أن “حماس” تمتلك نحو 15 ألف صاروخ، يصل مداها إلى 200 كيلومتر، وغالباً ما تكون نسخاً من الصواريخ والقذائف الإيرانية، مثل “فجر-5”.

وفي 19 مايو، قال جيش الدفاع الإسرائيلي إنه استمر في قصف الأنفاق التابعة لحركة “حماس”. وكانت هذه هي “المرحلة الخامسة” من الضربات وشملت 40 هدفاً. واستخدمت إسرائيل 120 من الذخائر الموجهة، و52 طائرة نفاثة، كما أسقطت إسرائيل طائرات من دون طيار تابعة لـ”حماس”، وغواصة مسيرة تابعة للحركة أيضاً، وغير ذلك من التكنولوجيا الجديدة التي تستخدمها “حماس”، والتي غالباً ما تستند إلى المشورة الفنية الإيرانية.
وتقول إسرائيل إنها تقصف مخازن الأسلحة ومراكز القيادة والتحكم. كما قامت باستهداف بعض قادة “حماس”؛ لكن السياسة العامة هي عدم قتل أعداد كبيرة من أعضاء “حماس”. وقد تعرضت إسرائيل إلى انتقاداتٍ لاذعة؛ بسبب قتلها عشرات المدنيين في غزة خلال هذه الحرب. على الرغم من أن إسرائيل تقول إنها تحذر المدنيين دائماً؛ بما في ذلك الاتصال بمنازلهم قبل الضربات الجوية؛ فإن بعضهم قُتل.
اقرأ أيضًا: إعادة الإعمار في غزة.. المهمة المستحيلة في ظل سيطرة “حماس”
ومع ذلك، فإن الطبيعة الدقيقة لهذه الحرب، واستخدام أحدث الذخائر مع أحدث المعلومات الاستخباراتية، والطائرات من دون طيار، وغيرها من أساليب المراقبة، قد دفعت إسرائيل للاضطرار إلى التخلي عن وقف إطلاق النار والادعاء بأنها لم تكمل مهمتها في غزة. لكن، يبدو أن “حماس” تنتصر في حرب العلاقات العامة، بل وربما حتى الحرب الاستراتيجية. وقد تعرضت إسرائيل إلى انتقاداتٍ شديدة من قِبل بعض أعضاء الكونغرس الأمريكي، والمعلقين الذين يجادلون بأن الولايات المتحدة يجب أن تخفض المساعدات العسكرية السنوية التي تبلغ 3.8 مليار دولار؛ حتى إن العديد من أعضاء الكونغرس وصفوا إسرائيل بأنها دولة “فصل عنصري”.

وفي الاتحاد الأوروبي، بدا أن المجر وحدها هي التي تقف في طريق الدعوة التوافقية للاتحاد الأوروبي بشأن وقف إطلاق النار التي تنتقد إسرائيل. وقد أصدرت الصين بيانات شديدة اللهجة تنتقد إسرائيل، وتضغط من أجل أن يدين مجلس الأمن الدولي إسرائيل. وليس من الواضح ما إذا كانت إسرائيل ضحية للتنافس بين الولايات المتحدة والصين؛ لكن التصريحات في الصين التي تصف إسرائيل بأنها “رأس الجسر” للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، هي مثال يظهر احتمالية هذا الأمر.
اقرأ أيضاً: هل تزيح “حماس” منظمة التحرير؟
وفي غضون ذلك، تسعى “حماس” إلى إجراء انتخابات فلسطينية في وقتٍ لاحق من هذا العام. وقد تم تأجيلها؛ لكن “حماس” تعتقد أنها ستستفيد. كما أن إيران و”حزب الله” يراقبان الوضع أيضاً. وقد قال حسين سلامي، رئيس الحرس الثوري الإيراني، عشية الحرب، في 7 مايو، إن إسرائيل كانت عُرضة لهجومٍ تكتيكي ضخم من هذا القبيل. وزعم زعيم “حزب الله” وقادة “حماس” بأن هناك تحولاً عالمياً ضد إسرائيل. ومن المرجح أنهم ينظرون إلى الإدارة الأمريكية الجديدة في واشنطن والإدانة التركية لإسرائيل، إلى جانب تنامي نفوذ روسيا والصين وإيران، كدليل على احتمال خسارة إسرائيل حلفاءها الغربيين.
وبالتالي، فإن المشكلة بالنسبة إلى إسرائيل تكتيكية واستراتيجية؛ ففي عام 2018، عندما تعرض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، إلى ضغوط للذهاب إلى الحرب في غزة، رفض بحجة أن التهديد الإيراني في سوريا يحتاج إلى اهتمام إسرائيل الكامل. وبدا أن إسرائيل وإيران على مسار تصادمي في سوريا، فضلاً عن لبنان وربما العراق أيضاً؛ حيث تزعم الميليشيات الموالية لإيران أنها تريد الانضمام إلى حرب “حماس” ضد إسرائيل.

ويبدو أن إسرائيل وإيران قد تبادلتا بالفعل الهجمات الإلكترونية، واتهمت إيران إسرائيل بالتخريب. ولا تزال إسرائيل تتلقى طائرات مقاتلة خفية من الجيل الخامس من طراز “F-35” من الولايات المتحدة، وتشتري أسلحة ومعدات أخرى؛ وذلك للتحضير لحرب جدية ضد “حزب الله” ووكلاء إيران. ومع ذلك، عندما تعلق الأمر بـ”حماس”، أرادت إسرائيل إدارة الصراع. فعلى سبيل المثال، تصاعدت التوترات بين إسرائيل و”حماس” في الماضي، وشنت إسرائيل غاراتٍ جوية قصيرة لعدة أيام على غزة.
وفي عام 2018، أسفر ذلك عن إطلاق نحو 800 صاروخ، وفي عام 2019، كانت هناك عملية قصيرة تسمى “الحزام الأسود” ضد حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية. وقد تم إطلاق نحو 600 صاروخ؛ لكن إسرائيل تمكنت من تركيز نيرانها ضد الجهاد الإسلامي، وتفريقه عن “حماس”. والآن، وصلت سياسة إدارة الحرب إلى نهايتها. وتقول إسرائيل صراحة إنها تريد تحقيق خمس سنوات من الهدوء؛ لكن “حماس” لم تتعرض إلى انتكاساتٍ خطيرة، رغم تمسك إسرائيل بروتين قصف البنية التحتية لـ”حماس” بعد تحذير الناس.
اقرأ أيضاً: لا سلام في الشرق الأوسط من دون حل المسألة الفلسطينية
وعادة ما يتمكن أعضاء “حماس” من الفرار، وقد تعرضت بعض طائرات “حماس” من دون طيار، وفرق الصواريخ الموجهة المضادة للدبابات إلى القصف. ومع ذلك، فإن الإصابات تبدو منخفضة، فـ”حماس” لا تدفع ثمناً باهظاً لإطلاقها الصواريخ على نطاقٍ واسع. كما يبدو أن الأدلة في وسائل الإعلام الإيرانية تظهر أن إطلاق صواريخ “حماس” يهدف إلى اختبار دفاعات القبة الحديدية الإسرائيلية، وكذلك إغلاق المطارات. بينما تشكل الطائرات من دون طيار الجديدة التابعة لـ”حماس”، والمستندة إلى طائرات “أبابيل” الإيرانية، تهديداً جديداً. وقد أسقطت القبة الحديدية واحدة، وهو أول اعتراض قتالي لطائرة من دون طيار للنظام.

وقد لا تكون القبة الحديدية والغارات الجوية الدقيقة عصا سحرية، والعسكريون يعرفون ذلك؛ فقد اعتقدتِ الولايات المتحدة أن الثورة في الشؤون العسكرية بعد حرب الخليج عام 1991 سوف تشكل نقطة تحول. وأعقب ذلك هيمنة عالمية للولايات المتحدة؛ لكنها عانت انتكاساتٍ في البلقان، وفي حفظ الأمن في سماء العراق والصومال. وفي نهاية المطاف أظهر غزو العراق وأفغانستان أن مستوى الدقة العسكرية في العالم، حتى مع اقترانه بالضربات الجوية والطائرات من دون طيار الحديثة، لا يمكنه كسب الحروب.
اقرأ أيضاً: الفانتازيا اللا نهائية للقوة الأمريكية!
وفي العراق، غادرتِ الولايات المتحدة عام 2011، لتعود مرة أخرى. وقد غادرت الآن معظم منشآتها من جديد؛ حيث تعرضت إلى مضايقات من الميليشيات الموالية لإيران باستخدام صواريخ عيار 107 ملم، وطائرات من دون طيار. وردتِ الولايات المتحدة بغاراتٍ جوية عام 2019، وفي مارس 2020، وفبراير 2021؛ لكن الضربات الجوية لم تربح الحرب. وعلى نحو مماثل، تغادر الولايات المتحدة أفغانستان بعد عشرين عاماً؛ والواقع أن عقيدتنا في مكافحة التمرد، وتكراراتها، يتم انتقادها على نطاقٍ واسع. والآن تحتاج الولايات المتحدة إلى جيشٍ ضخم وقوات بحرية أكبر للتعامل مع منافسين يماثلونها في القوة؛ مثل الصين.
وقد استثمرت إسرائيل بكثافة في الحرب القائمة على الشبكات، وذلك باستخدام الذكاء الاصطناعي، وربط الوحدات معاً بالتكنولوجيا الجديدة. ويبدو أن هذا يقدم حرباً جديدة من الحركة والفتك مع الحد من الأخطاء. ومع ذلك، فقد أظهرتِ الحرب في غزة حجم القيود؛ فحين يفترض أن تكون الحرب نظيفة تماماً، وأن تكون الخسائر في الأرواح معدومة تقريباً، تُرتكب الأخطاء ولا ينتصر أحد في الحرب بشكلٍ حاسم. وبالإضافة إلى ذلك، ليس هناك رادع للجولة المقبلة؛ فقد قالت إسرائيل صراحة إنها تخوض “حرباً بين الحربين” في سوريا باستخدام نحو 2000 غارة جوية على أهداف إيرانية؛ لإبطاء تهريب الأسلحة الإيرانية إلى لبنان.

لكن هذا النهج، الذي يُشبهه البعض بـ”جزِّ العشب” لا يقضي على العشب؛ وهناك تحذيرات بأن “حماس” ستخرج من هذه الجولة بمزيدٍ من الشرعية. وقد تتعزز قوة إيران و”حزب الله”. بينما فقدت إسرائيل بعضَ الدعم الدولي. كما أن العلاقات الإسرائيلية- الخليجية الجديدة، القائمة على فترةٍ من السلام، ترى في العلاقات الاقتصادية فائدة كبرى؛ من شأنها أن تربط بين إسرائيل واليونان والهند عبر الإمارات، قد تتضرر الآن بسبب الصراع الأخير.
اقرأ أيضاً: إيران والولايات المتحدة.. لا اتفاق من دون الخليج وإسرائيل
وليس واضحاً ما الذي كسبته إسرائيل من هذه الجولة. وسوف يشكل ذلك مصدر قلقٍ بالنسبة إلى هؤلاء الذين نظروا إلى الحرب الدقيقة وأحدث الإسفنجيات التكنولوجية، مثل طائرة “F-35“، باعتبارها وسيلة لإلحاق الهزيمة بالمنافسين من الأقران. كما سيشكل هذا أيضاً مصدر قلق للمنطقة؛ لأن إيران ووكلاءها سوف يصبحون أكثر جرأة، فالحوثيون في اليمن، على سبيل المثال، يستخدمون نموذجاً مماثلاً من الصواريخ والطائرات من دون طيار؛ لمهاجمة المملكة العربية السعودية. وعلى غرار إسرائيل، فقد شهدت المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة في العراق تحدياتٍ ناشئة عن عقيدة الصواريخ الإيرانية هذه في جميع أنحاء المنطقة.
وقد تكون الضربات الجوية الدقيقة قد وصلت إلى نقطةٍ عالية، والعقيدة التي ستأتي بعد ذلك، أو الحاجة إلى تحديث هذه العقيدة، قد تشكل علامة استفهام كبيرة بالنسبة إلى المخططين العسكريين. وقد يُنظر إلى النوع الأكثر ضراوة من الصراع، مع القوات البرية، الذي شنته أذربيجان على المقاتلين الأرمن في العام الماضي، على أنه أقرب إلى نموذج للأسلحة المشتركة، وأكثر من مجرد استخدام للدعم الجوي، ومحاولة عدم وقوع خسائر على الإطلاق.
♦يشغل منصب المدير التنفيذي لمركز الشرق الأوسط للتقارير والتحليل، وزميل منتدى الشرق الأوسط، ومؤلف كتاب “بعد داعش.. أمريكا وإيران والصراع من أجل الشرق الأوسط” (سيصدر قريباً عن دار جيفن للنشر).
المصدر: ناشيونال إنتريست