الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفة
كيف قادنا وهم السعادة الفردية إلى الفراغ؟

كيوبوست
قد تبدو حياة أحدهم مثالية عند عرضها عبر صفحاته على مواقع التواصل الاجتماعي؛ هناك صور وفيديوهات توثق كثيرًا من رحلات تفوح منها رائحة المتعة والاستكشاف، إنه يتبع نظام غذاء صحي ويقصد النادي الرياضي بانتظام؛ لذلك يمتلك جسدًا رائعًا، ولأن متابعيه كثر فهو/ هي لديه عمله الخاص.
إن هذه حتمًا هي السعادة والنعيم، هذا ما ستردده بينك وبين نفسك وأنت تتصفح حساب أحدهم على “إنستغرام”، وستشعر بالنقص، سيتسلل إليك إحساس بالخطر: “انظر إلى حياة هؤلاء الأشخاص، إنهم ناجحون ومشهورون، وبالتالي سعداء، أما أنت فلا أحد يعرف بوجودك، ليس لك أي تأثير”.
اقرأ أيضًا: قوة الننشي.. سر السعادة والنجاح لدى الكوريين
مهلًا! لنتوقف هنا قليلًا ولتكف عن توبيخ نفسك.. إن هذه الصورة المثالية لهؤلاء الأشخاص تمثل معايير العصر الحالي لشكل الحياة السعيدة؛ لكن مَن يضع هذه المعايير؟ وهل تناسب الجميع؟ ما السعادة أصلًا؟
تاريخ السعادة
من الصعب قياس إذا ما كان الإنسان البدائي قد سعى لتحقيق سعادته، إذا ما كنا متأكدين من أنها كانت هدفًا واضحًا بالنسبة إليه؛ إلا أن المؤكد هو أنه حاول خلال مراحل تطوره كافة، أن يسد احتياجاته الأساسية ضمن الحدود التي سمحت بها الطبيعة في ذلك الوقت.
أما عندما تطور عقل الإنسان وأصبح بإمكانه أن يفكر في أبعد من احتياجاته التي أصبحت أكثر تعقيدًا، فقد استحدث مصطلح السعادة وحاول أن يعرفه، وهنا يحاول أرسطو ربط السعادة بفهم قيمة الأشياء والغرض منها؛ لذلك لنكون سعداء لابد أن نعيش حياة تمكننا من تطوير الغاية من وجودنا، فالمتعة حالة يمكن أن يعيشها الحيوان، أما السعادة فهي ليست حالة بل فعل، وَفقًا لأرسطو.
مع صعود المسيحية تغيَّرت المفاهيم، فلم تعد السعادة تُعرف بأنها شعور بالمتعة أو حرص على القيمة المعنوية للأشياء، بل إن السعادة وَفقًا للرؤية المسيحية حالة شعورية مؤجلة للحياة الآخرة، أما الدنيا فلها قيم مختلفة؛ كالزهد والفضيلة وتحدي الغرائز، الأمر الذي ينطبق إلى حد ما على باقي الأديان.
اقرأ أيضًا: دراسة: إعطاء الهدايا يؤدي إلى السعادة أكثر من تلقيها
خلال القرن الثامن عشر تطورت حركة سياسية واجتماعية وثقافية، شكَّلت قفزة نوعية في عصر سمّي في ما بعد بـ”عصر التنوير“، جرت عبره محاولات لإخراج الإنسان في أوروبا من الخرافة والجهل عن طريق تنوير عقله بالفكر. يعتقد بروفيسور إدارة الأعمال في جامعة ستوكهولم كارل سيدرستروم، أنه حتى هذه المرحلة من تاريخ البشرية لم يكن هناك تصور مثالي لمفهوم السعادة، إلا أن ذلك حصل بالفعل في منتصف القرن العشرين.
الرأسمالية.. حرفية عالية بركوب الأمواج
يشير سيدرستروم، خلال لقاء معه نُشر على موقع “vox” الأمريكي، حول كتابه “خيال السعادة”، إلى أن أفكار طرحها بوهيميون في الأربعينيات، تلتها توجهات ظهرت في الستينيات والسبعينيات، كانت معادية لثقافة الشركات والإنتاج؛ حيث راجت قيم أخرى كالتحرر الشخصي والعيش بحرية.
إلا أن النقلة المفصلية حدثت خلال السبعينيات والثمانينيات، عندما استطاعت الشركات الربحية، بمساعدة المؤسسات الأكاديمية وماكينة الإعلام، امتصاص مطالب هذه الحركات الشبابية ذات الروح الثورية، عبر تبنيها قيم هذه الحركات وتغيير أساليبها ومفرداتها، في سبيل استيعاب التوجهات المضادة لثقافتها؛ ثقافتها المتمثلة في تكريس ثقافة الإنتاج والاستهلاك، لتكديس الأرباح على حساب الإنسان.
اختلطت الأوراق، فرفعت الشركات الربحية التي تندرج تحت عباءة الرأسمالية وتسعى لاستغلال واستنزاف الفرد، القيم التي نادى بها لضمان حريته ووجوده، وكانت الخطورة عندما سخَّرت الشركات القيم نفسها لاستغلال الفرد واستخدامه عبر إقناعه بأن السعادة والتحرر اللذين يسعى لهما مقرونان بالنزعة الفردية التي غرست الهوس بفكرة إرضاء الذات وتفوقها، وزادت شدة التنافسية والقلق بشأن النجاح وما تبعه من قلق من الآخرين كونهم منافسين لا شركاء، فأصبحنا نميل إلى خصوصية تشبه العزلة والانفصال عن المحيط، ونشعر بفراغ داخلي، تحديدًا وأننا فقدنا الإحساس بقيمة الأشياء عندما بدأنا في اقتنائها بلا حاجة واضحة إليها عبر الاستهلاك المبالغ فيه.
اقرأ أيضًا: لماذا تجعلنا الموسيقى نشعر بالسعادة؟
في حوار له مع مجلة “نيو ستيتسمان” الثقافية البريطانية، يقول الفيلسوف والناقد الثقافي السلوفيني، سلافوي جيجيك: “أنا ضد السعادة.. السعادة للجبناء”، تبدو الفكرة غريبة وسلبية؛ إلا أنه لابد من الوقوف ضد السعادة بصيغتها الحالية؛ لأنها تقودنا إلى الفراغ، وإذا أردنا أن نكون أقل تطرفًا من جيجيك يمكن العودة إلى سيدرستروم الذي يرى أنه من أجل خلق السعادة يجب أن تقترن بشعور جماعي، بعد أن نظرنا بازدراء إليها بصيغتها الجماعية، معتقدًا أننا في أمس الحاجة إلى إعادة تخيُّل شكلها.