الواجهة الرئيسيةترجماتثقافة ومعرفة
كيف غزا الباذنجان المطبخ العربي؟

كيوبوست- ترجمات
ريم قسيس♦
نشرت مجلة “نيولاينز” مقالة إبداعية للكاتبة الفلسطينية ريم قسيس، مؤلفة كتب الطبخ، والمهتمة بعلاقة الطعام مع الثقافة والتاريخ والسياسة، تتناول تاريخ ثمرة الباذنجان، وكيف غَزَتِ المطبخ العربي قبل قرون؛ حيث تقول قسيس إنها كانت واحدة من أروع الولائم التي شهدتها بغداد على الإطلاق، وربما لن ترى مثلها مجدداً.
اقرأ أيضاً: الطعام يحضر كمادة روائية متداخلًا مع الحب
حيث تضمنت الآلاف من اللآلئ المبعثرة على مفرش الطاولة المنسوج من الذهب الذي سيجلس عليه الضيوف، وشمعة من العنبر وزنها 70 رطلاً موضوعة في شمعدان مصنوع من الذهب. كان ذلك في ديسمبر عام 825، وكان الخليفة المأمون يتزوج ابنة وزيره الحسن بن سهل، خديجة الملقبة ببوران. وكانت المأدبة فاخرة والطعام استثنائياً؛ حتى إنهم أعدوا طبق “الباذنجان”.
وتحكي قسيس أنها كانت تتناول مقلوبة الباذنجان على العشاء مع بناتها؛ حيث تقول: “كنت قد انتهيت للتو من إخبار ابنتي وأختها الكبرى كيف كان الناس في يوم من الأيام يخافون من الباذنجان؛ لأنهم اعتقدوا أنه يصيب بالجنون. ويُعتقد أن الاسم نفسه باللغة العربية، باذنجان، هو كلمة مركبة تعني بيض الشيطان”. وتشير الكاتبة إلى أن بوران قامت بتمليح وشطف الباذنجان؛ مما أزال مرارته، ومنذ ذلك اليوم أصبح الناس أقل خوفاً وبدؤوا في تناول الباذنجان.

تقول: “لم تكن ابنتي الكبرى مهتمة بالأمر؛ فقد كانت أكثر اهتماماً بالدراما التي تحدث في المدرسة. وأردت أن تعرف أنه إذا أراد شخص ما أن يكون صديقك، فلماذا يظل لئيماً معك في بعض الأحيان. وقبل أن تتاح لي الفرصة لصياغة إجابة متماسكة، تدخلت أختها الصغرى، المعتدة برأيها، التي تبلغ من العمر 5 سنوات، وقالت: (هذا لأنه عندما لا تكون تعرف شخصاً ما، فإنك تخاف منه، وعندما تخاف قد تتصرف بلؤم)”.
اقرأ أيضاً: عن دور العرب في الحضارة الإنسانية
أحياناً تكون بصيرة الأطفال هي الأعمق على الإطلاق؛ فقد كان بالفعل نقص المعرفة هو ما جعل الباذنجان مستبعداً من المطبخ العربي. وعلى الرغم من أن الباذنجان كان معروفاً للعرب منذ الفتح الإسلامي لإيران على الأقل وانتشر في جميع أنحاء حوض البحر الأبيض المتوسط نتيجة التوسع الإسلامي في القرنَين السابع والثامن؛ فإن زفاف بوران على ما يبدو هو الذي تسبب في زيادة شعبيته.
وكان ما كشفت عنه قصة زفاف بوران هو أن الباذنجان يمكن أن يتخلص من نكهته المُرَّة عن طريق تقطيعه ورشه بالملح. وقبل ذلك، كان يُنظر إليه دائماً بخوف وازدراء. وبعد فترة وجيزة، بدأت القصة تأخذ منعطفاً أكثر إشراقاً؛ حتى إن بعض المؤرخين يدعون أن بوران نفسها ابتكرت الطبق الذي تم تقديمه في حفل زفافها، ولهذا السبب، وحتى يومنا هذا، يشار إلى العديد من أطباق الباذنجان باسم “بورانيات”.

وتضيف ريم قسيس أن تلك الخضراوات المعمرة، على الرغم من كونها فاكهة من الناحية التقنية، ربما نشأت في مكان ما في جنوب أو شرق آسيا؛ حيث تمت زراعتها لآلاف السنين قبل رحلتها إلى العالم العربي. وربما تم تقدير مرارته في جنوب شرق آسيا؛ لكن ثبت أنه أقل إرضاء للأذواق أثناء تحركه غرباً. كما أن اللحم الإسفنجي الشاحب يفتقر إلى الجاذبية.
اقرأ أيضاً: ماري بيرد: دراسة العالم القديم تعلمنا كيف نفهم أنفسنا
وربما كان لونه الأقل إغراء على الإطلاق في عالم الخضراوات والفواكه، الأمر الذي دفع الناس إلى تسميته باسم نبتة باذنجانية محلية، معروفة عموماً بأنها سامة، ويُفترض أن الباذنجان كان يوصف حتى القرن التاسع بأن “له لون بطن العقرب ومذاق مثل لدغته”.
من جانب آخر، تشير المقالة إلى أن الأطباء اعتبروا الباذنجان طعاماً غير صحي؛ حتى إن البعض ربطه بالجنون، حيث اعتقد ابن سينا أنه يسبب الاكتئاب، بينما أشار أبو بكر الرازي إلى أنه قد يسبب بثوراً في الفم والتهاب الأوعية الدموية.

لكن بعد زفاف بوران، بدأ الباذنجان بالظهور في الشعر العربي؛ حيث كان يُنظر إليه برهبة لا ازدراء. وأشار ابن في قصيدة أنه “قطعة من العنبر”، كما وصفه أبو الفتح بأنه “ساحر للروح”، و”لؤلؤة في عباءة سوداء مع طقم من الزمرد، طعمها مثل تبادل القبل بين العشاق”.
وبحلول القرن العاشر، كشف كتاب الطبخ العربي “كتاب الطبيخ”، عن قسم كامل لوصفات الباذنجان، وتوثيق استخدامه كبديل في وصفات أخرى. وتُنسب العديد من تلك الأطباق إلى الأمير العباسي إبراهيم بن المهدي، أو إلى بوران نفسها.
اقرأ أيضاً: وليام دالريمبل يتحدث عن ماضي صقلية الإسلامي
وبحلول القرن الثالث عشر، كان “كتاب الوصلة إلى الحبيب” (الروائح والنكهات)، وهو كتاب طبخ سوري، يحتوي على أكثر من 15 وصفة للباذنجان تتراوح بين طرق مختلفة من مخلل ومشوي إلى محشي ومطهي.

وبحلول القرن الرابع عشر، أصبح الأتراك العثمانيون القوة المهيمنة في المنطقة، واستلهم مطبخهم من “كتاب الطبيخ” وكتاب طبخ عربي آخر من القرون الوسطى، يُسمى “كتاب وصف الأطعمة المعتادة”. وفي القرن الخامس عشر، قام طبيب بلاط السلطان مراد الثاني، بترجمة “كتاب الطبيخ” من القرن العاشر، مضيفاً إليه المزيد من وصفاته الخاصة، وذلك وَلَّد أول كتاب طبخ تركي.
اقرأ أيضاً: كيف تكتب تاريخاً عالمياً مزيفاً؟
ومن تلك النقطة، حسب الكاتبة، واصل الأتراك تعلم واستعارة فنون الطهي من جميع أنحاء الإمبراطورية؛ حيث طوروا مطبخهم إلى الخضراوات المحشوة، والشيش كباب، والبقلاوة التي نعرفها اليوم في شرق البحر المتوسط.
وعلى الرغم من أن الباذنجان كان متاحاً بسهولة من القرن السادس عشر فصاعداً؛ فإنه لم يصبح من خضراواتهم بامتياز حتى القرن الثامن عشر. واستندت هذه المكانة المميزة إلى نكهته وتنوعه؛ حيث ادعى الأتراك أنهم يعرفون أكثر من 40 طريقة لإعداده.

وتكرر انتشار شعبية الباذنجان في أجزاء أخرى من العالم؛ حيث أثر التوسع الإسلامي في أوروبا بشكل كبير على المطبخ، وأدخل خضراوات جديدة في جميع أنحاء القارة، على الرغم من أن معدل الانتشار اختلف بشكل كبير من بلد إلى آخر.
اقرأ أيضاً: صراع بين الفلسطينيين وإسرائيل.. بطله الحمص والفلافل
حيث تقول قسيس إنه في إيطاليا كان الباذنجان يؤكل عادة كطعام للصوم بحلول القرن الخامس عشر، بينما في فرنسا وحتى القرن الثامن عشر، لم يكن معروفاً إلا في الأجزاء الجنوبية. ويبدو أن الكثير من الإحجام أو العائق لشعبيته كان بسبب الأكاذيب القديمة حوله أو ربما نقص الوصفات الجيدة.
لكن اليوم، من الصعب تخيل أي مطبخ في الولايات المتحدة دون الباذنجان (من الهندي والصيني إلى الإيطالي والعربي). وغالباً ما يُعزى انتشار الباذنجان وغيره من المواد الغذائية الأساسية في منطقة البحر الأبيض المتوسط، مثل الحمص والفلفل، على رفوف المتاجر الكبرى، إلى وصول المهاجرين الإيطاليين والعرب إلى هذا البلد، وفي وقت لاحق الاهتمام المتزايد بمأكولات الشرق الأوسط.
♦مؤلفة كتابَي الطهي الأكثر مبيعاً والحائزَين على جوائز “المائدة الفلسطينية” و”طاولة الأرابيسك”.
المصدر: مجلة نيولاينز