الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفة

كيف ساعد التصوف كاتبة عربية في تفكيك فنتازيا الرجل الغربي؟

الكاتبة المغربية فاطمة المرنيسي تنبش في الفلسفة الغربية لتشخص بمنظار سوسيولوجي علاقة المفكرين الأوروبيين بالنساء

برلين- إلهام الطالبي

هل يمكن لكاتبة من دول “العالم الثالث” أن تنتقد العنف الرمزي الذي يمارسه الرجال ضد النساء في الغرب؟ وهل يمكن تصور أن الرجال الأوروبيين مهووسون بالحريم؟ في كتابها “شهرزاد ترحل إلى الغرب”، تكشف عالمة الاجتماع المغربية فاطمة المرنيسي، عن هوس الغربيين بالحريم، مشيرةً إلى أنه إذا كان العرب يخشون من ذكاء النساء ومكرهن، فجيراننا الأوروبيون يجردون الحريم من ذكائهن، ويمارسون عليهن عنفاً رمزياً.

تنبش فاطمة المرنيسي في الفلسفة الغربية، لتشخص لنا بمنظار سوسيولوجي علاقة المفكرين الأوروبيين بالنساء، وكيف شدد الفيلسوف كانط على أنه من الأفضل أن تكون النساء غبيات وجميلات على أن يكن ذكيات وقبيحات.

اقرأ أيضًا: فاطمة المرنيسي تحفر في التراث الإسلامي لإنصاف المرأة العربية

التصوف أداة لفهم الآخر

توظف المرنيسي مهارات التصوف للحفاظ على هدوئها وهي تحاور الأجانب وتشخص علاقتهم بالحريم، تتذكر وصايا جدتها ياسمين، وأهمية الاستفادة من الأجانب وضرورة التركيز على الاختلاف عوضاً عن إصدار الأحكام المسبقة.

تكشف المرنيسي، لأول مرة في كتاباتها، عن علاقتها بالتصوف، وكيف يمكن الاستفادة منه في التواصل مع الأجانب، وتقول في هذا الصدد: “في مدينة طفولتي، أي فاس، التي حافظت على تراثها الوسطي، كانت الشائعة تقول إن الصوفيين قد نجحوا بفضل تدربهم على الاستماع المنضبط إلى الأجانب في الوصول إلى درجة خارقة من المعرفة؛ أي إلى تلك الحالة من الذكاء الخارق الذي يجعل مَن وصل إليه يتلقى اللوامع”، بهذه العبارات تستهل عالمة الاجتماع الراحلة فاطمة المرنيسي، كتابها “شهرزاد ترحل إلى الغرب”.

ولدت فاطمة المرنيسي في فاس وعُرفت بتأثرها بالطابع الصوفي السائد في المدينة- الصورة: “مواقع التواصل الاجتماعي”

في هذا الكتاب تحاول الكاتبة تفكيك فنتازيا الرجل الغربي، وهوسه بالحريم، وأدواته الخاصة لتقييد حريمه؛ لم تكن تتوقع ابنة مدينة فاس أن جولتها في المدن الغربية، لتقديم كتابها “نساء على أجنحة الحلم”، الذي تُرجم إلى ثمانٍ وعشرين لغة، ستجعلها مصدومةً من ابتسامات مئة صحفي غربي، وهم يسألونها: هل كنتِ فعلاً تعيشين في الحريم؟

الحريم.. مؤسسة قاسية

لقد كان الحريم الذي ترعرعت فيه المرنيسي، مؤسسة قاسية تحرم النساء من حقوقهن؛ لا سيما حقهن في اكتشاف العالم، كان سلاح الباحثة المغربية لمواجهة صدمتها وذهولها من أسئلة الصحفيين الغربيين، هو العودة إلى الإرث الصوفي، الذي تلقته من جدتها ياسمين.

اقرأ أيضًا: كيف ترى الأديان السماوية الثلاث سيادة الرجل على المرأة؟

 تقول المرنيسي في هذا الصدد: “كنت أستحضر وصايا جدتي، قائلةً إن أثمن متاع يملكه الأجنبي هو اختلافه، وإذا ما ركزتِ على اللا متشابه والمختلف، بإمكانك أن تتلقي اللوامع.. إن التقية هي قاعدة اللعبة”.

تصف فاطمة المرنيسي ابتسامات الصحفيين الغربيين بأنها كانت تختلف من بلد إلى آخر، مشيرةً إلى أنه حين يلفظ الأمريكيون عبارة الحريم، فابتسامتهم تعبر عن حرجهم، أما الإسبان والإيطاليون والفرنسيون فكانت ابتسامتهم تكتسي طابع المرح، في حين كان الألمان والإسكندنافيون قلقين ومندهشين من عبارة الحريم.

الحريم في المجتمع المغربي، هو مجال خاص بالنساء، حيث لا يسمح لهن بالخروج أو الاختلاط؛ لكن ما الذي يجعل هؤلاء الصحفيين يبتسمون؟

في حوارها مع ناشرتها الفرنسية، فهمت المرنيسي أن الحريم بالنسبة إلى الغربيين، يرتبط بالجنس والإباحية، ومختلف عن الحريم الشرقي.

فاطمة المرنيسي عالمة الاجتماع المغربية- الصورة: “مواقع التواصل الاجتماعي”

حاولت عالمة الاجتماع المغربية أن تستغل لقاءاتها مع الصحفيين الغربيين، وأن تسألهم ماذا تعني لهم عبارة الحريم، معتمدةً على تقنيات الاستجواب في علم الاجتماع؛ لفك لغز فنتازيا الرجل الغربي.

اكتشفت ابنة مدينة فاس أن أفكار الرجل الغربي عن الحريم اكتسبها من لوحات الفنانين “ماتيس” و”أنجر” و”بيكاسو”، مشيرةً إلى أن الصحفيين المنتمين إلى البلدان المتوسطية، كانوا يعرفون الحريم بأنه مكان يعج بدور المتعة الجنسية التي رسمها الفنانون الكبار في القرن الـ19، كلوحة صالون “زنقة لي مولان”، ولوحة “الزبون لادكاردكاس 1879″، وأفلام هوليوود؛ مثل “علي بابا والأربعون حرامي”، التي صورت نساء الشرق في الحريم عاريات، ولا يتقنّ شيئاً سوى الرقص وابتسامات ساذجة ولا يبدين أية مقاومة.

اقرأ أيضاً: إلى مَن يهمه الأمر.. دراسة الفلسفة ليست ترفاً!

حول علاقة المثقفين العرب بالغرب ومثقفيه، تذكر المرنيسي قائلةً: “نحن نعجب بهذه الثقافة وقد نخافها؛ لكن من الصعب علينا أن نحترمها لأنها تمارس علينا العنف، لقد أدركت ذلك من خلال ابتسامات الصحفيين الغربيين، الذين كانوا يسألوني بأننا نحن العرب عاجزون عن عدم تصور الغربيين إلا بصفتهم أعداء أقوياء لو تمكنا من أن نرى فيهم بشراً غير الأناس المتغطرسين ذوي القلوب القاسية، الذين لا يأبهون إلى مآسي البشر على وجه الأرض؛ لو تمكنا من تصورهم كائنات هشة، تختزن أحلاماً ومتناقضات وتتطلع إلى سعادة تستعصي عليهم، لشعرنا أنفسنا أقرب إليهم”.

بحثت فاطمة المرنيسي في المتاحف والمسارح بألمانيا عن صور المرأة المشرقية، فكانت أول لوحة تصطدم بها، هي صورة شهرزاد، التي رسمها فنان ألماني، كانت على شكل امرأة ضخمة ذات وركَين ممتلئتَين، وكان شعرها الطويل كثعابين البحر، يتدلى بين ثدييها المنتفختَين جداً، وكان مكتوباً عليها (ألف ليلة وليلة) بطبعة عام 1985.

غلاف كتاب “ألف ليلة وليلة”

قتل شهرزاد

كانت حكاية شهرزاد مرتبطة لدى المرنيسي بالمرأة الذكية التي وظفت عقلها وثقافتها لحماية نفسها من القتل؛ لكن في المسرح الألماني شهرزاد لا تتقن شيئاً سوى الرقص، لقد كانت مجردة من أقوى أسلحتها؛ أي التكلم، ومن العقل الذي جعلها تنجح في التأثير على أحاسيس زوجها، حين حاولت تصويب كلماتها إلى عقله.. إن شهرزاد الشرقية لا ترقص ولكنها تفكر وتتحدث، على حد تعبير الكاتبة.

تذكر المرنيسي كيف تم تحريف قصة شهرزاد من طرف الكاتب إدجار آلان بو، الذي قتلها في نهاية القصة، معتبراً أن الملك شهريار وجد لذة مرضية في اغتيالها.

اقرأ أيضاً: الفلسفة.. مسيرة العقل البشري

وينهي إدجار آلان بو قصة شهرزاد، بأنها كشفت لشهريار عما وصل إليه الغرب من اكتشافات، وأن الملك حينها لم يحتمل أحاديثها عن تفوق الغرب فشنقها.

تنتقد المرنيسي تصوير الكتاب الأجانب للمرأة الشرقية في حكاية شهرزاد بأنها المرأة المنهزمة التي تتقبل مصيرها، ولا تقاوم.

من المسارح والمتاحف والمكتبات التي تحتفظ بصور المشرقية المثيرة جنسياً والخاضعة لسيدها والمتقبلة للهزيمة، تنتقل عالمة الاجتماع المغربية إلى الفلسفة الأوروبية لكشف علاقة الرجل الغربي بالمرأة وكيف صورها فلاسفتهم.

الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط- الصورة: “غيتي”

كانط وهارون الرشيد

لفهم الغربيين لا بد من قراءة فلسفتهم؛ كانط من أهم الفلاسفة الألمان، يقول: “إن عقل الامرأة العادية مبرمج من أجل الحساسية المفرطة، ولذلك عليها أن تتخلى عن التفكير والمعارف النافعة، وأن تدع ذلك للرجال”.

وحسب كانط “إن المرأة التي يمتلئ رأسها بالإغريقية كشأن السيدة داسي، أو تلك التي تتحدث في الميكانيكا كسيدة الماركيزا دوشاتيلي، يجب أن تكون لها لحية”. “يرى الفيلسوف الألماني أن الأنوثة هي الجمال بينما الذكورة توازي السمو، والسمو يعني القدرة على التفكير”.

   اقرأ أيضاً: قراءات في كتب كبار الفلاسفة 6: رسالتان في التسامح.. جون لوك وفولتير

تتساءل المرنيسي: “كيف للمستبدين في الشرق خلال القرون الوسطى، كهارون الرشيد، كانوا يبحثون عن جوارٍ عالمات، في حين أن فلاسفة مثل كانط كانوا يحلمون بنساء جاهلات في أوروبا في عصر الأنوار؟”.

 وتلفت المرنيسي، في نهاية كتابها، إلى أن الأسلحة التي يمارسها الرجال الغربيون ضد المرأة غير مرئية، معتمدةً على نظرية عالم الاجتماع بيير بورديو، لتفكيك العنف الرمزي الذي مارسه جيراننا الأوروبيون على حريمهم.

وأشار بورديو إلى أن الرجال الغربيين يملون على النساء كيف يجب أن تكون طبيعة أجسادهن، عبر صناعة الموضة التي تجعل من اللواتي تجاوز مقاسهن 38 يشعرن من تلقاء أنفسهن أنهن لا يتناسبن مع المعايير الجمالية المثالية.

تناول بيير بورديو -عالم الاجتماع الفرنسي- العنف الرمزي الذي يمارس على النساء ويجعلهن خاضعات لمعايير معينة لأجل الحصول على القبول الاجتماعي- الصورة: “مواقع التواصل الاجتماعي”

العنف الرمزي

تناول بيير بورديو، عالم الاجتماع الفرنسي، العنف الرمزي الذي يمارسه الرجال على النساء، ويجعلهن خاضعات لمعايير معينة لأجل الحصول على القبول الاجتماعي، وأن قيمتهن تتحدد من خلال نظرة مالكهن؛ ما يجعل المرأة الحديثة مثل أَمَة، لأنها عاجزة عن أن تتحرر من القيود الجمالية التي وضعها صناع الموضة الرجال بطرق غير مرئية.

  اقرأ أيضًا: قراءات في كتب كبار الفلاسفة 5: آراء أهل المدينة الفاضلة…الفارابي

في عروض الأزياء الغربية تتحدد معايير الجمال من خلال نساء نحيفات ملتزمات بحمية قاسية، وملامح شاردة خالية من أية مقاومة، تحاول المرنيسي من خلال نظرية العنف الرمزي أن توضح هوس الغربيين بالحريم، وأن صناعة الموضة والجمال أداة من أدوات هذا العنف غير المرئي الذي يمارسه الرجال الغربيون على حريمهم، وأن لوحاتهم عن الحريم المشرقي التي تصور نساء خاضعات وعاريات، تكشف عن هوسهم المكبوت بحريم خاضع، ورغبتهم الدفينة في امتلاك حريم التي تبخرت بعد ثورة النساء في الغرب.

تختم المرنيسي كتابها بأنها في المغرب يمكن أن تكون حرة في اختيار مقاسها، وأنه لا يمارس عليها العنف الرمزي من طرف صناع الموضة؛ لكن عالمة الاجتماع المغربية كتبت هذا البحث في سياق ما زالت لم تنتشر فيه مواقع التواصل الاجتماعي، التي جعلت من نساء المغرب أيضاً خاضعات لسلطة صناع الموضة الغربيين.

اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

إلهام الطالبي

كاتبة صحفية مغربية

مقالات ذات صلة