الواجهة الرئيسيةترجماتشؤون عربية

كيف حطمت الطبقة السياسية الفاسدة لبنان؟

كيوبوست – ترجمات

محمد بازي

أدى الانفجار الهائل الذي ضرب مرفأ بيروت، مساء الرابع من أغسطس الجاري، إلى سقوط أكثر من 200 قتيل ونحو 6000 جريح، وربع مليون مشرد. وفي الساعات المحمومة التي تلَت الحدث، وبينما كان سكان العاصمة اللبنانية يعالجون الجرحى ويمشطون الأنقاض بحثاً عن ناجين، اعتقد الكثيرون في البداية أن الانفجار كان عملاً من أعمال الحرب أو الإرهاب. وقد كان ذلك افتراضاً طبيعياً؛ فمعظم اللبنانيين لديهم خبرة كبيرة للغاية في ما يتعلق بالضربات الجوية، والسيارات المفخخة؛ مقارنة بالكوارث الصناعية.

اقرأ أيضاً: نكبة بيروت.. ربع مليون مشرد ومئات المفقودين

وجاء الإجماع على أن الانفجار كان في الواقع حادثاً ربما بسبب حريق أشعل 2750 طناً من نترات الأمونيوم المخزنة في الميناء منذ عام 2013، بمثابة صدمة للكثيرين؛ حيث تشاجر مسؤولو الجمارك والسلطات القضائية وقوات الأمن على مدى سنوات، وتبادلوا اللوم حول ما يجب فعله بالمواد الخطرة.

لعبة اللوم

ورداً على المأساة، يلجأ القادة اللبنانيون إلى استراتيجية تبنوها على مدى عقود، وهي إلقاء اللوم على السياسيين والفصائل الأخرى، ونظام فاسد خارج عن سيطرتهم، وإذا فشل كل شيء آخر، فيتم إلقاء اللوم على القوى الخارجية والمحرضين. وقال الرئيس اللبناني ميشال عون، بعد أيام من الانفجار “أنا لست مسؤولاً”. وتابع عون: “ليست لديَّ سلطة التعامل مباشرة مع المرفأ”، قبل أن يشير إلى أن الكارثة سببها “تدخل خارجي”. وألقى الحريري، وهو زعيم سُني ونجل رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، باللوم على “حزب الله“؛ وهو ميليشيا شيعية وحزب سياسي، مدعياً ​​أنه “لا شيء يدخل ويخرج من المرفأ أو المطار دون علمهم”.

رئيس الوزراء اللبناني حسان دياب يعلن استقالة الحكومة في بيروت.. 10 أغسطس 2020- “رويترز”

ومن جانبه، رفض زعيم “حزب الله” حسن نصر الله، بشدة، هذه الاتهامات في خطاب متلفز، وحذر خصومه من محاولة “بدء معركة” مع الحزب على أساس الكارثة. وبينما تبع السياسيون الآخرون هذا الحذو، ونفوا المسؤولية ووجهوا أصابع الاتهام وأطلقوا عبارات واهية، ازداد غضب اللبنانيين من طبقتهم السياسية إزاء حقيقة أنه في الأيام الأولى التي أعقبت الانفجار، لم يغامر أيٌّ من قادتهم بالدخول إلى الأحياء المدمرة؛ حيث كانت العائلات الثكلى تدفن موتاها وتحاول انتشال ممتلكاتها من منازلها المدمرة.

وقام أحد القادة السياسيين المهمين بزيارة إلى المنطقة، ولم يحاول إلقاء اللوم؛ لكنه صادف أنه رئيس فرنسا. وبعد يومين من الانفجار. وبينما ظل السياسيون اللبنانيون بعيدين عن الأنظار في قصورهم المحصنة، قام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بتفقد الميناء المتضرر وطمأنة سكان الأحياء المدمرة.

اقرأ أيضاً: محافظ بيروت: حصر الأضرار سيستغرق وقتاً.. ونواجه نقصاً حاداً في مواد البناء

ولعل أسلوب ماكرون الشعبوي (حيث دفع حارساً شخصياً، في وقتٍ من الأوقات؛ حتى يتمكن من معانقة امرأة تبكي) وانتقاده الضمني للنخبة الحاكمة في لبنان لم يغب عن سكان بيروت. فبحلول الوقت الذي عاد فيه ماكرون إلى باريس، كان أكثر من 50 ألف شخص قد وقَّعوا على عريضة عبر الإنترنت تحثه على “وضع لبنان تحت الانتداب الفرنسي للسنوات العشر المقبلة”.

لكن دعوة فرنسا لإعادة فرض القهر الاستعماري على لبنان تفتقر إلى مفارقة تاريخية مهمة؛ حيث خيَّم الانتداب الفرنسي بعد الحرب العالمية الأولى على لبنان بنظامه السياسي الطائفي، والذي كان يهدف في الأصل إلى حماية مسيحيي البلاد. وحافظت النخب اللبنانية على ترتيبات تقاسم السلطة المعقدة عندما حصلت البلاد على الاستقلال عام 1943، ووافقت دائماً على اختيار رئيس ماروني، ورئيس وزراء سُني، ورئيس شيعي للبرلمان.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال زيارته موقع الانفجار في مرفأ بيروت- لبنان.. أغسطس 2020- “فرانس برس”

وتم تقسيم مقاعد البرلمان في البداية على نسبة ستة إلى خمسة من المسيحيين إلى المسلمين، ثم تم تقسيمها إلى 18 طائفةً معترفاً بها رسمياً. وأصبح النظام أحد الأسباب الجذرية للحرب الأهلية التي استمرت من عام 1975 إلى 1990، وطريقة للقادة الطائفيين لتقسيم وتقاسم الغنائم. (وفي نهاية الحرب، تم توسيع البرلمان وتقسيم المقاعد بالتساوي بين المسلمين والمسيحيين).

وبسبب النظام الطائفي، تعثَّرت المؤسسات السياسية اللبنانية، وظلَّت البلاد تعتمد على حفنة من الزعماء الطائفيين الذين عادة ما يرثون الحكم من آبائهم. وبعد الحرب الأهلية، سيطر قادة الميليشيات السابقون على مختلف الوزارات الحكومية والمؤسسات العامة، ووسعوا شبكات المحسوبية الخاصة بهم إلى أحشاء الدولة. ولا تزال الوظائف الحكومية والعقود والموارد الأخرى تخصص حسب الطائفة؛ وهي عملية تعرف باللغة العربية باسم “المحاصصة”.

اقرأ أيضاً: تداعيات سيطرة “حزب الله” على الحكومة اللبنانية

وقد تنافست كلٌّ من سوريا وإيران والمملكة العربية السعودية والولايات المتحدة وفرنسا على النفوذ في لبنان منذ انتهاء الحرب الأهلية عام 1990. وعلى الرغم من خطابها، على عكس ذلك؛ فإن هذه الدول قد قاومت أي تغيير واسع النطاق للنظام من شأنه أن يترك لها نفوذاً أقل.

نظام مدمر

إذا كانت هناك لحظة لقلب نظام لبنان الطائفي وحكامه الراسخين، فهذه هي اللحظة المناسبة. فعندما أصبح نطاق الدمار، ودرجة الإهمال الرسمي الذي سمح بحدوث الانفجار، أكثر وضوحاً، تجمع عشرات الآلاف في ساحة الشهداء بوسط بيروت في 8 أغسطس، وهم يهتفون ويلتقطون صور سيلفي مع تصوير رئيس لبنان ورئيس الوزراء ورئيس البرلمان كدمى من الورق المقوى، وتم تعليقها على حبال المشانق.

قوات الأمن اللبنانية تحاول حماية مبنى البرلمان من الاحتجاجات الغاضبة.. أغسطس 2020- “أسوشييتد برس”

وقد يؤدي الغضب من الانفجار إلى إحياء انتفاضة شعبية بدأت في أكتوبر 2019، بعد أن أعلنت الحكومة اللبنانية سلسلة من إجراءات التقشف. ودون استهداف رجل قوي واحد أو أسرة حاكمة لتركيز غضبهم عليها، تبنى المحتجون اللبنانيون شعار “كلكن يعني كلكن”. وهؤلاء الذين يبلغ عدهم 12 أو نحو ذلك، هم من قادة حقبة الحرب الأهلية، وغير مستعدين للتنحي وتسليم السلطة إلى جيل جديد.

وسوف تتكلف إعادة إعمار المناطق المتضررة من الانفجار ما يصل إلى 15 مليار دولار، ومن المرجح أن يسرع من الانهيار الاقتصادي في لبنان الذي تزامن مع احتجاجات العام الماضي. ومنذ أكتوبر الماضي، فقدت الليرة اللبنانية، المرتبطة بالدولار منذ عام 1997، 80% من قيمتها في السوق السوداء.

اقرأ أيضاً: أزمة الدولار في السوق اللبنانية تتصاعد.. ومصرف بيروت يسدد الديون

وأدى انهيار العملة، إلى جانب نقص الدولارات، إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية، ونقص السلع المستوردة. وتكافح الحكومة لسداد ديونها، وفشلت في توفير الخدمات الأساسية؛ مثل الكهرباء والمياه وجمع القمامة. حيث يبلغ الدين العام في لبنان 92 مليار دولار أو أكثر من 160% من الناتج المحلي الإجمالي.

وهناك أمل ضئيل في خطة إنقاذ خارجية؛ حيث إن أنصار لبنان التقليديين، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي ودول الخليج؛ مثل المملكة العربية السعودية وقطر، يبتعدون عن تقديم المزيد من المساعدات. ويطالب الداعمون الأجانب أخيراً القادة اللبنانيين بالبدء في إجراء إصلاحات من شأنها في النهاية إضعاف قبضتهم على السلطة، وتقويض النظام الطائفي، من خلال تقليص الرواتب العامة المتضخمة ومكافحة الفساد.

متظاهرون يحملون لافتة في مسيرة في بيروت كتب عليها “كلكن يعني كلكن.. أنتم (الطبقة السياسية) الطائفيون ونحن العيش المشترك” أكتوبر 2019- “رويترز”

وفي مايو الماضي، طلبت الحكومة اللبنانية قرضاً بقيمة 10 مليارات دولار من صندوق النقد الدولي؛ لكن المفاوضات توقفت بسبب النزاعات الداخلية بين المسؤولين الحكوميين والبنك المركزي في البلاد بشأن الإصلاحات ومطالب صندوق النقد الدولي بإجراء تدقيق جنائي لحسابات البنك.

مشنقة تقاسم السلطة

علاوة على ذلك، تتمتع الأحزاب الطائفية بميزة متأصلة على الحركات غير الطائفية الناشئة؛ لأن النظام السياسي في البلاد يعتمد على إنشاء شبكات زبائنية وتوزيع الموارد، خصوصاً لمواجهة النقص الحكومي؛ حيث يعتمد اللبنانيون على زعمائهم الطائفيين وأحزابهم، ليس فقط في الوظائف؛ ولكن أيضاً في الخدمات الاجتماعية، مثل الرعاية الصحية والتعليم والمساعدات الغذائية.

اقرأ أيضاً: كارثة مرفأ بيروت.. مزيد من الأدلة على تورط “حزب الله”

وقد أدى انفجار المرفأ ورد الفعل الذي أعقبه إلى الإطاحة بحكومة رئيس الوزراء حسان دياب، التي تولت السلطة في يناير بعد أن أجبرت الاحتجاجات الشعبية الحريري، أكبر سياسي سُني في البلاد، على الاستقالة. حيث أعلن دياب استقالته في 10 أغسطس، وستستمر حكومته في تصريف الأعمال حتى تشكيل حكومة جديدة؛ الأمر الذي قد يستغرق شهوراً.

حسن نصر الله – فرانس برس

ولن يغير سقوط حكومة دياب مسار لبنان؛ بل سيؤدي إلى لعبة تبادل اللوم والكراسي الموسيقية، مع قيام الزعماء الطائفيين والأحزاب التي هيمنت على السياسة اللبنانية لعقود بتعيين حكومة أخرى. وقبل أيام من استقالته، اقترح دياب أنه سيطلب من البرلمان تقصير مدته والدعوة إلى انتخابات مبكرة. وهذا من شأنه أن يلبي مطلباً رئيساً لاحتجاجات العام الماضي، التي دعَت أيضاً إلى استقالة عون من منصب الرئيس، كما طالبت السياسي الشيعي نبيه بري، بالتنحي عن منصب رئيس مجلس النواب منذ فترة طويلة.

شاهد: فيديوغراف.. الإمارات تتكفل برعاية أسر ضحايا حادث مرفأ بيروت

ويتفوق الزعماء والأحزاب الطائفية في استخدام قوانين الانتخابات البيزنطية في لبنان لصالحهم. ففي الانتخابات الأخيرة، ادَّعى السياسيون أن نظاماً جديداً للتمثيل النسبي، بدلاً من برنامج الفائز يأخذ كل شيء، سيسمح لمجموعات المجتمع المدني والمستقلين بالتنافس ضد الأحزاب القائمة؛ لكن الأحزاب الطائفية فازت فعلياً بجميع المقاعد، وكان إقبال الناخبين أقل من 50%.

لقد أوضحت مأساة بيروت -نتيجة عقود من الإهمال المنهجي وانعدام المساءلة- أن حكومة جديدة وانتخابات نيابية وأحزاباً سياسية جديدة، لن تكون كافية لإنقاذ لبنان. وعلى اللبنانيين تخليص أنفسهم من الزعماء الطائفيين الفاسدين والأحزاب التي هيمنت على البلاد منذ عقود. وعليهم أيضاً القضاء على نظام تقاسم السلطة الطائفي الذي تحول إلى حبل المشنقة حول أعناقهم.

♦أستاذ مشارك للصحافة في جامعة نيويورك، ورئيس مكتب الشرق الأوسط السابق لـ”نيوزداي”.

المصدر: فورين أفيرز

اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

مقالات ذات صلة