الواجهة الرئيسيةترجماتشؤون دولية
كيف تنزلق الولايات المتحدة والصين نحو “دوامة أيديولوجية” و”حرب باردة”؟
تراشق دبلوماسي وتصاعد التوترات بسبب هونغ كونغ

كيوبوست – ترجمات
بول موزور وستيفن لي مايرز♦
واحدة تلو الأخرى، تتوالى ضربات الولايات المتحدة للمبادئ الأساسية لرؤية الرئيس الصيني شي جين بينغ، للصين الصاعدة المستعدة لارتداء عباءة القوة العظمى. ففي غضون أسابيع، فرضت إدارة ترامب عقوبات بسبب السياسات العقابية في هونغ كونغ، ومنطقة شينجيانغ في غرب الصين. واتخذت إجراءات جديدة لخنق الإبداع الصيني؛ من خلال قطعه عن التكنولوجيا الأمريكية، ودفع الحلفاء إلى البحث في مكان آخر، كما تحدت مطالبات الصين في بحر الصين الجنوبي؛ ما يمهد الطريق لمواجهة أكثر حدة.
شاهد: فيديوغراف.. أهلا بكم في الحرب الباردة الجديدة
وقال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، إنه وقَّع على مشروع قانون لمعاقبة المسؤولين الصينيين؛ بسبب قانون الأمن الجديد الذي يحد من حقوق سكان هونغ كونغ، إلى جانب أمر تنفيذي ينهي المعاملة التجارية التفضيلية لهونغ كونغ. وقال راش دوشي، مدير مبادرة استراتيجية الصين في معهد بروكينغز في واشنطن: “إن فجوة القوة تنغلق، والفجوة الأيديولوجية آخذة في الاتساع”، مضيفاً أن الصين والولايات المتحدة قد دخلتا في “دوامة أيديولوجية”.
ولسنوات، استبعد المسؤولون والمؤرخون فكرة ظهور حرب باردة جديدة بين الولايات المتحدة والصين. وذهب الجدل إلى أن ملامح عالم اليوم لا يمكن مقارنتها بالعقود التي كانت فيها الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي متكافئين في صراع وجودي من أجل السيادة. وقيل إن العالم مترابط للغاية؛ بحيث لا يمكن تقسيمه بسهولة إلى كتل أيديولوجية.
سقوط حر
الآن، يتم رسم الخطوط والعلاقات وهي في حالة سقوط حر؛ ما يضع الأساس لمواجهات سيكون لها العديد من خصائص الحرب الباردة؛ بل وما إلى ذلك من مخاطر. وبينما تتصادم القوتان العظميان حول التكنولوجيا والنفوذ، فإنهما تواجهان الخطر نفسه من تصاعد النزاعات الصغيرة إلى صراع عسكري.

والعلاقة مشبعة بشكل متزايد بعدم الثقة والعداء الشديد، بالإضافة إلى التوترات المشحونة التي تأتي مع قوتين تتنافسان على الأسبقية؛ خصوصاً في المناطق التي تتصادم فيها مصالحهما، سواء في الفضاء الإلكتروني والخارجي، أو في مضيق تايوان وبحر الصين الجنوبي، وحتى في الخليج.
وأدت جائحة فيروس كورونا، إلى جانب الإجراءات العدوانية الأخيرة التي قامت بها الصين على حدودها -من المحيط الهادئ إلى جبال الهيمالايا- إلى تحويل التصدعات القائمة إلى أخرى يصعب التغلب عليها، بغض النظر عن نتيجة الانتخابات الرئاسية الأمريكية هذا العام. ومن وجهة نظر بكين، فإن الولايات المتحدة هي التي هبطت بالعلاقات إلى أدنى نقطة منذ إعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين عام 1979، حسب ما قاله وزير الخارجية الصيني وانغ يي، مؤخراً.
اقرأ أيضاً: فرانسيس فوكوياما يكتب: الجائحة والنظام السياسي
وقد أدت الجائحة أيضاً إلى اشتعال التوترات؛ خصوصاً في الولايات المتحدة؛ حيث يشير ترامب إلى فيروس كورونا بعبارات مجازية عنصرية، بينما تتهم بكين إدارته بمهاجمة الصين؛ لصرف الأنظار عن إخفاقها في احتواء الأزمة. بينما ركز ترامب، في بيان ألقاه من حديقة البيت الأبيض، منذ أيام قليلة، بقسوة، على الصين ومنافسه الرئاسي جوزيف بايدن، مشيراً إلى الجائحة باعتبارها “طاعوناً يتدفق من الصين”، وقال إن الصينيين “كان بإمكانهم وقفه”.

ويجبر كلا البلدين الدولَ الأخرى على التحيز، حتى إذا كانت تلك الدول غير راغبة في القيام بذلك. على سبيل المثال، ضغطت إدارة ترامب على الحلفاء -مع بعض النجاح في أستراليا وفي بريطانيا- للتخلي عن عملاق التكنولوجيا الصيني (هواوي) أثناء تطوير شبكات الجيل الخامس. وحثت الصين، التي تواجه إدانة بسبب سياساتها في شينجيانغ وهونغ كونغ، الدول على إبداء الدعم علناً.
كما استخدمت الصين قوتها الاقتصادية الهائلة كأداة للإكراه السياسي، وقطعت واردات لحوم البقر والشعير من أستراليا؛ لأن حكومتها دعت إلى إجراء تحقيق دولي في أسباب الجائحة. وقالت بكين إنها “ستعاقب شركة (لوكهيد مارتن الأمريكية لصناعة الطيران)، على مبيعات الأسلحة الأخيرة لتايوان”.
اقرأ أيضاً: ماذا وراء ذُعر الولايات المتحدة من سيطرة “هواوي” على شبكات الجيل الخامس؟
ومع تشتت انتباه العالم بسبب الجائحة، مارست الصين أيضاً قوتها العسكرية، كما فعلت من خلال اختبار حدودها المتنازع عليها مع الهند في أبريل ومايو الماضيين. وأدى ذلك إلى أول اشتباك مميت هناك منذ عام 1975. وقد يستغرق إصلاح الضرر سنوات. ويبدو أن الصين مستعدة بشكل متزايد لقبول مخاطر مثل هذه الأعمال. وبعد أسابيع فقط، أكدت مطالبة جديدة في أراضي بوتان، المملكة الجبلية التي ترتبط بشكل وثيق مع الهند.
تصدعات عميقة
ومع تهديد الصين لسفن من فيتنام وماليزيا وإندونيسيا في بحر الصين الجنوبي، أرسلت الولايات المتحدة حاملتي طائرات عبر المياه الشهر الماضي في استعراض جليّ للقوة. ويبدو أن الاتجاه نحو المزيد من سياسة حافة الهاوية أمر لا مفر منه الآن، بعد أن أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية أن مطالبات الصين هناك غير قانونية.

وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية تشاو ليجيان: “إن الإعلان الأمريكي سيقوض السلام والاستقرار الإقليميين”، مؤكداً أن الصين سيطرت على جزر البحر “لآلاف السنين”؛ وهو أمر غير صحيح. وأوضح ليجيان أن جمهورية الصين -التي كانت تسيطر عليها، آنذاك، القوات الوطنية لشيانغ كاي شيك- قدمت مطالبة رسمية فقط عام 1948.
اقرأ أيضاً: بعد أزمة كورونا .. هل يتنبه حلف الأطلسي للتهديد الصيني؟
كما أكد ليجيان أن “الصين ملتزمة بحل النزاعات الإقليمية والقضائية مباشرة مع الدول المتمتعة بالسيادة ذات الصلة، من خلال المفاوضات والمشاورات”. لكن ليست هذه هي الطريقة التي يرى جيرانها الأمور بها؛ حيث حذرت اليابان، هذا الأسبوع، من أن الصين تحاول “تغيير الوضع الراهن في بحر الصين الشرقي والجنوبي“. ووصفت الصين بأنها تهديد أكثر خطورة على المدى الطويل أكثر من كوريا الشمالية المسلحة نووياً.
وقال مايكل ماكفول، السفير الأمريكي السابق في روسيا وأستاذ الدراسات الدولية في جامعة ستانفورد، إن المناورات التي قامت بها الصين مؤخراً “بدت أكثر من اللازم، ومبالغ فيها”، وشبهها بواحدة من أكثر اللحظات شراسة في الحرب الباردة، معقباً: “إنها لحظة تذكرني بخروشوف، الذي ظل ينتقد، وفجأة أصبح في أزمة صاروخية كوبية مع الولايات المتحدة”.

ويبدو أن رد الفعل العكسي ضد بكين ينمو. وتبدو التوترات واضحة بشكل خاص في مجال التكنولوجيا؛ حيث سعت الصين إلى التنافس مع العالم في أحدث التقنيات، مثل الذكاء الاصطناعي والرقائق الدقيقة، مع تقييد ما يمكن للناس قراءته أو مشاهدته أو الاستماع إليه داخل البلاد.
اقرأ أيضاً: تسييس “كورونا”.. يشعل فتيل حرب باردة جديدة بين أمريكا والصين
وإذا كان جدار برلين هو الرمز المادي للحرب الباردة الأولى، فقد يكون الجدار الناري العظيمGreat Firewall)) رمزاً افتراضياً للحرب الجديدة. ولعل ما بدأ على أنه انقسام في الفضاء الإلكتروني لعزل المواطنين الصينيين من وجهات النظر التي لم يصرح بها الحزب الشيوعي، أثبت الآن أنه مؤشر واضح على التصدعات العميقة في العلاقة بين الصين ومعظم العالم الغربي.
حرب التكنولوجيا
وقال وانغ، في خطابه، إن الصين لم تسع قط لفرض أسلوبها على البلدان الأخرى؛ لكنها فعلت ذلك بالضبط من خلال جعل منصة “زوم”، تقوم بمراقبة المحادثات التي كانت تعقد في الولايات المتحدة، وشن هجمات إلكترونية على الأويغور في جميع أنحاء العالم.
اقرأ أيضاً: عودة الجاسوسية الروسية.. أهلًا بكم في الحرب الباردة الجديدة
لقد كانت ضوابطها ناجحة بشكل كبير في الداخل في خنق المعارضة والمساعدة في ترسيخ أقدام عمالقة الإنترنت المحليين؛ لكن تلك الشركات لم تُكسبها نفوذاً كبيراً في الخارج. ويهدد تحرك الهند لمنع 59 تطبيقاً صينياً بعرقلة أكبر نجاح للصين في الخارج عبر الإنترنت حتى الآن، وهو تطبيق الفيديو القصير المميت “تيك توك”.

وخلال الأسابيع الماضية، تم إغلاق “تيك توك” أيضاً في هونغ كونغ؛ بسبب قانون الأمن القومي الصيني الجديد هناك. وذكرت شركات التكنولوجيا الأمريكية العملاقة (فيسبوك، وجوجل، وتويتر) أنها ستتوقف عن مراجعة طلبات البيانات من سلطات هونغ كونغ أثناء تقييمها قيود القانون.
اقرأ أيضاً: تأملات في التحدي الصيني والحرب الباردة الثقافية
وقال جيمس لويس، المسؤول الأمريكي السابق الذي يكتب عن الأمن السيبراني والتجسس لمركز الدراسات الدولية والاستراتيجية في واشنطن: “الصين دولة كبيرة، وسوف تنجح، وسوف تطور تقنيتها الخاصة؛ ولكنْ هناك حدود لما يمكنها القيام به”. وحتى الأماكن التي نجحت فيها الصين في بيع تكنولوجيتها، يبدو أن الأمور لم تمضِ بسلاسة. فقد دفعت سياسة بكين الأخيرة المملكة المتحدة إلى منع معدات “هواوي” الجديدة من الدخول إلى شبكاتها، كما أن إدارة ترامب عازمة على فصل الشركة عن الرقائق الدقيقة والمكونات الأخرى التي تحتاج إليها. ولمواجهة ذلك، ضاعفت بكين جهودها لبناء خيارات محلية.
وحث وزير الخارجية، وانغ، الولايات المتحدة على التراجع والبحث عن المجالات التي يمكن للبلدين العمل فيها معاً. وعلى الرغم من ذلك؛ فإن التشاؤم بشأن العلاقة واسع الانتشار، ويستمر المسؤولون والمحللون الصينيون في إلقاء اللوم على إدارة ترامب؛ لمحاولتها صرف الانتباه عن فشلها في السيطرة على الجائحة.
اقرأ أيضاً: الولايات المتحدة.. دروس أمس من الحرب الباردة مع روسيا ذخيرة لمعركة اليوم مع الصين
وكتب تشاو كيجين، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة تشينغهوا، في بحثٍ حديث: “ليس من الصعب أن نرى أنه في ظل تأثير فيروس كورونا في هذا العام الانتخابي الأمريكي، فإن القوى المختلفة في الولايات المتحدة تركز على الصين، في حين تواجه العلاقة بين الصين والولايات المتحدة أخطرَ لحظة منذ إقامة علاقات دبلوماسية بينهما”. وبينما تجنب كيجين فكرة الحرب الباردة الجديدة؛ ربما لأنها لم تعد صياغة بديلة مطمئنة، قال: “الواقع الجديد هو أن العلاقات الصينية- الأمريكية لا تدخل في (حرب باردة جديدة) ولكنها تنزلق إلى (حرب ناعمة)”.
الكاتبان:
♦بول موزور؛ مراسل متخصص في التكنولوجيا والجغرافيا السياسية في آسيا.
♦ستيفن لي مايرز؛ رئيس مكتب بكين لصحيفة “نيويورك تايمز”.
المصدر: نيويورك تايمز