الواجهة الرئيسيةترجماتصحة

كيف تغلَّب العلم على الفيروس؟

كيوبوست- ترجمات

إيد يونغ♦

1.

في خريف 2019 لم يكن هنالك أي عالم يدرس “كوفيد-19″؛ ببساطة لأن أحداً لم يكن يعرف بوجود هذا المرض، ولكنه فجأة قفز إلى مركز اهتمام العلماء في أنحاء العالم، بعد أن وصل عدد المصابين به إلى 750.000 مصاب بحلول شهر مارس 2020.

وحتى كتابة هذا المقال، بلغ عدد الأبحاث الطبية المنشورة 74.000 بحث؛ أي ما يزيد على ضعف عدد الأبحاث التي نُشرت حول شلل الأطفال أو الحصبة أو الكوليرا أو حمى الضنك. يقول إريك روبن؛ رئيس تحرير مجلة “NEJM“، إن فرانسيس كولينز، مدير المؤسسة الوطنية للصحة، قد قال له: “لقد أدى هذا الفيروس إلى تحول في الأولويات لم يسبق له مثيل في التاريخ”.

كما هي الحال في جميع المبادرات الكبرى مثل مشروع مانهاتن وبرنامج أبولو، تركز أبحاث الأوبئة على طاقات عدد كبير من العلماء. فقد أطلقت في الماضي أوبئة مثل الإنفلونزا عام 1918، والملاريا وشلل الأطفال في فترة الحرب العالمية الثانية، وما بعدها، محاور علمية كبيرة. وكذلك الأمر في السنوات الأخيرة؛ حيث أدى وباء إيبولا وزيكا إلى زيادة مفاجئة في التمويل والأبحاث المنشورة. ولكن مادوكر باي، من جامعة مكغيل، يقول: “لا شيء في التاريخ كان قريباً من مستوى ما يحدث الآن”.

فيروس إيبولا أسهم في زيادة تمويل الأبحاث الخاصة بالفيروسات- وكالات

ويرجع ذلك إلى الزيادة الكبيرة في عدد الباحثين والانتشار السريع للوباء، وأيضاً لكونه أصاب دولاً متقدمة في هذا المجال في عقر دارها. قال باي: “لقد ضُربنا في عقر دارنا”.

خلصت دراسة استقصائية شملت 2500 باحث في مختلف الاختصاصات في الولايات المتحدة وكندا، إلى أن 32% منهم قد صرفوا تركيزهم على الوباء. فعلماء الأعصاب بدؤوا بدراسة ظاهرة فقدان المصابين بـ”كوفيد-19″ حاسة الشم، وشرع علماء الرياضيات والفيزياء في إعداد إحصاءات ونماذج لتوقع تطور انتشار المرض؛ ليقدموها لصانعي السياسات الطبية، وعندما علم الدكتور مايكل جونسون، المختص بدراسة تأثيرات النحاس السامة على البكتيريا في جامعة أريزونا، أن الفيروس يعيش لفترة أقصر على الأسطح النحاسية، حول تركيزه إلى دراسة تأثير هذا المعدن على الفيروس. في الحقيقة، لم يخضع أي مرض آخر في التاريخ لهذا القدر من الدراسة في فترة قصيرة مثل هذه.

اقرأ أيضاً: كيف أسهمت جائحة “الموت الأسود” في نقل أوروبا إلى عصر النهضة؟

وقد أثمرت هذه الجهود حقاً. فالآن يمكن لاختبارات التشخيص أن تكتشف وجود الفيروس في دقائق، وتم إنجاز ونشر دراسات مفصلة غير مسبوقة عن الفيروس والمرض، ويجري العمل على تطوير اللقاح بسرعة لم يسبق لها مثيل. وكل هذا سيعمق فهمنا للفيروسات الأخرى أيضاً، ويجعلنا أكثر استعداداً لمواجهة الوباء التالي.

2.

حتى فبراير 2020 كانت جينيفر دودنا، إحدى أبرز علماء الولايات المتحدة، لا تزال تركز اهتمامها على أداة تعديل الجينات التي شاركت في اكتشافها والتي حصلت على جائزة نوبل بفضلها في أكتوبر من العام السابق؛ ولكنها قررت في 13 مارس، مع زملائها في معهد أبحاث الجينات المبتكرة الذي تديره، أن يوقفوا معظم مشروعاتهم الجارية ويصرفوا اهتمامهم إلى “كوفيد-19”.

 وكذلك فعل علماء آخرون كانوا يدرسون أمراضاً أخرى جديدة. لورين غاردنر، أستاذة الهندسة في جامعة جونز هوبكينز، التي درست سابقاً بيانات حمى الضنك وزيكا، علمت من تجاربها السابقة أن الأوبئة الجديدة تصاحبها ندرة في البيانات. فقامت بمساعدة أحد طلابها بإنشاء لوحة بيانات عالمية على الإنترنت؛ لرسم خريطة انتشار وإحصاء أعداد الإصابات والضحايا، وبعد عمل استمر ليلة واحدة، أطلقتها في 22 يناير، وسرعان ما أصبحت مرجعاً للحكومات، ووكالات الصحة العامة، ووسائل الإعلام والمواطنين القلقين.

تشكل دراسة الفيروسات المميتة تحدياً كبيراً في أفضل الأوقات؛ ولكنه في العام الماضي كان أكثر صعوبة من أي وقت مضى. فالعمل على هذا الفيروس يتطلب تطبيق “إجراءات السلامة الحيوية من المستوى الثالث” التي لا يتجاوز عدد المخابر المجهزة بها في الولايات المتحدة 200 مخبر. وعادة ما يجرب العلماء العقاقير الجديدة على القرود قبل تجربتها على البشر؛ ولكن الولايات المتحدة تعاني نقصاً في القرود بعد توقف الصين عن تصديرها، ربما بسبب حاجتهم إليها من أجل أبحاثهم الخاصة. كما خلقت متطلبات التباعد المكاني صعوبات إضافية، فقد اضطر الباحثون إلى العمل في نوبات بأوقات مختلفة لحماية أنفسهم من الفيروس الذي كانوا يدرسونه. أضف إلى ذلك قلة أعداد الخبراء في الأمراض الناشئة؛ فهم الآن على ندرتهم يعملون فوق طاقتهم مستشارين للحكومات والمدارس، والشركات الكبيرة، وتنهال عليهم وسائل الإعلام بالمقابلات، ويسدون النصح للملايين عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

اقرأ أيضاً: الحرب البيولوجية منذ عصر اليونان حتى “كورونا

في ما مضى كان العالم يرسل بحثه إلى مجلةٍ علمية تقوم بدورها بإرساله إلى عددٍ قليل من العلماء للمراجعة، وإذا اجتاز البحث هذه المراحل -وهذا كان يستغرق أشهراً عديدة- تقوم المجلة بنشره. أما الآن فيمكن لعلماء الطب الحيوي تحميل أبحاثهم الأولية على مواقع مفتوحة تسمح لغيرهم من الباحثين بالاطلاع الفوري عليها والبناء عليها. كانت هذه الممارسة تكتسب بعض الشعبية ببطء حتى عام 2020؛ ولكنها أثبتت أنها حيوية للغاية في تبادل المعلومات حول “كوفيد-19″، ويتوقع لها أن تصبح الدعامة الأساسية للبحوث العلمية الحديثة. في بداية العام كان موقع (ميد أركايف) يحتوي على نحو 1000 بحث أولي، وفي نهاية أكتوبر ارتفع هذا العدد إلى 12000.

وهذه البيانات المفتوحة والوسائل المتطورة للتعامل معها وفَّرت مرونة كبيرة للباحثين؛ فقد تمكن العلماء الصينيون من فك شيفرة الفيروس ومشاركتها بعد عشرة أيام فقط من اكتشاف الحالات الأولى. وتوصل العلماء إلى تحديد شكل الفيروس بدقة كبيرة. يقول بارديس سابيتي؛ عالم الجينات في جامعة هارفرد: “نحن نتعلم عن هذا الفيروس بشكل أسرع مما عرفناه عن أي فيروس آخر في التاريخ”.

3.

بحلول مارس، بدا واضحاً أن احتمالات القضاء على الفيروس ضئيلة للغاية، وأصبح اللقاح هو المخرج الوحيد. وبدأ السباق الذي حقق نجاحاً باهراً. كانت عملية إيجاد لقاح تستغرق سنوات من العمل؛ ولكن الآن تجري تجارب على 45 لقاحاً مختلفاً لتحديد مدى فعالية كل منها وسلامته. وقد دخل 12 منها المرحلة الثالثة من التجارب السريرية التي تشكل الاختبار الأخير. وحتى كتابة هذه السطور، أعلنت كل من شركتَي فايزر/ بايونتيك وموديرنا أن النتائج الأولية لهذه التجارب تدل على أن نسبة فعالية لقاح كل منهما تصل إلى 95% في الوقاية من “كوفيد-19”.

تتكون معظم اللقاحات من مسببات أمراض ميتة أو ضعيفة أو مجزأة يتم تصنيعها من الصفر عند ظهور كل مرض جديد؛ ولكن الولايات المتحدة ودول أخرى بدأت بالابتعاد عن أسلوب “فيروس واحد، لقاح واحد” خلال العقد الماضي. وبدأت بالعمل على “تقنيات المنصات الحاملة”؛ وهي عبارة عن هيكل عام فارغ يمكن تحميله بحمولات مختلفة لمواجهة فيروسات جديدة. وعلى سبيل المثال، فإن لقاحات كل من “فايزر” و”موديرنا” هي عبارة عن جزيئات نانوية تحمل أجزاءً من المادة الوراثية للفيروس. وعندما يتم حقنها في الجسم يبدأ باستخدام هذه المادة الوراثية لبناء أجزاء غير معدية من الفيروس تسمح للجهاز المناعي بإعداد أجسام مضادة تقوم بتحييد الفيروس في حال وصوله إلى الجسم. ومع أن هذه التقنية لم تُستخدم من قبل؛ إلا أن وجود “المنصات الحاملة” ساعد الباحثين على إعادة توظيفها من خلال تحميلها بالمادة الوراثية لفيروس “كوفيد-19” وإنتاج اللقاح بأسرع من أي وقتٍ مضى.

شركة “فايزر”: نسبة فعالية لقاح تصل إلى 95%- وكالات

وفي الوقت نفسه، قلَّصتِ الشركات الوقت اللازم لتطوير اللقاح، بأن نفَّذت بالتوازي الخطوات التي كانت عادة تنفذها تباعاً الواحدة بعد الأخرى. وقد موَّل برنامج تسريع العمل الحكومي المعروف باسم “راب سبيد”، عدة شركات في الوقت نفسه؛ وهي خطوة غير عادية، وطلب الجرعات بشكل مسبق من الشركات المطورة واستثمر في منشآت التصنيع قبل استكمال الاختبارات؛ ما قلَّل من مستوى المجازفة بالنسبة إلى شركات الأدوية المشاركة.

ومن المفارقات أن فشل السلطات الاتحادية في السيطرة على الجائحة كان عاملاً مساعداً. تقول ناتالي دين، من جامعة فلوريدا: “لقد سهَّل انتشار الفيروس في كل مكان عملية قياس أداء اللقاح.. لا يمكن إجراء المرحلة الثالثة من الاختبارات في كوريا الجنوبية مثلاً؛ لأن تفشي المرض هناك تحت السيطرة”.

اقرأ أيضاً: المسنون أم العاملون الأساسيون.. مَن يجب أن يحصل على لقاح فيروس كورونا أولاً؟

4.

حتى بعد انقضاء الجائحة، فإن جهود العلماء التي بذلت لمواجهتها سوف تجعلنا أكثر استعداداً لحربنا المستمرة مع الفيروسات. بالنظر إلى الآثار طويلة المدى للعدوى الفيروسية، فلا يزال نحو ربع الذين أصيبوا بفيروس سارس الذي ضرب هونغ كونغ عام 2003 يعانون التهاب الدماغ والنخاع الشوكي، ولذلك عندما انتشر “كوفيد-19″ لم يتفاجأ المصابون بهذا الالتهاب عندما سمعوا أن عشرات الآلاف من المصابين بـ”كوفيد-19” استمرت معاناتهم من الأعراض نفسها. تقول جينيفر بريا؛ المديرة التنفيذية بمجموعة داعمي المصابين بالتهاب الدماغ والنخاع الشوكي: “كان الجميع في مجموعتي يفكرون في هذا الأمر منذ البداية”.

لطالما جرى تجاهل التهاب الدماغ والنخاع الشوكي والأمراض المشابهة؛ مثل خلل الحركة والألم العضلي الليفي، واعتُبرت أعراضها نفسية أو من نسج خيال المريض. كانت الأبحاث المتعلقة بهذه الأمراض تعاني نقص التمويل، ولم يدرسها إلا عدد قليل من العلماء، ولا يُعرف إلا القليل عن كيفية الوقاية منها وعلاجها؛ ولكن ازدياد أعداد المصابين بـ”كوفيد-19″ الذين عانوا أعراضاً مشابهة أجبر المجتمع العلمي على إيلائها المزيد من الاهتمام. وتأمل بريا في أن يضع هذا الأمر أمراض ما بعد العدوى في دائرة الضوء. لم يتمكن مرض التهاب الدماغ والنخاع الشوكي من خلق محور طبي للبحث فيه؛ ولكن “كوفيد-19” أوجد ذلك المحور دون قصد. يقول الدكتور أنتوني فاوتشي إنه رأى العديد من حالات الأعراض طويلة المدى بعد عدوى فيروسية “لم يتح إليَّ التعامل معها بشكل علمي؛ لأنه في مثل هذه الحالات يصعب كثيراً تحديد العامل الممرض، ولكن (كوفيد-19) قد حمل أكثر المواقف غرابة التي يمكن تخيلها، أعداد كبيرة ممن يعانون أعراض طويلة المدى التي سببها بشكل شبه مؤكد فيروس واحد معروف لدينا.. إنها فرصة لا يمكن أن نضيعها”.

اقرأ أيضاً: لماذا قد تستمر قيود جائحة كورونا حتى أبريل المقبل؟

5.

على الرغم من فوائده الكبيرة؛ فإن التركيز على “كوفيد-19” فقط له عدد من الآثار السلبية، ففي العلم عندما يتم التركيز على موضوع واحد فإن المواضيع الأخرى تدفع الثمن. فبسبب إجراءات التباعد المكاني وتحويل التمويل وتشتت العلماء، توقف العمل في الكثير من مشروعات الأبحاث العلمية. وفي الولايات المتحدة توقف نحو 80% من الأبحاث السريرية غير المتعلقة بـ”كوفيد-19″؛ بسبب اكتظاظ المستشفيات وبقاء المتطوعين في بيوتهم. ولم يقتصر الأمر على الأبحاث الطبية؛ بل وصل إلى مختلف حقول البحث العلمي كالبيئة والتغير المناخي وهجرة الطيور.. وغيرها.

وباء “كوفيد-19” هو كارثة فريدة، ومن المنطقي أن يعطيها المجتمع والعلماء أولوية؛ ولكن المحور العلمي الذي نشأ كان مدفوعاً بالانتهازية بقدر ما كان مدفوعاً بالإيثار. فقد خصصت الحكومات والمؤسسات الخيرية والجامعات مبالغ طائلة نحو أبحاث “كوفيد-19”. فقد تلقت المؤسسة الوطنية للصحة وحدها ما يقارب 3.6 مليار دولار من الكونغرس. يقول مادوكار باي، الذي كان يعمل على أبحاث السل الذي يقتل 1.5 مليون شخص سنوياً، ومع ذلك جرى إيقاف أبحاثه. يقول باي: “كلما كان هنالك قدر كبير من المال يكون الجنون.. عندما ضرب إيبولا وزيكا لم يشارك أي من زملائي في التمحور بشأنه، أما الآن فقد تحول نصفنا إلى العمل على (كوفيد-19)، إنه ثقب أسود يبتلعنا جميعاً”.

اقرأ أيضاً: العالم قبل “كورونا”.. كيف غيرت الأوبئة حياة العاصمة موسكو عبر تاريخها؟

وبينما كان معظم العلماء المؤهلين غارقين في الاستجابة للجائحة، كان آخرون عالقين في بيوتهم يبحثون عن دور لهم. وباستعمال الوسائل نفسها التي أدت إلى تسريع البحث العلمي، تمكنوا من الاطلاع على الأبحاث الأولية المنشورة على المصادر المفتوحة، وأخذوا يحللونها بطرق بدائية، ونشروا تحليلاتهم على مواقع الأبحاث الأولية، وأحياناً على مواقع التواصل طلباً للشهرة؛ مما أدى إلى تضليل كبير في كثير من الأحيان.

في 28 مارس ظهر بحث أولي يقول إن الدول التي تعطي لقاح السل بشكل واسع كانت معدلات الوفيات بـ”كوفيد-19″ فيها أقل من غيرها؛ ولكن هذه المقارنة فيها الكثير من المغالطات، فالدول التي ترتفع فيها نسبة المدخنين يكون متوسط عمر الإنسان فيها أطول. هذا ليس لأن التدخين يُطيل العمر؛ بل لأن نسبة التدخين تكون مرتفعة في الدول الغنية، حيث تتوفر خدمات طبية أفضل. ولكن يبدو أن مؤلفي هذا البحث الأولي -الذين كانوا من كلية تقويم العظام في نيويورك- لم يعرفوا كيف يتجنبون هذه المغالطات. قامت أكثر من 70 وسيلة إعلامية بتبني هذا البحث وقدمت العشرات من الفرق عديمة الخبرة تحليلاتٍ مغلوطة حوله. قال باي: “أخبرني أشخاص لا يعرفون تهجئة كلمة السل أنه يمكنهم التوصل إلى الرابط بين السل و(كوفيد-19)، وأحدهم قال لي إنه يمكنهم أن يفعلوا ذلك في غضون 48 ساعة”.

لقاح السل وأحاديث متضاربة عن فائدته في الوقاية من “كورونا”- وكالات

والدوافع وراء هذا التعدي كبيرة؛ فكل أستاذ في الطب الحيوي يشرف وسطياً على ستة طلاب دكتوراه خلال مسيرته المهنية. والمنافسة شديدة والنجاح يتوقف على النشر، والنشر يصبح أسهل في وجود نتائج مثيرة. وهذه العوامل تدفع الباحثين نحو السرعة والاختصار والضجيج على حساب الدقة. وقد عزز الوباء هذا النهج، ففي هذا العالم التواق إلى المعلومات يجتذب أي بحث ينشر تغطية وسائل الإعلام الدولية والمئات من الاستشهادات.

وقد شكل هذا التسونامي من الأبحاث المتسرعة عبئاً إضافياً على الخبراء الحقيقيين الذين يعانون الفصل بين الغث والسمين وفيض المقابلات الإعلامية التي انهالت عليهم والزيادة الكبيرة في الأبحاث الأولية التي يطلب منهم مراجعتها. قال كريستيان أندرسن؛ الباحث في الأمراض المعدية في معهد سكريبس ريسيرش: “اعتادت المجلات الطبية أن ترسل إليَّ بحثَين أو ثلاثة في الشهر، الآن أتلقى منها ثلاثة إلى خمسة أبحاث في اليوم”.

اقرأ أيضاً: فيروس كورونا.. متى نستطيع التوقف عن استعمال الكمامة؟

6.

لقد غيَّر “كوفيد-19” العلمَ بشكل كبير؛ ولكن إذا تحلى العلماء بنفاذ البصيرة، فإن المحور الأساسي لم يبدأ بعد؛ إذ يجب وضع تصور جديد لما يجب أن يكون عليه الطب في المستقبل. في عام 1848 أرسلت حكومة بروسيا طبيباً شاباً اسمه رودولف فيرشو، لدراسة وباء التيفوس في سيليزيا العليا (منطقة تقع بين بولندا وجمهورية التشيك حالياً- المترجم)، لم يعرف فيرشو ما سبب المرض المميت؛ ولكنه لاحظ أن انتشاره يمكن أن يكون بسبب سوء التغذية وظروف العمل السيئة، والبيوت المتلاصقة، وتردي مستوى النظافة، وتدني الخدمات العامة. وهذه مشكلات تتطلب إصلاحات سياسية. قال فيرشو: “الطب علم اجتماعي، والسياسة هي طب واسع النطاق”.

رودولف فيرشو

ولكن وجهة النظر هذه تراجعت كثيراً بعد اكتشاف الجراثيم المسؤولة عن السل والكوليرا والطاعون والدوسنتاريا والزهري، وغيرها. وصار ينظر إلى العوامل الاجتماعية على أنها مُشتِّتات سياسية للباحثين؛ إلا أن هذا التوجه بعيداً عن الطب الاجتماعي بدأ بالتغير في النصف الثاني من القرن العشرين. فحركات حقوق المرأة والحقوق المدنية ومناهضي الحرب ودعاة البيئة خلقت جيلاً من الباحثين الذين “شككوا في شرعية وأيديولوجية وممارسة أي علم.. يتجاهل العدالة الاجتماعية والاقتصادية”، على حد تعبير نانسي كريغر، من جامعة هارفرد. ومنذ عام 1980 عاد علماء الأوبئة إلى دراسة تأثير الفقر والامتيازات والظروف المعيشية على صحة الفرد، إلى درجة لم يكن حتى فيرشو ليتخيلها. ولكن “كوفيد-19” أظهر أن هذا الاهتمام لم يكن كافياً.

نانسي كريغر من جامعة هارفرد- وكالات

في بداية الأمر، وصف السياسيون “كوفيد-19” بأنه “يساوي بين الجميع بشكل كبير”؛ ولكن مع توفر الإحصاءات الديموغرافية تبين أن الوباء كان ينتشر بين الملونين بشكل أكبر، ويسبب بينهم نسبة وفيات أعلى، وعدم التناسب هذا لا يرجع إلى أسباب بيولوجية؛ بل هو ناتج عن عقود من التمييز والفصل العنصري الذي ترك مجتمعات الأقليات غارقةً في أحياء فقيرة ووظائف متدنية الأجور، والمزيد من المشكلات الصحية، وإمكانية أقل في الوصول إلى العناية الصحية؛ وهذه هي المشكلات نفسها التي حددها فيرشو قبل 170 عاماً.

اقرأ أيضاً: دقيقتان لصحتك.. تداعيات فيروس كورونا على أصحاب الوزن الزائد‎

أصبحت الأمور البسيطة مثل استعمال الكمامة والبقاء في المنزل، التي تعتمد فقط على الأشخاص المستعدين لتحمل الانزعاج من أجل الصالح العام، هي الدفاع الرئيسي ضد المرض لأشهر عديدة في غياب أي دواء أو لقاح.

وعندما بدأت الولايات المتحدة في تطبيق إجراءات الإغلاق في مارس، كان السؤال الأكبر الذي يدور في ذهن ويتني روبنسون، من جامعة نورث كارولاينا، في تشابل هيل؛ هو: هل سيبقى أولادنا دون مدارس لمدة عامين؟ بينما كان علماء الطب الحيوي يركزون على المرض والتعافي، كان علماء الأوبئة الاجتماعية “يفكرون في الفترات الحرجة التي يمكن أن تؤثر على مسار حياتنا”، على حد تعبيرها. ولكن معظم الدراسات عن انتشار الوباء في المدارس، لم تكن واسعةً بشكل كافٍ، ولا مصممة بالشكل الصحيح لتعطي نتائج حاسمة. لم تمول أية وكالة فيدرالية أية دراسة واسعة النطاق على مستوى البلاد. وفي حين تلقت المؤسسة الوطنية للصحة المليارات لأبحاث “كوفيد-19” لم يصل إلى المؤسسة الوطنية لصحة الطفل والتنمية البشرية التابعة لها أي أموال.

تقول ألوندرا نيلسون؛ رئيسة مجلس أبحاث العلوم الاجتماعية: “إن دراسة (كوفيد-19) لا تقتصر على دراسة المرض نفسه ككيان بيولوجي، فما يبدو أنه مشكلة واحدة هو في الواقع يمثل مشكلات عديدة مجتمعة. لذلك ما ندرسه في الواقع هو كل شيء في المجتمع، وعلى كل المقاييس من سلاسل التوريد إلى العلاقات الفردية”.

اقرأ أيضاً: فيروس كورونا يفرض تحدياً جديداً أمام العلاقات الصينية- الأمريكية

أمضى المجتمع العلمي سنوات ما قبل الوباء في تصميم طرقٍ أسرع لإجراء التجارب، ومشاركة المعلومات وتطوير اللقاحات؛ مما سمح له بالتحرك سريعاً عندما ظهر “كوفيد-19”. ويجب أن يتركز هدفه الآن على نقاط ضعفه التي كشف “كوفيد-19” عن وجودها؛ كالحوافز المشوهة، والممارسات غير المفيدة والمهدرة، والثقة المفرطة والتحيز الطبي الحيوي. وبذلك يقدِّم المجتمع العلمي الفرصة لعالم العلم كي يمارس واحدة من أهم خواصه؛ وهي التصحيح الذاتي.

♦كاتب في “ذا أتلانتيك” مختص بالشؤون العلمية

المصـدر: ذا أتلانتيك

اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

مقالات ذات صلة