الواجهة الرئيسيةترجماتثقافة ومعرفةشؤون دولية
كيف تصعد النخب السياسية على سلم عواطف الناس؟
تأثير العواطف في صعود النخب السياسية في الغرب

ترجمة كيو بوست –
المصدر: مجلة “فير أوبسيرفر” الأمريكية، بقلم أستاذ العلوم السياسية في جامعة زيورخ السويسرية، المؤلف هانز جورج بيتز.
هنالك حقيقة لا يمكن إخفاؤها في الديمقراطيات الليبرالية المتقدمة، مفادها أن السياسة أصبحت مدفوعة بالعواطف والمشاعر في كثير من الأحيان. وقد أصبحت جاذبة المشاعر هي الدافع الأكثر فعالية وراء نجاح الأحزاب الشعبوية اليمينية. إن التصويت القائم على العاطفة يفسر إلى حد كبير انتخاب دونالد ترامب في الولايات المتحدة، ونتائج استفتاء الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، ومؤخرًا، نجاح حزب “البديل من أجل ألمانيا” في انتخابات البوندستاغ العام الماضي.
اقرأ أيضًا: دراسة جديدة: هل نميل للزحف نحو اليمين كلما تقدمنا بالسن؟
إن ما سبق يعني أن الناس باتوا يحتكمون إلى عواطف بحتة عندما يتعلق الأمر باختيار النخب السياسية الغربية. خذ على سبيل المثال انتصار ترامب في ولاية ويسكونسن. قبل ظهور ترامب، حققت هذه الولاية استفادة كبرى من تجارة التصدير الدولي في المصنوعات ذات القيمة المضافة العالية، ووفرت فرص عمل لأكثر من 20% من القوة العاملة فيها. من الواضح أن المخاوف الاقتصادية لم تكن هي السبب في دفع الناخبين لاحتضان ترامب في هذه الولاية، كما أنهم لم يكونوا راغبين برؤية جدار على الحدود بين المكسيك والولايات المتحدة، وهذا يعني أن هنالك شيء آخر دفع سكان الولاية لمناصرة ترامب، فما هو؟
تقول أستاذة العلوم السياسية في جامعة ويسكونسن، كاثرين جيه كريمر، إن دعم سكان الولاية لدونالد ترامب جاء كاستجابة عاطفية للجوارح النفسية العميقة المتجذرة، الناشئة عن شعور السكان الريفيين بـ”عدم الحصول على نصيب عادل من الاحترام”، إذ “من النادر ما يُنظر إلى أناس في مثل هذه الأماكن”، بل ويجري “رفضهم والتقليل من شأنهم” باعتبار أنهم “عنصريون غير مثقفين”. بعد أن رفضتهم هيلاري كلينتون باعتبارهم “حفنة من البائسين”، فضلوا الانتقام عبر السبيل الوحيد المتاح لهم، مؤكدين من جديد أن الانتخابات هي فرصة سداد الدين.
الضجر والاشمئزاز
تقدّم هذه الواقعة إجابة على أحد الأسئلة المحيرة في السياسة الديمقراطية المعاصرة: لماذا يصوت الفرد ذو العقل السليم لصالح حزب سياسي تخلو برامجه من أيّ أفكار جادة، حول كيفية التعامل مع عدد لا يحصى من التحديات الملحة التي تواجه مجتمعاتنا اليوم؟ لنأخذ على سبيل المثال حزب “رابطة الشمال” الإيطالي، الذي انتقل من تعزيز الفيدرالية من أجل انفصال إقليم بادانيا، إلى احتضان القومية الإيطالية، بما في ذلك الأجزاء الجنوبية.
من المثير أن هذا الحزب صعد في استطلاعات الرأي في الانتخابات الوطنية الأخيرة، متجاوزًا بذلك شركائه السابقين من يمين الوسط. وبالطبع، ليس هناك تفسير منطقي لهذه النتيجة سوى العواطف الخام، الممزوجة بالضيق والاشمئزاز، التي دفعت الناس إلى مساعدة الحزب في تحقيق اختراق على الساحة السياسية الإيطالية.
في كثير من الأحيان، يكاد يكون الاشمئزاز هو العاطفة الوحيدة التي تحفز المواطنين العاديين على الإدلاء بأصواتهم لصالح اليمين الشعبوي. قبل بضع سنوات، اكتشف المراقبون الاجتماعيون سلالة جديدة من الحيوانات السياسية، تسمى “المواطنين الغاضبين”، أو في اللغة الألمانية (Wutbürger). أسس هؤلاء ما اصطلح عليه في ألمانيا “سياسة الغضب”، وفي اللغة الألمانية (Zornpolitik)، التي شرعت مؤخرًا في حملة لدعم الحزب اليميني المتطرف “البديل من أجل ألمانيا”، ردًا على قرار أنجيلا ميركل بفتح الحدود أمام عشرات الآلاف من اللاجئين السوريين. إن هيجان هذا الحزب اليميني المتشدد في الساحة السياسية الألمانية هو جزء من دائرة سياسية أكبر مدفوعة بالعواطف، يشار إليها بمصطلح “الديمقراطية المدفوعة بالغضب”، التي بدورها تهدد بحجب وسحق الحوار المتزن والرزين.
في الماضي، كان يُنظر إلى العواطف في السياسة بشكل سلبي في كثير من الأحيان، بل جرى رفضها كأعراض لعدم النضوج واللاعقلانية. ونتيجة لذلك، لم يدرك فلاسفة اليسار القدماء قوة العواطف، سوى عدد قليل منهم، مثل الفيلسوف الماركسي الألماني أرنست بلوخ، الذي شرح في النصف الثاني من الثلاثينيات كيفية نجاح النازيين في تضليل جزء كبير من السكان الألمان. وما يزال الدرس المستفاد من هذه البصيرة فعالًا حتى هذا اليوم: إن التفكير التكنوقراطي قد يكون رزينًا وفعالًا، إلا أنه يخفق في إشعال وتحريك خيال الناس.
المشاعر المعنوية
يتركز النداء هذه الأيام باتجاه العواطف السلبية إلى حد كبير، سعيًا لتعبئة الغضب والقلق تجاه قضايا معينة، على وجه التحديد، التحديات التي يشكلها الإسلام. وفي هذا الصدد، حقق اليمين الشعبوي استفادة واضحة من هذه “الميزة”، نظرًا للقلق المنتشر في المجتمعات الغربية فيما يتعلق بالمستقبل. ففي فرنسا، على سبيل المثال، أبدى أكثر من 60% من المشاركين في دراسة استقصائية عام 2016 قلقهم بشأن مستقبلهم ومستقبل أبنائهم.
اقرأ أيضًا: عصابات وجماعات إسلامية أيديولوجية في الغرب تعمل كأذرع طويلة لدول أجنبية
في الحقيقة، تواجه الأحزاب اليسارية تراجعًا ملموسًا نظرًا لعدم قدرتها على تقديم استجابات مبنية على العاطفة إزاء مخاوف الناخبين. وهذا بدوره أتاح لليمين الشعبوي فرصة لمعالجة “المشاعر المعنوية” أبرزها الغضب والاستياء. في الفِكر الفلسفي المعاصر، يُعد الاستياء عاطفة أخلاقية تستدعي مفاهيم الصواب والخطأ، وهذا يجدي نفعًا من أصحاب الفكر اليمين المتطرف. ينجم الاستياء عن إحساس عميق بالظلم، ناتج عن تعاملات غير عادلة. وبناء عليه، ارتبطت “سياسة الاستياء” بشكل شبه حصري باليمين الشعبوي، ليسخّر ذلك في تحريك مشاعر الناخبين. كما يعمل اليمين الشعبوي على استغلال عاطفة أخرى لتحريك المشاعر، وهي الحنين إلى الماضي، والرغبة في العودة إلى عصور أقدم، يجري تصويرها على أنه “أفضل” مما هي عليه الأوضاع اليوم.
الخلاصة
في ظل عدم قدرة اليسار على تقديم استجابات مقنعة لمجموعة من الجوارح العاطفية التي أصابت أجزاء كبيرة من السكان في الديمقراطيات الليبرالية المتقدمة، من المرجح أن يحافظ اليمين الشعبوي على سيطرته على قطاع كبير من الناخبين. وبما أن المسائل الثقافية والهوية والعواطف تتفوق على الاقتصاد في نظر الناس العاديين، فمن المرجح أن يستمر اليمين الشعبوي في الحصول على مستقبل سياسي مشرق.
المصدر: مجلة “فير أوبسيرفر” الأمريكية