الواجهة الرئيسيةترجماتشؤون دولية
كيف أعاد مائير داغان “الموساد” إلى مجدها السابق؟

ترجمات-كيوبوست
في مارس 2016، توفي رئيس “الموساد” السابق مائير داغان. غادر داغان “الموساد” في عام 2011، وفي السنوات الخمس الأخيرة من حياته، وبعد تقاعده من “الموساد” عام 2011، أصبح من أكثر منتقدي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. ونُقل عن داغان قوله إنه يشعر بالقلق؛ بسبب القيادة الحالية التي تحكم إسرائيل، في إشارة إلى نتنياهو.
واتهم داغان نتنياهو بالعجز عن القيادة أو التعامل مع التحديات في المنطقة، وخلق مستقبل جديد لها. ونُقل عنه وصف قيادة نتنياهو لإسرائيل بأنها أكبر أزمة تواجه إسرائيل منذ قيامها. ويعزو كثير من الإسرائيليين الفضل إلى داغان في منع إسرائيل من خوض حرب ضد إيران وحلفائها.
لطالما كان أرييل شارون يحترم مائير داغان، واختار له أن يقود وكالة الاستخبارات؛ على أمل أن يُنَشِّط قدرات الردع للمنظمة.. داغان قاد على الفور ثورة في “الموساد” لإصلاح مهمتها، على الرغم من المعارضة الداخلية الحادة.
روني برغمان كتب مقالة عقب وفاة داغان بعد معاناة مع سرطان الكبد، ترجمها “كيوبوست”.
الكاتب: Ronen Bergman
أرييل شارون سَئِم الطريقة السلمية والدبلوماسية لـ”الموساد” بقيادة أفرايم هليفي. وطلب تعيين مدير جديد “مع خنجر بين أسنانه”، كما وصف لأحد مساعديه. مائير داغان كان بالضبط الشخص الذي كان شارون يبحث عنه.

رأى رئيس الوزراء نفسه في داغان، والذي كان يصغره بجيل كامل. عندما التقاه شارون في نهاية الستينيات في سيناء، عيَّن داغان لرئاسة وحدة الاغتيال السرية، زيكيت (وتعني بالعبرية الحرب، وهي الاسم الرمزي لوحدة الكوماندوز ريمون)، والتي عملت بنجاح كبير ضد منظمة التحرير الفلسطينية في قطاع غزة.
إبان تعيين داغان لرئاسة “الموساد” في عام 2002، التقيت شارون وسألته عما إذا كان يعتقد حقًّا أن داغان، الذي كان معروفًا بكونه مقاتلًا جريئًا ولكنه أيضًا متوحش يمسك بزناد في إصبعه، سألته عما إذا كان من شأنه أن يعيد “الموساد” إلى مجدها؟ ورد شارون بأنه لا يوجد لديه شك في أنه على دراية تامة بشخصية وقدرات داغان، واعتبر أنه سيزود “الموساد” بالجرأة والمهنية والعدوانية التي تفتقر إليها. وفي هذه النقطة، كان على حق.
اقرأ أيضًا: هرتسليا 2019.. “الموساد” يدق المسمار الأخير في نعش الخارجية الإسرائيلية
دخل داغان إلى مكتبه في الموساد، وبدأ على الفور العمل، لم يكن متحمسًا للانخراط في مواجهة واسعة النطاق مع العدو؛ بل على النقيض من ذلك، كانت تغلب عليه قناعة بأنه يجب على إسرائيل أن تفعل كل ما في وسعها لتجنب المواجهة العسكرية الشاملة مع جيرانها؛ وهي مواجهة لن تكون قادرة على الفوز بها بشكل حاسم. قال “إن مهمة المؤسسة الأمنية الإسرائيلية -وهو يحاضر مرؤوسيه الجدد في الموساد- أن تبذل قصارى جهدها لدفع الحرب المقبلة إلى أبعد حد ممكن، في حين عليها أن تستخدم كل الوسائل السرية من أجل ضرب العدو واستهدافه بطرق مختلفة”.
مشاجرة في الأعلى
غيَّر داغان تمامًا “الموساد”، وفي فترة قصيرة من الوقت غرس روحًا جديدة من المبادرة والإنجاز في المنظمة. في سلسلة من المحادثات التي لم تُنشر بعد في عام 2013، تحدَّث بكل احترام عن رؤساء “الموساد” الذين سبقوه: “لقد بذل كل منهم أفضل ما في وسعه”. ولأن هذه الكلمات قادمة منه بالتحديد؛ فإنها لم تبدُ كمجاملة.
قرر داغان تفكيك “الموساد” وإعادة تركيبها من جديد وَفقًا لتصميمه. في تقديره، كان لديه “أعلى مسؤولية قانونية”؛ لحماية المواطنين الإسرائيليين من سلسلة من الأخطار والتهديدات. ولتجنب تلك الأخطار، حوَّل داغان “الموساد” إلى منظمة تجمع المعلومات بشكل أساسي. وقد أدَّت هذه العمليات إلى القضاء على العدو.
وروى داغان أيامه الأولى كمدير لـ”الموساد”: “قُلت لأرييل (شارون) إنني أعتقد أنه يجب إجراء تغيير عميق في المنظمة، ولكن عليك أن تقرر-حذرته- ما إذا كنت على استعداد لدفع الثمن؛ لأن الصحفيين ومَن على شاكلتهم سيقفزون عليَّ وعليك، وعلى (الموساد)؛ الأمر لن يكون سهلًا، هل أنت على استعداد لدفع الثمن؟”. قال لي إنه على أتم الاستعداد لفعل ذلك.. “شارون كان يعرف كيف يدعم الأشخاص”.
بدأ داغان بشكل متكرر زيارة مكتب رئيس الوزراء؛ للحصول على التصريحات والتراخيص اللازمة، وضاعف من حجم العمليات التي أُجريت مقارنة مع سلفه. وقال مسؤول كبير في “الموساد” في ذلك الوقت: “كانت أيامًا هستيرية، كان داغان يعمل في الصباح الباكر، ولا يتوقف حتى المساء عن الصراخ على الجميع بأنهم لا ينتجون المطلوب ولا قيمة لهم”. وكلاء “الموساد” في جميع أنحاء العالم، الذين كانوا معتادين على رؤية مدير “الموساد” مرة واحدة كل بضع سنوات -هذا إن رأوه- أصبحوا فجأة يرون داغان على عتبة بابهم ثلاث أو أربع مرات في السنة.

كان داغان يذهب إلى فرع “الموساد” الذي يتعامل مع الوكلاء الأجانب، ويجلس مع المسؤولين، ويطالب بتفسيرات لماذا كان كل شيء يستغرق كثيرًا من الوقت. كان أسلوب إدارته موجزًا، عدوانيًّا، مصحوبًا بضربات متتالية على الطاولة بقبضة يده. “فجأة أدرك وكيل الإدارة أن مدير الموساد اهتم بعملياته وسيشكك فيه ويتحقق منه، ليس من الممكن قبول هراء بعد الآن”.
أدرك داغان الفوضى التنظيمية عندما رأى رؤساء الأقسام أن أوامر المدير هي مجرد توصيات يمكن للمرء أن يتهرب منها؛ لذلك غيَّر التسلسل الداخلي لـ”الموساد”؛ مما جعل الإدارات التنفيذية مسؤولة أمام نائب واحد وجميع الإدارات الأخرى لنائب ثانٍ. كان عليهم فقط تقديم تقرير إلى داغان، ولم يتراجع عن ذلك.
ثمة تغيير آخر يتمثل في خفض قائمة الأهداف. ووَفقًا للإجراءات الداخلية لمجتمع الاستخبارات الإسرائيلي، في نهاية كل عام، يعطي فرع البحوث والتحليل التابع لمديرية المخابرات العسكرية (أمان) درجات لمختلف هيئات جمع المعلومات الاستخبارية على أساس ما إذا كانت قد حققت أهدافها أم لا.
اقرأ أيضًا: هل يخترق “الموساد” الإسرائيلي إيران بالفعل؟
قال داغان في ذلك الوقت لأحد زملائه المقربين: “هذا هو مَن دمَّر (الموساد) إفريم هاليفي (رئيس الموساد قبل داغان)، يعول على الدرجات التي تمنحها (“أمان” الاستخبارات العسكرية).. الأمر أشبه ما يكون بطالب يحصل على درجاته في نهاية العام الدراسي، (الموساد) لا تستطيع فعل كل شيء، أنا لا يهمني إرضاء (أمان)”.
أعلن داغان أن “الموساد” لن تتناول من الآن فصاعدًا سوى مسألتَين: البرنامج النووي الإيراني، والإرهاب الذي يحدث خارج حدود دولة إسرائيل؛ أي دعم إيران وسوريا لحزب الله و”حماس” والجهاد الإسلامي الفلسطيني. “الموارد محدودة”، يقول داغان. ويضيف: “نحن لسنا الولايات المتحدة، وإذا واصلنا افتراض أننا يمكن أن نفعل كل شيء، في النهاية لن نكون قادرين على القيام بأي شيء”.
كل شيء تقريبًا لم يكن مرتبطًا بهذه الحدود التي وضعها داغان -حتى لو كان إنجازًا ذكيًّا كبيرًا يُحسب للموساد- “كان ذلك بسبب الإرهاق الشديد الذي يعانيه داغان”، أحد الحاضرين في اجتماعات القيادة شَبَّه ذلك بقوله: “يمكن أن تجلب له مسؤولًا عربيًّا كبيرًا، سوف يقوم باغتصاب الطاولة ويقول (ليس مهتمًّا لهذا المسؤول)”.
وفي الوقت نفسه، أنشأ داغان وحدة جديدة “توفنا”؛ تهدف إلى “تبسيط التعاون بين المنظمات”.. في الواقع، تم تصميمها لتوفير رقابة صارمة على جميع طلبات وكالات الاستخبارات المختلفة؛ للحصول على مساعدة “الموساد”، خصوصًا من “أمان”.
وضع داغان حليفًا موثوقًا فيه على رأس هذه الوحدة، وطلب من الجميع أن يشير إليه بالاسم الرمزي “السيد K”؛ بما في ذلك في أثناء الجلسات المغلقة. بدأ “السيد K” الذي كان يعتبر شخصًا صعب المراس، حربًا تصورية بين وحدة “الموساد” و”أمان سيجينت 8200″.
ووافق “السيد k” تقريبًا على العمليات التي تطرقت إلى الموضوعات التي حددها داغان. وافق “السيد K” بشكل حصري تقريبًا على العمليات التي استوفت معايير داغان ذات الأهمية. وبعبارة أخرى؛ إذا طلب “8200” مساعدة “الموساد” بشأن موضوع لم يرَ فيه داغان أهمية لعمليات “الموساد”، فلن تتم الموافقة على الطلب.
وصل الأمر إلى حد أنه طلب من الضباط من منظمات أخرى في مجتمع الاستخبارات عدم الذهاب إلى مقر “الموساد” لحضور اجتماعات “توفنا”، ومناداة “السيد K” باسمه الأول؛ لإزعاجه.
تغييرات داغان في الموساد ذهبت إلى مدى بعيد، وفي غضون عام ونصف العام أُعيد تنظيم المنظمة برمتها على الأسلوب الذي يروق له.

مثل دبابة تحتل تلة
الثورة الحقيقية في “الموساد” تتعامل مع جانب آخر تمامًا، وسوف تؤثر لسنوات عديدة قادمة (بشكل إيجابي أو سلبي، يعتمد ذلك على مَن تسأل). تصرف داغان على عكس معظم رؤساء “الموساد” عندما قرر تغيير -بشكل كبير- أسلوب تعامل “الموساد” مع أجهزة المخابرات الأجنبية.
لسنوات، تجنَّبت “الموساد” الاتصال القريب مع معظم الوكالات الأجنبية في غالب العمليات. وبينما كانت هناك دائمًا علاقات وثيقة مع بعض الوكالات الأجنبية؛ مثل الولايات المتحدة وألمانيا والمملكة المتحدة وفرنسا ودول أوروبية أخرى، لم تقدم “الموساد” سوى معلومات قليلة جدًّا من طرفها إليها.
جاء داغان وغيَّر ذلك الأسلوب، قال مسؤول سابق في الموساد: “داغان جاء بعقلية قائد كتيبة دبابات يحتاج إلى غزو تلة”.. “من الواضح أن كل الدبابات لن تصل، ومن الواضح أن بعض جنودنا سوف تصيبهم النيران الصديقة؛ ولكن بالنسبة إليه طالما الدبابات ذهبت إلى الأمام وحقَّقت الهدف في النهاية، فليس من المهم ما يحدث خلال ذلك.. في كل مرة يأتي الناس للحديث مع داغان عن مخاطر التعاون مع الوكالات الأجنبية؛ مثل تسرُّب المعلومات، وفضح أسرار وأشياء من هذا القبيل، كان يقول: (لا أريد أن أسمع هذا الهراء، اذهب للعمل معهم)”.
من وجهة نظر داغان، يجب على “الموساد” التعاون مع وكالات الاستخبارات الحكومية في الدول الأجنبية؛ لأن هذا التعاون من شأنه أن يمد “الموساد” بالمعلومات المطلوبة. داغان أيضًا لاحظ أن الزمن تغيَّر، وكانت أمامه فرصة تاريخية. في الماضي، لم يكن أعداء إسرائيل بالضرورة أعداء أوروبا، وبالتأكيد ليسوا أعداء جيران إسرائيل (كما في حالة منظمة التحرير الفلسطينية)، ولكن في عهد داغان كانت المصالح متطابقة في بعض الأحيان.. الجميع يكرهون بن لادن مثلًا، العالم كله كان ضد دعم إيران لحزب الله، ولا أحد يريد أن يمتلك نظام آية الله قنبلة نووية.
اقرأ أيضًا: ما التغييرات التي طرأت على الموساد الإسرائيلي في السنوات الأخيرة؟
داغان فرض رؤيته على بقية جهاز “الموساد”، وأثبت في وقت قصير أنه كان على حق. وأصبح التعاون مع وكالات الاستخبارات في جميع أنحاء العالم؛ بما في ذلك وكالات الاستخبارات الأخرى في الشرق الأوسط، أحد الإنجازات الأساسية التي حققها “الموساد” في ظل إدارة داغان. من جهة أخرى، رأى البعض أنه سيحين في يوم من الأيام وقت ما لدفع الثمن لذلك التوجه، وسيكون “الموساد” مكشوفًا للعيان.
قال أحد معارضي داغان في عام 2009: “سنفشل في الحفاظ على الأسرار التي لطالما حافظنا عليها بفضل التحفظ الإسرائيلي، والضرر على المدى الطويل سيكون هائلًا”، كان ذلك قبل عملية الاغتيال الفاشلة لمحمود المبحوح في دبي، وهو فشل يُلام عليه داغان.
ولكن هذه المخاوف لم تكن ذات أهمية لداغان؛ حيث كانت القضية الإيرانية في مقدمة أولوياته، إذ كان يرى أن هذه المسألة تشكل تهديدًا لوجود دولة إسرائيل، وركز كل الموارد للحصول على أية معلومات تفيد في هذا الخصوص.
ولم يمضِ وقت طويل على رؤية نتائج إيجابية تمثَّلت في تأخير المشروع النووي الإيراني وإحباط سلسلة من عمليات نقل الأسلحة إلى “حماس” وحزب الله والجهاد الإسلامي الفلسطيني. ووَفقًا لتقارير غير إسرائيلية، فإن هذه التعطيلات شملت تخريب شحنات الأسلحة إلى إيران، فضلًا عن الانفجارات في المحطات النووية، وإنشاء وغرس البرمجيات الخبيثة المتطورة في أنظمة الكمبيوتر الإيرانية، واغتيال كبار العلماء النوويين الإيرانيين.
وعلى رأس هذه النجاحات تأتي عملية مهمة: اغتيال عماد مغنية، والتي نُسبت إلى “الموساد”؛ وهي ضربة لم يتعافَ منها حزب الله.
هذه العملية رفعت داغان إلى القمة، وقادت إلى فهم عميق بأن النصر يمكن أن يكون رمزيًّا. ليس هناك شك في أن مائير داغان في مجتمع الاستخبارات الإسرائيلي منه والدولي، والذي هو مليء بالشخصيات الأسطورية، كان استثنائيًّا في جديته؛ لتحقيق الأهداف التي حددها لنفسه.. ويعود ذلك إلى قدرته على التفكير خارج الصندوق؛ إذ أعاد داغان تشكيل تصور “الموساد” للعمليات الخاصة، وأصبح واحدًا من أكثر الناس تأثيرًا في تاريخ الجهاز.
المصدر: ynetnews