الواجهة الرئيسيةترجماتثقافة ومعرفة

كيف أسهمت التكنولوجيا في نشر الخرافات والشعوذة؟

جولة داخل عالم طرد الأرواح الشريرة عبر الإنترنت

كيوبوست – ترجمات

عندما ينشر راقي أبو ذر بثاً مباشراً على “فيسبوك“، تبدأ تعليقات متابعيه -الذين يزيد عددهم على 50,000- بالتدفق على الفور. ويتمتع أبو ذر الملتحي ذو النظارة الطبية، بالأسوب البسيط لمضيف البرامج الإذاعية بإعداده الصوتي المتقن الذي يثير شعوراً معيناً بالانتماء إلى المجتمع؛ حيث يقدم نفسه، ويطلع المشاهدين على أحوال العملاء السابقين، ويشكر الجميع على دعائهم.

وعلى صفحة أبي ذر، هناك ثلاثة أنواع من مقاطع الفيديو؛ الأول هو الإجابات عن أسئلة المشاهدين بشكل مباشر؛ حيث يلقي الضوء -ولو بشكل عابر- على المشكلات الشخصية ومشاعر القلق الخاصة بالرجال والنساء الذين يشكلون عملاء أبي ذر، والذين يبدو أن أغلبهم من جنوب آسيا. فنجد أحد الأقارب يعاني اكتئاباً شديداً، ويعتقد والداه أنه ممسوس. يتساءل هل يمكن للجن أن يدخل أجسادنا ويجعلنا عدوانيين ونضرب شخصاً ما؟ في كل مرة أذهب فيها إلى الحمام أسمع صوتاً باللغة الأردية يقول “تعال معي”؛ هذا يحدث لي منذ 10 سنوات.

اقرأ أيضاً: 6 آثار يتركها استخدام وسائل التواصل الاجتماعي على عقلك

أما النوع الثاني، فهو النوع المعلوماتي؛ حيث يقوم أبو ذر بفحص علامات السحر الأسود، وهو النوع الذي يقودك إلى مشاهد سريالية؛ ففي أحدها يرتدي أبو ذر القفازات ويحمل مجرفة، ويذهب للحفر في حديقة العميل، وتسفر جهوده عن إيجاد إناء فخاري مليء بالعدس الأسود، وليمون مقسم مثقوب بالإبر، وجرة بها خصلات شعر معقود. ويقول للكاميرا: هذه كلها علامات على السحر؛ السحر الأسود. وهناك علامات أخرى: مسحوق أحمر أسفل الوسائد، يشبه الدم الجاف، والخدوش أو الكدمات غير المبررة على جسمك.

أما مقاطع الفيديو التي لا تستطيع مقاومة مشاهدتها؛ فهي تلك التي يقوم فيها ببثٍّ مباشر لعملية طرد الأرواح الشريرة. وبينما يقرأ أبو ذر، المقيم في المملكة المتحدة، آياتٍ قرآنية على خلفية صرخات خارقة، يقول أحد المعلقين: “هذا يجعل قلبي مضطرباً”. ويقول آخر: “أنا خائف”. وفي مقاطع الفيديو الحديثة، لا يمكنك رؤية الأشخاص الذين يتم تنفيذ عمليات طرد الأرواح الشريرة عليهم -يمكنك سماعهم فقط- ولكن مقاطع الفيديو القديمة تعرض أجساداً ترتجف وتتلوى وتصاب بإغماءات. والفيديو الأكثر شعبية له، الذي حصد أكثر من 7.8 مليون مشاهدة، يعرض عملية طرد روح شريرة لـ”جن يهودي”.

أيوب الطيب إمام مسجد في يوركشاير يخرج روحاً شريرة من هذه المرأة بينما ترفع طاولة وتدفعه للخلف.. 2018- “دايلي ميل”

ولن يقوم أي خبير جدير بالاحترام بإجراء تشخيص بناءً على تعليقات “فيسبوك”؛ لكن الإحساس العام الذي تحصل عليه من صفحة أبي ذر هو أنها تجتذب الأشخاص الذين يكافحون من أجل التأقلم. ومن الصعب الحصول على بيانات نهائية، إلا أن الأبحاث تشير إلى أن دول جنوب آسيا لديها معدل انتشار أعلى للاضطرابات العقلية الشائعة -بما في ذلك الاكتئاب، والقلق، ومختلف أشكال الذهان- مقارنة بالمتوسط العالمي.

اقرأ أيضاً: ماذا تعرف عن الاكتئاب.. وما أسرع الطرق لعلاجه؟

كما يبدو أن المهاجرين من جنوب آسيا سريعي التأثر بشكل غير عادي، فقد أفادت دراسة من المملكة المتحدة أن معدلات الاكتئاب والقلق أعلى بشكل ملحوظ لدى الرجال الباكستانيين في منتصف العمر، والنساء الهنديات والباكستانيات الأكبر سناً، وأن النساء المهاجرات من جنوب آسيا أكثر عرضة لإيذاء الذات. أما الإحصاءات المتعلقة بالدين فهي أكثر صعوبة. ووفقاً لمسحٍ أجري عام 2018، فإن 32% من الشباب المسلمين البريطانيين عانوا أفكاراً انتحارية في مرحلة ما، و52% عانوا الاكتئاب، و63% عانوا القلق. وفي مقابل ذلك، نجد 16% فقط من الأشخاص في المملكة المتحدة ككل يعانون “اضطراباً عقلياً شائعاً”؛ مثل الاكتئاب أو القلق.

وما نعرفه من البحوث والأدلة المتداولة أن المجتمعات المسلمة تتخوف بشكل خاص من طلب المساعدة الطبية في ما يتعلق بالاضطرابات النفسية. كما لا يقتصر العلاج بالإيمان على الإسلام فقط؛ حيث توجد أشكال الاستحواذ على الروح في جميع الأديان تقريباً، من الديانات الإبراهيمية إلى المعتقدات الأصلية والشعبية. فطرد الأرواح الشريرة شيء معروف في الكاثوليكية، وهو شائع أيضاً في “الخمسينية”؛ وهي حركة مسيحية بروتستانتية تنمو بسرعة عبر إفريقيا وأمريكا اللاتينية.

أفراد من الجالية المسلمة في فرنسا خلال طقوس طرد الأرواح الشريرة- “أسوشييتد برس”

وفي الولايات المتحدة، تميل هوليوود إلى إصدار فيلم واحد على الأقل كل عام حول طرد الأرواح الشريرة. ووفقاً لمسح أجراه موقع “يوجوف” عام 2013، فإن أكثر من نصف الأمريكيين يعتقدون في الاستحواذ الشيطاني. وفي العام الماضي، وبعد صيف من الاحتجاجات في الولايات المتحدة، اتخذت عمليات طرد الأرواح الشريرة منحى العدالة الاجتماعية في حالتَين على الأقل في بورتلاند وسان فرانسيسكو؛ حيث قام رؤساء الأساقفة بعمل طقوس لتطهير مواقع الاحتجاج من “الشر العالق”.

اقرأ أيضاً: كيف تنظر إلى “فيسبوك”؟

ومع ذلك، لطالما كانت العلاقة بين العلاج بالإيمان والطب النفسي يشوبها التوتر. ويعرب الطبيب النفسي السوداني، مالك بدري، عن أسفه في كتابه «معضلة علماء النفس المسلمين» الذي نشر لأول مرة عام 1979؛ حيث يقول: “علم النفس بكل مخرجاته ومشتقاته قد اتخذ مكانة الدين في الغرب، وحل محله بالنسبة إلى كثير من الناس. فهل يحتاج المسلمون حقاً إلى علم النفس الحديث؟ هل علم النفس الحديث غربي بالكامل؟ هل هناك طريقة يمكن من خلالها التوفيق بين علم النفس والإسلام؟”.

ويقول هارولد جي. كونيغ؛ أستاذ الطب النفسي والمدير المؤسس لمركز ديوك للروحانية واللاهوت والصحة: منذ ظهور الطب النفسي الحديث، تم التعامل مع مثل هذه الصياغات -عبر مختلف الأديان- بنفور شديد؛ حيث كان هناك تقليد طويل في الطب النفسي لإثناء الناس عن الانخراط في مثل هذه الممارسات بسبب كتابات علماء النفس الغربيين المشهورين مثل فرويد، والتي تقول إن “الدين عصابي، وإن المعتقدات الدينية مضللة وغير صحية للناس. وقد كان هذا هو الوضع خلال المئة عام الماضية”.

نماذج تطبيقات وبرامج الشعوذة على الهاتف

ومن ناحيةٍ أخرى، فقد جعلت التكنولوجيا العلاج بالإيمان أكثر سهولة من أي وقت مضى؛ حيث تتوافر تطبيقات مثل “رقية” على متجر تطبيقات “جوجل”، ويعج موقع “يوتيوب” بدورات تدريب متعددة عن الرقية ومقاطع الفيديو التي يعقد فيها رجال، لديهم ادعاءات مشكوك فيها بالخبرة، جلسات حول موضوعات؛ مثل الحوسبة الكمية والشياطين والفيروسات والجن. ويحذر أحد القادة الروحيين، وهو يرتدي زي السلطان العثماني، “ابتعدوا عن التكنولوجيا”. (يبدو أن المفارقة المتمثلة في إعلان هذا عبر “يوتيوب” قد فاتت عليه).

اقرأ أيضاً: هل يحتاج الناس إلى الدين والفلسفة؟

ويمتد هذا التطور إلى ما هو أبعد من الممارسات الإسلامية. ففي عام 2018، بدأ الكرادلة الكاثوليك الرومان في تعليم الطامحين كيفية إجراء طرد الأرواح الشريرة عبر الهاتف المحمول، متذرعين بالزيادة في الاستحواذ الشيطاني. وقد سبقهم طارد الأرواح الشريرة من جنوب آسيا إلى هذا الشكل منذ فترة طويلة؛ حيث تنشر صحف المهاجرين التي تصدر باللغة الأوردية في نيويورك إعلانات من مدينة جوجرانوالا عن “بابا جن والا” منذ عدة سنوات الآن، وهو يقدم خدمة طرد الأرواح الشريرة عبر تطبيق واتس آب، ويدعي أنه متخصص في الجن المسلم، وغير المسلم على حد سواء، ويؤكد للعملاء المحتملين أن مهاراته لها آثار فورية وتتمتع بضمان 24 ساعة في الخارج!

إن التكنولوجيا الحديثة، مثلها مثل المرض العقلي، يسهل تفسيرها من خلال عدسة الخوارق، كما أنها أصبحت معقدة على نحو متزايد، وأدت إلى تفاقم انجراف الشعور نحو المجهول؛ فتقرأ عنواناً لفيديو على “يوتيوب” يقول “هل تأتي التكنولوجيا من الجن؟”. (وتأتي الإجابة المختصرة وفقاً لمقدم الفيديو: نعم). ويتساءل شخص ما في مكان آخر في منتدى إسلامي على الإنترنت: “هل يمكن للجن استخدام التكنولوجيا؟”. ويفكر آخر “أتساءل عما إذا كان لديهم حسابات على (فيسبوك) أو (تويتر)؟”. ويقول آخر: “أتساءل عما إذا كان الجن يمكن أن يكون ثنائي القطب؟”. ثم يرد أحدهم: “في الواقع، لقد صادفت الجن في صفحة للرقية على (فيسبوك)”.

أجرى لارسون نحو 20 ألف عملية طرد للأرواح الشريرة خلال 30 عاماً.. والآن يستخدم سكايب مع عملائه.. الولايات المتحدة- “دايلي بيست”

سواران سينغ؛ أستاذ الطب النفسي في جامعة وارويك بالمملكة المتحدة، الذي كان يقدم الرعاية النفسية المنزلية في وسط مدينة برمنجهام، والتي، كما يشرح، كانت باكستانية بنسبة 100% تقريباً. “يمكن بسهولة أن تُسيء العائلات تفسير العلامات المبكرة للذهان؛ مثل المزاجية والانفعال والعزلة، على أنها اضطرابات سن المراهقة”.

اقرأ أيضاً: لماذا تجعلنا وسائل التواصل الاجتماعي أكثر غضباً وتطرفاً؟

وطالما أن الأعراض غير واضحة، فإن التفسيرات التي يقدمها المجتمع الباكستاني أو المجتمع المسلم كانت مماثلة للتفسيرات التي يقدمها أي مكان آخر؛ فهي إما مرتبطة بالعمل وإما العلاقات وإما النظام الغذائي السيئ الذي يتبعونه، لكن في اللحظة التي تظهر فيها الأعراض الذهانية، وفي اللحظة التي يسمع فيها الشخص أصواتاً أو يصبح مضللاً أو يبدأ في الاعتقاد بأشياء غريبة -معتقدات تآمرية أو شعور بالاضطهاد- ففي المجتمع الباكستاني، تتغير التفسيرات (لتصبح) خارقة للطبيعة؛ وأكثرها شيوعاً هو السحر الأسود أو الجن.

وفي عام 2013، نشر سينغ دراسة مدتها خمس سنوات حول سبب وصول المرضى من الأقليات العرقية إلى خدمات الصحة العقلية في حالة مرضية أكثر خطورة من بقية السكان. وقال لصحيفة “جاغرناوت”: “إن ما يقرب من نصف الحالات التي جاءت إلينا، لجأت في البداية إلى معالج ديني”. وتقول الدكتورة فرحة عباسي، الطبيبة النفسية في ديترويت ومُنظِمة مؤتمر الصحة النفسية للمسلمين: “إن الناس قد يجدون صعوبة في بعض الأحيان في التمييز بين الأوهام الدينية والتجارب الروحانية”.

قُتلت نائلة ممتاز على يد أربعة من أفراد عائلتها ومشعوذ في برمنجهام.. إنجلترا- “بي بي سي”

وليس كل الأئمة أو المعالجين الإيمانيين قادرين على العمل مع إخصائيي الصحة العقلية؛ ففي أعقاب 11/9، أدت عمليات التدقيق والمراقبة التي تمت على المسلمين إلى توليد شعور بجنون الارتياب في المجتمعات المحلية في جميع أنحاء الغرب. ولأنها امرأة لا ترتدي الحجاب، فقد واجهت عباسي شكوكاً مستهجنة من الأئمة الذين تواصلت معهم في العديد من المساجد، ومن المرجح أن يُنظر إلى غير المسلمين بقدرٍ أكبر من الشك.

اقرأ أيضاً: ماذا تعرف عن أكثر الاضطرابات العقلية شيوعاً في العالم؟

وفي بعض الأحيان، لا يكون الأئمة والمعالجون الإيمانيون جزءاً حتى من المعادلة؛ ففي سبتمبر 2012، على سبيل المثال، أُدين 4 أفراد من الأسرة نفسها بقتل نائلة ممتاز، البالغة من العمر 21 عاماً، في برمنجهام؛ وهي حامل في شهرها السادس، تم خنقها حتى الموت بعد عام من زواج مرتب أحضرها إلى المملكة المتحدة. وادعى الدفاع أن الأقارب كانوا يحاولون تخليصها من استحواذ شيطاني.

وفي ماليزيا، منذ عام 2010، تطلب الحكومة من المعالجين الإيمانيين الحصول على تراخيص ممارسة. وفي باكستان، بُذلت جهود للقيام بالشيء نفسه عام 2017، بعد أن قتل أحد المعالجين الإيمانيين 20 تلميذاً في مدينة سرغودها على مدار ليلة واحدة؛ ولكن لا يوجد أي قانون منظم آخر في جنوب آسيا، أو الولايات المتحدة، أو المملكة المتحدة.

♦صحفية باكستانية تقيم بين كراتشي ومكسيكو سيتي، وتكتب عن سياسات الهوية، والصراع العرقي، والعدالة الاجتماعية.

المصدر: بوليتزر سينتر

اتبعنا على تويتر من هنا

 

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

مقالات ذات صلة