الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفة
كيف أثرت تجارب فروم الشخصية على مشروعاته الفكرية؟

كيوبوست- إلهام الطالبي
لماذا لا يزال الإقبال على شراء كتاب إيريك فروم “فن الحب” مستمراً إلى يومنا هذا؟ ولماذا احتل لعامَين ونصف العام المرتبة الأولى في قائمة الأكثر مبيعاً؟ ولماذا يمنح أساتذة الدين تلامذتهم خلال تخرجهم في الثانوية العامة أحد كتب إيريك فروم هدية؟ يسأل راين فونك، المحلل النفسي الألماني، ومدير مركز الدراسات، إيريك فروم، في جامعة التحليل النفسي الدولية في برلين.
كيف تحول إيريك فروم من يهودي متدين إلى بوذي؟
كانت هناك مقولة شائعة بين الطلبة في هايدلبيرغ: “اجعلني مثل إيريك فروم؛ حتى أتمكن من الذهاب إلى الجنة”؛ ما يكشف كيف كان فروم حينها يهودياً متديناً، يدرس بجد ليصبح باحثاً تلمودياً مثل أسلافه.
اقرأ أيضًا: كيف يمكن لعلم النفس أن يساعدنا على العيش بطريقة أفضل؟
وُلد فروم في فرانكفورت عام 1900، من عائلة يهودية متدينة، لذلك كانت القطيعة بين دين والدَيه بالنسبة إليه أمثل طريق نحو استكشاف العلاقة بين الإنسان والدين دون الإحساس بأن هناك ما يُثقل كاهله.
من يهودي متدين إلى ملحد؛ لكنه سيعود إلى الدين من خلال البوذية، ومن ثمَّ سيمارس طقوسَ بوذية “زن”، حسب راين فونك.
“الإنسان المعاصر غير مستقر”
في الخمسينيات من القرن الماضي، أدرك الفيلسوف الاجتماعي أنه على الرغم من أن المجتمع الحديث منظم تماماً وقادر على تحقيق أعلى أداء تقنياً؛ فإنه أسهم في خلق إنسان وحيد وغير سعيد، حسب تفسير فروم، “فإن الإنسان المعاصر غير مستقر، ولديه القابلية للخضوع لسلطة، وإغراءات الوعود المادية بالسعادة”.
كان فروم مقتنعاً بأن ثقافة العالم الغربي تتعارض مع الاحتياجات الإنسانية الجوهرية؛ لهذا انتقد بشدة “المادية” و”الاستهلاك”.

المنفى
درس فروم علم النفس والفلسفة وعلم الاجتماع، ودرَّس كمحاضر في “معهد ماكس هوركهايمر للبحوث الاجتماعية”، قبل أن يغادر ألمانيا في عام 1933؛ بسبب انتصار النازيين.
عاش في المنفى بالولايات المتحدة الأمريكية، ودرَّس في نيويورك لفترة طويلة، وفي عام 1950 انتقل إلى المكسيك؛ حيث عمل أيضاً كأستاذ جامعي ومحلل نفسي، ليعود بعد ذلك إلى أوروبا.
عندما كان فروم في الرابعة عشرة من عمره، اندلعت الحرب العالمية الأولى، وكان لذلك تداعيات على مشاعره وأفكاره؛ ما أسهم في طرحه سؤالاً جوهرياً ظل حاضراً في أعماله: “كيف يمكن أن تكون الحرب ممكنة سياسياً ونفسياً؟”.
تم انتقاده بسبب قراءاته لأعمال ماركس وفرويد، ومع ذلك فقد قوبلت العديد من أعماله بإقبال واسع خارج دائرته الأكاديمية؛ مثل كتابه “فن الحب” (1956)، و”To have or to be” (1976)، لتصبح أكثر الكتب مبيعاً في العالم.
اقرأ أيضًا: على كرسي الطبيب النفسي.. قطاع مُهمل وأوجاع مكبوتة!
العقل والحب
لمدة 50 عاماً عمل محللاً نفسياً؛ تعامل فروم مع نفس الإنسان، وتعرف على دواخله، ونجح في فهم العوامل الاقتصادية والاجتماعية التي شكَّلت المجتمع الحديث.
لهذا عندما يكتب فروم، فإنه يكتب تقارير عن تجارب، “هذا ما ينطبق على كتابه الأول (الخوف من الحرية)، وكذلك على كتابه (To Have Or To Be)”.
كما أن مواقفه وكتاباته بخصوص الدين، كانت خلاصة لتجارب حياته وأسئلته الخاصة، حسب راين فونك.
مرت تجربة فروم الدينية بمجموعة من التغيرات التي جعلته يصل إلى قناعة أن القوة الفعلية للإنسان تكمن في العقل والحب معاً، وإذا أراد الإنسان أن يكون ناجحاً عليه أن يمارسها ويتطور رغم المقاومة الداخلية والخارجية.
“أحتاجك لأني أحبك”
وفقاً لكتاب “فن الحب” لفروم، فإن الحب غير الناضج ينبني على مقولة “أحبك لأني بحاجة إليك”؛ لكن الحب الناضج يقول “أحتاجك لأني أحبك”؛ حتى بعد أربعين عاماً من وفاته ما زال الكثير من القراء حول العالم يتعلمون من كتب فروم الحب والحرية والوجود.

قبل عامَين من إصداره “فن الحب”، تزوج فروم في عام 1956 من الأمريكية أنيس فريمان.. تمكن معها من أن يعيش علاقة حب احتفظ فيها الطرفان باستقلاليتهما، وفي ذات الوقت عاشا حياة ثنائية سعيدة.
توجد نحو 25 مليون نسخة من كتاب “فن الحب” لإيريك فروم في العالم، وحقق مبيعات لم تحققها أي كتب أخرى مختصة في علم النفس.
إيريك فروم والتأمل
مارس فروم لمدة ساعة على الأقل في اليوم تمارين التركيز والتأمل؛ للتخلص من كل ما يضايقه، لقد أراد الوصول إلى حالة يمكن أن يكون فيها “كما لو أنه لا يمتلك شيئاً”؛ حيث يكون التوجه نحو امتلاك الممتلكات والقيم والعلاقات والمزايا والنظريات والأفكار والنعم.. بلا معنى، وفي نفس الوقت ينجح في تحقيق الشعور بـالحيوية والنشاط الداخلي؛ للتغلب على فكرة أن مكانة الفرد مختزلة في ما يملك من شواهد عليا أو معارف أو ممتلكات مادية.. وغيرها، بل لتحقيق المعنى الحقيقي للوجود “أنا أكون”، وهذا ما يجعل الفرد في المجتمع الحديث غير سعيد؛ لأن قيمته كفرد مرتبطة بممتلكاته، وأن نجاحه يكمن في ما يملك.
تُعاد قراءة نصوص فروم في عصرنا الحالي ويتم اكتشافها من جديد؛ خصوصاً في أوقات الأزمات الاقتصادية والبيئية التي يواجهها العالم.

“الخوف من الحرية”
يعد كتاب “الخوف من الحرية” من أكثر الكتب التي تنسجم مع تجربة فروم، نُشر عام 1941، وما زال يُنشر آلاف المرات سنوياً، وتمت ترجمته إلى ثلاثين لغة.
يشير الكتاب إلى أن محاولة الناس لإدراك أنفسهم بشكل مستقل عن المبادئ التوجيهية الجماعية (التقاليد، الدين، الطبقة، العشيرة، الأسرة …) تمكنهم من تجربة التفكير بحرية، عادة ما ترتبط هذه الخطوة بالإحساس بالخوف من العزلة والضياع، يمكن أن يؤدي ذلك إلى تخلي المرء عن حريته مرة أخرى، والخضوع لسلطات جديدة.
تهميش فروم في الوسط الأكاديمي الألماني
في منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي، أدرك فروم أن المشكلة النفسية الأساسية للبشر لا تكمن في الغرائز الفطرية؛ بل في حاجتهم إلى الاتصال والانتماء، وأن المجتمع له تأثير مباشر على طريقة تفكير الناس وشعورهم وسلوكياتهم.
وأدت مراجعته التحليل النفسي الفطري والغريزي إلى خلاف بينه وبين هوركهايمر الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني، ورفاقه في معهد البحوث الاجتماعية؛ ما تسبب في طرده من المعهد في عام 1939، وتمت معاقبته بالتهميش، وتكرر الأمر ذاته في جمعية التحليل النفسي الدولي.

يعرف فروم الخوف من التحرر من خلال تجربته الشخصية؛ لهذا طوَّر طريقته الاجتماعية النفسية الخاصة وحوَّل التحليل النفسي الذي كان يركز فقط على الفرد، إلى تحليل نفسي اجتماعي، وذلك من خلال مفهوم الشخصية الاجتماعية، كان فروم قادراً على شرح التغييرات الأساسية في المجتمع وتفاعلها مع الأفراد.
“أشهر محلل نفسي اجتماعي في الولايات المتحدة الأمريكية”
كان لكتابه “الخوف من الحرية” صدى كبير في العالم؛ ما جعل فروم أشهر محلل نفسي اجتماعي في الولايات المتحدة الأمريكية لمدة عقدين من الزمن، وكان له تأثير كبير على حركات التحرر السياسية في أمريكا اللاتينية.
حالياً، يعد “الخوف من الحرية” منتشراً في صفوف المثقفين والأكاديميين في جمهورية الصين الشعبية. وحسب موقع “Erich Fromm”، تناولت نحو ألف رسالة بحث تخرج أكاديمي في الجامعات الصينية، خلال السنوات العشر الماضية، موضوعات ونظريات إيريك فروم.

انتقاد فروم الرغبة في الامتلاك
في كتابه “To Have Or To Be”، وهو عبارة عن نقد رائد للطابع الرأسمالي للدول الصناعية الحديثة، ينتقد فروم “الرغبة في الامتلاك”. يكتب فروم عن مايستر إيكهارت، الفيلسوف وعالم اللاهوت الألماني، عندما يقول “إن الناس يجب أن يكونوا متحررين جداً من معرفتهم الخاصة؛ فإنه لا يعني أنه يجب على المرء أن ينسى ما يعرفه، ولكن هذا يعني أنه ينبغي للمرء أن لا ينظر إلى معرفته على أنها ملكية تمنحه إحساساً بالأمان والهوية”.
حسب تفسير فروم، فإن المجتمع الحديث يعمل مثل دوامة الانحدار التي لديها تداعيات سلبية على الفرد، ويقول في هذا الصدد: “على الرغم من أن الناس في هذا المجتمع لديهم الكثير من الحريات؛ فإنهم في النهاية لا يعرفون سوى القليل عما يجب فعله بهذه الحريات، لأن معظمها اقتصادية تتحكم فيها غرائزهم وخصالهم الشخصية؛ مثل الجشع والحسد.. إن الإنسان في المجتمع الرأسمالي الحديث يكرس إلى أن “الامتلاك” أسمى من “الوجود”، يمكن لهذا الشكل من المجتمع أن يشوه الناس ويجعلهم مرضى، وهذا ما يتناوله في كتابه “”To Have Or To Be.
“الرغبة في الحصول على الله”
وفقاً لفروم، فإن ما يفكر فيه الناس ويشعرون به يتشكل من خلال البنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لمجتمعهم، وذلك يتجلى في المجتمعات التي تمتلك فيها أقلية السلطة، والجماهير في حالة خضوع؛ هذا ما يجعل الفرد خائفاً للغاية، وغير قادر على الشعور بالقوة والاستقلالية؛ بحيث تصبح تجربته الدينية خاضعة للسلطوية.
“الرغبة في الحصول على الله” هي أيضاً عقبة أمام تحقيق حياة ناجحة، بالنسبة إلى فروم كلمة “الله” لا علاقة لها بالتجربة الدينية البشرية.
اقرأ أيضًا: كيف يمكن لعلم النفس أن يساعدنا على العيش بطريقة أفضل؟
“تجربة X”
وفي هذا الصدد يطرح فروم مفهوم ما يسمى بـ”تجربة X”، كما يشرح راينر فونك، في كتاب “ستكون مثل الله”، “تجربة X”، وهي أن يكون الشخص قادراً على التخلي تماماً عن “أنا” الخاصة به، وعن الجميع، وأيضاً ما يريد أن يفعله ويحققه ويستخدمه، من خلال تمارين التأمل، وعندما يصبح فارغاً تماماً من الداخل، فإنه سيتمكن من خوض تجربة جديدة.
ما يصفه إيريك فروم بمصطلح “تجربة X” هو مفهوم إنساني للدين يرفض الصورة البطريركية الإيمانية.
من عام 1950 إلى عام 1974، عاش فروم وأجرى أبحاثه في المكسيك، هناك أسس المعهد المكسيكي للتحليل النفسي، وتابع دراساته التجريبية، كما عمَّق دراسته لـ”بوذية زن”، والتي أصبحت بالنسبة إليه مجالاً للدراسة وأسلوباً للحياة، يجمع فروم بين التحليل الذاتي وتمارين التركيز الصارمة في تمارينه.
وجد فروم في “بوذية زن”، طريقة جيدة لتحقيق التماسك الروحي، ليواجه مخاوفه. توفي إيريك فروم في عام 1980.
ويشار إلى أنه قبل وفاته كان قد بدأ التقرب من مجموعة مسيحية صغيرة؛ من أجل إنشاء ما يُسمى “الكويكر”، أي جمعية الأصدقاء الدينيين، وكانوا يمارسون طقوسهم الروحانية، وهي عبارة عن صمت مشترك.
المراجع:
-Erich Fromm: Lieben wir das Leben noch? Herausgegeben von Rainer Funk. DTV, München 2020. 240 S., Fr. 17.90.
-Erich Fromm, Anatomie der menschlichen Destruktivität, Deutsche Verlags- Ps 5 Anstalt, Stuttgart 1974, 473 Seiten.
-Erich Fromm, Anatomie der menschlichen Destruktivität, Deutsche Verlags- Ps 5 Anstalt, Stuttgart 1974, 473 Seiten.