الواجهة الرئيسيةترجماتشؤون دولية
كيفية بناء نظام عالمي أفضل

كيوبوست- ترجمات
داني رودريك♦ & ستيفن والت•
أدَّى التراجع النسبي لقوة الولايات المتحدة وصعود الصين إلى تآكل نظام القطب الواحد، وأدَّت الأزمات المالية المتكررة وجائحة كوفيد-19 والاعتماد المفرط على العقوبات الاقتصادية إلى إنهاء حقبة العولمة المفرطة، وأدت الحرب الروسية على أوكرانيا إلى تعميق الشرخ بين الشرق والغرب وبين الشمال والجنوب. وفي الوقت نفسه أدى تغيير الأولويات المحلية في العديد من الدول إلى الابتعاد عن التكامل الاقتصادي، وعرقلة العمل الجماعي في مواجهة الأخطار العالمية.
وفي ضوء هذا الواقع نشرت مجلة “فورين أفيرز” مقالاً مطولاً بقلم داني رودريك وستيفن والت، يقدمان فيه إطار عمل واضحاً لبناء نظامٍ عالمي أفضل.
اقرأ أيضاً: كيف يمكن إنقاذ النظام العالمي لفترة ما بعد الحرب العالمية؟
يمكن للمرء بسهولة أن يتصور عالماً أكثر خطورة يتميز بالعداء المتزايد بين الولايات المتحدة والصين، وبالتكتلات الاقتصادية الإقليمية، وتقسيمات على أسسٍ جيوسياسية واستخدام العلاقات الاقتصادية لغاياتٍ استراتيجية. ولكن في الوقت نفسه، يمكن التفكير في نظامٍ عالمي أكثر اعتدالاً تتنافس فيه القوى العظمى بشكلٍ أكثر اعتدالاً في بعض المجالات، وتتعاون في بعضها الآخر للحفاظ على اقتصاد عالمي مفتوح، ولمنع النزاعات المسلحة، وللحدِّ من آثار تغير المناخ وإدارة الأزمات الإقليمية بشكلٍ مشترك.
ولإنشاء مثل هذا النظام العالمي يقترح كاتبا المقال إطاراً من أربعة أجزاء لضبط العلاقات بين الدول الكبرى. ويفترض هذا الإطار الحد الأدنى من الاتفاق على المبادئ الأساسية، والإقرار بوجود قضايا خلافية يجب معالجتها. ومن المهم أن تتشارك الولايات المتحدة والصين والقوى الكبرى الأخرى في وضع هذا الإطار الذي يمكن أن يوفر أرضية مشتركة للحفاظ على الظروف المادية الضرورية للوجود البشري، وتعزيز الاقتصاد، وتقليل مخاطر الحروب الكبرى والحفاظ على الأمن. ولا شك أنه لا يمكن القضاء على الظروف التي تدفع نحو المنافسة، ولكن لا يزال بإمكان القادة السياسيين التخفيف منها إذا هم رغبوا في ذلك.

قواعد أقل، وسلوك أفضل
لا ينبغي أن يؤدي تآكل النظام الحالي القائم على القواعد إلى صراع بين القوى العظمى، ولا شك أن الدول التي تركز اهتمامها على القوة العسكرية وتهمل النواحي الأخرى لن تكون آمنة على المدى البعيد، حتى لو بدَت قوة عالمية كبرى. واليوم من الواضح أن النهج الذي يتمركز حول الغرب لم يعد مناسباً للتعامل مع القوى التي أصبحت تؤثر في العلاقات الدولية، ولا بد من استيعاب القوى غير الغربية، والتقليل من محاولات فرض السياسة الغربية، ومنح الدول مساحة أكبر في إدارة اقتصاداتها ومجتمعاتها السياسية.
اقرأ أيضاً: كيف تستغل استراتيجية الصين الكبرى قوة الولايات المتحدة لخدمة أهدافها؟
وضمن إطار العمل المقترح لا تحتاج الدول الكبرى إلى الاتفاق المسبق حول القواعد التفصيلية التي تحكم علاقاتها، بل فقط على النهج الأساسي لهذه العلاقات. كما لا يفترض بالدول المتنافسة أن تثق ببعضها بعضاً في بداية الأمر، ولكن بمرور الوقت فإن النجاح في معالجة الخلافات سوف يعزز الثقة المتبادلة، ويخفِّف من احتمال الصراعات. وتقع مجموعة الإجراءات التي تتم ضمن هذا النهج الأساسي في أربع فئات عامة؛ هي:
الأفعال المحظورة: وهي تلك التي تم التوافق عليها على نطاقٍ واسع من قبل الولايات المتحدة والصين والقوى الكبرى، ومنها: الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة، وانتهاك الحصانة الدبلوماسية، واستخدام التعذيب، واستهداف سفن وطائرات الدول الأخرى، والتلاعب المتعمد بعملات الدول.

الإجراءات التي تستفيد منها الدول من تغيير سلوكها مقابل تنازلات من الآخرين هي: الاتفاقيات التجارية الثنائية، واتفاقيات الحد من التسلح الأمر الذي يسمح للبلدين بتحويل جزءٍ كبير من الإنفاق الدفاعي إلى احتياجاتٍ تنموية أخرى.
الإجراءات التي يتخذها طرف ما بشكلٍ مستقل لتعزيز أهدافٍ وطنية محددة: يوفر إطار العمل هذا الإجراء عندما لا تتمكن دولتان من التوصل إلى صفقة تحقِّق المنفعة المتبادلة. على أن يتم في هذه الحالة مراعاة أي محظورات تم الاتفاق عليها مسبقاً. ومن هذه الإجراءات على سبيل المثال تحديد السرعة القصوى للمركبات على الطرق أو السياسات التعليمية للدولة.
اقرأ أيضاً: جائحة فيروس كورونا ستغيِّر النظام العالمي إلى الأبد
الإجراءات والقضايا التي تتطلب مشاركة دول عديدة: تعتبر قضايا تغير المناخ وجائحة كوفيد-19 من الأمثلة الواضحة على القضايا التي تتطلب عملاً مشتركاً. وقد أدَّى غياب اتفاقيات فعالة متعددة الأطراف إلى تشجيع الدول على التصرف بحرية، الأمر الذي أدَّى إلى انبعاثاتٍ كربونية مفرطة في المثال الأول، وعدم كفاية وصول اللقاحات إلى بعض الدول في المثال الثاني.
الشفافية الاستراتيجية
في إطار المنافسة الأمريكية الصينية على تكنولوجيا الاتصالات من الجيل الخامس، أثار صعود شركة هواوي كقوة مهيمنة في هذا المجال قلق صانعي السياسة في أمريكا وأوروبا، فإلى جانب العواقب التجارية كانت هنالك تداعيات على الأمن القومي لهذه الدول. ولكن رد الفعل الأمريكي المتشدد، وسعي الولايات المتحدة إلى شلِّ أنشطة هواوي الدولية أدَّى إلى تصعيد التوترات.
وعلى عكس واشنطن، دخلت الحكومة البريطانية في اتفاق مع هواوي يتيح إخضاع منتجات الشركة في السوق البريطاني لتقييم أمني سنوي. وفي عام 2019 وجد التقييم أن نظام هواوي للأمن السيبراني يمثل مخاطر على المشغلين البريطانيين مما سيتطلب تعديلات كبيرة، وفي نهاية المطاف قررت المملكة حظر هواوي على شبكة الجيل الخامس الخاصة بها. ومع أن قرار الحظر ربما يكون قد تأثر بالضغوط الأمريكية المباشرة، إلا أن هذا المثال لا يزال يوضح احتمال اتباع نهج أكثر شفافية وأقل إثارة للجدل.

العمل وليس التصعيد
يشير إطار العمل إلى كيفية تحسين العلاقة بين الخصوم، ففي حالة الولايات المتحدة وإيران، يمكن تقليل المخاوف المتبادلة القائمة إذا التزم كلا الجانبين بعدم محاولة الإطاحة أحدهما بالآخر والامتناع عن أعمال الإرهاب والتخريب في أراضي الطرف الآخر. ولا ينبغي أن يكون ذلك الاتفاق على ذلك صعباً فإيران غير قادرة على مهاجمة الولايات المتحدة بشكلٍ مباشر، والولايات المتحدة فشلت في محاولاتها المتكررة لتقويض الجمهورية الإسلامية. وعلى الرغم من أن الاتفاق النووي لعام 2015 لم يدم طويلاً، فقد أظهر أنه يمكن حتى للأعداء اللدودين أن يجتمعوا معاً في قضيةٍ خلافية، والتوصل إلى تفاهماتٍ مرضية للطرفين.
وعندما انسحبت الولايات المتحدة من الاتفاق، في عام 2018، لم ترد إيران بإعادة تفعيل برنامجها النووي بشكلٍ كامل على الفور، بل انتظرت لعدة أشهر على أمل أن تعيد واشنطن النظر بقرارها، وعندما لم يحدث ذلك تخلت إيران عن التزاماتها بالاتفاقية بشكلٍ تدريجي وقابل للعكس بشكلٍ واضح، مما يشير إلى استعدادها للعودة إلى الامتثال الكامل إذا ما فعلت واشنطن الشيء نفسه.
اقرأ أيضاً: من الخاسر في الحرب الاقتصادية العالمية.. أوكرانيا، روسيا، أم الاتحاد الأوروبي؟!
ومن الأمثلة الأخرى على تجنب التصعيد، الرد الإيراني المحدود على اغتيال الولايات المتحدة لقاسم سليماني، وكذلك قرار إدارة الرئيس ترامب بعدم الرد على إسقاط إيران لطائرة استطلاع أمريكية مسيرة في يونيو 2019.
من العداء إلى الوساطة
لا شك أن الحرب الروسية على أوكرانيا قد ألقت بظلالها على بناء نظام معالمي أكثر اعتدالاً، وأظهرت أنه حتى ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي لا يمكنها منع وقوع الحروب والانتهاكات. وتسلط هذه الحرب الضوء على أهمية التفاوض وعلى ما يمكن أن يحدث عندما لا تأخذ الدول المتجاورة هذا الخيار. وقد تواصل المسؤولون الغربيون مع موسكو قبل الحرب ولكنهم لم يأخذوا المخاوف الروسية المشروعة من انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو بعين الاعتبار، وفي المقابل قدمت روسيا مجموعة من المطالب التي بدت وكأنها لا توفر مساحة كبيرة للتفاوض. وبدلاً من التوصل إلى حل حقيقي مثل تعهد رسمي من كييف وحلفائها الغربيين بأن تظل أوكرانيا دولة محايدة بمقابل وقف التصعيد الروسي واستئناف المفاوضات حول الأراضي التي استولت عيها روسيا عام 2014، تمسك كل من الجانبين بمواقفه، وفي 24 فبراير شنت روسيا غزوها غير الشرعي.

أدى الفشل في التفاوض إلى اندلاع الحرب، وردت الولايات المتحدة ودول الناتو بفرض عقوبات غير مسبوق على روسيا وإرسال أسلحة بمليارات الدولارات إلى أوكرانيا. ولكن في خضم هذه الحرب الوحشية التزمت الأطراف بشيء من ضبط النفس، فواشنطن أعلنت أنها لن ترسل قواتها للقتال في أوكرانيا، وروسيا التزمت بعدم توسيع نطاق الصراع وبعدم استخدام أسلحة الدمار الشامل.
قوى عظمى، تفاهمات أكبر
إن اللجوء إلى الإجراءات المذكورة في الفئات الأربعة للنهج الأساسي من أجل توجيه علاقات القوى العظمى بدلاً من محاولة إحياء نظام ليبرالي تهيمن عليه الولايات المتحدة أو فرض معايير جديدة للحوكمة العالمية، يوفر العديد من المزايا، إذ يمكن أن يكشف إطار العمل هذا عما إذا كانت القوى المتنافسة ملتزمة جدياً بإقامة نظام أكثر اعتدالاً. فالدول التي ترفض هذا الإطار أو التي تظهر ممارساتها أن التزامها به زائف سوف تتسبب بأضرار فادحة لسمعتها، وستخاطر بتحفيز معارضة دولية كبيرة لها بمرور الوقت. وعلى نقيض ذلك، فإن الدول التي تتبنى إطار العمل وتلتزم به سوف ينظر إليها الآخرون بشكلٍ إيجابي، وستحظى بدعمٍ دولي أكبر.
اقرأ أيضاً: كيف ترى دول الشرق الأوسط مكانتها في النظام الدولي بعد الأزمة الأوكرانية؟
ومن المؤكد أن فوائد الالتزام بإطار العمل هذا سوف تتجلى في أوضح صورها إذا ما تم اعتمادها في العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين. فحتى الآن فشلت السياسة الأمريكية تجاه الصين في حماية المصالح القومية الأمريكية دون أن تستهدف صعود الصين وتقويض اقتصادها. فالنهج الحالي يسعى إلى احتواء الصين وإضعافها وتضييق خياراتها الاستراتيجية. وعندما تنشئ الولايات المتحدة نادياً لدول ديمقراطية يستهدف الصين بشكلٍ صريح، فلا ينبغي لأحد أن يستغرب أن يتقرب الرئيس شي من نظيره الروسي فلاديمير بوتين.
♦أستاذ الاقتصاد الدولي في جامعة هارفارد كينيدي.
•أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد كينيدي.
المصدر: فورين أفيرز