الواجهة الرئيسيةترجماتشؤون دولية

كنوز أثرية نجت من هجمات 11 سبتمبر

نحو مليون قطعة أثرية تغطي أربعة قرون من تاريخ نيويورك كانت مخزنة في مركز التجارة العالمي

تلخيص- كيوبوست

نينا ستروتشليك

هزَّت هجمات 11 سبتمبر الولايات المتحدة، وتركت آثاراً اقتصادية واجتماعية وسياسية لا يزال العالم يراها قائمةً حتى اليوم. ومع اقتراب الذكرى العشرين لهذه الجريمة الإرهابية، يتناول موقع “ناشيونال جيوغرافيك” هذه الهجمات من الجانب الثقافي في مقالٍ يحكي قصة نحو مليون قطعة أثرية كانت مخزنة في قبو مبنى مجاور لأبراج مركز التجارة العالمي في نيويورك.

ترجع كاتبة المقال نينا ستروتشليك، إلى تسع سنواتٍ سبقت الهجوم، عندما كانت عالمة الآثار شيريل ويلسون، تبحث عن مقر تستخدمه مختبراً ومركز أبحاث لعملها، ورفضت عرضاً بأن تشغل الطابق السابع والستين من البرج الشمالي؛ فهي لا تزال تتذكر مشهداً رأته قبل عدة سنوات لأطفالٍ يقفزون من نوافذ مبنى مرتفع هرباً من نيران حريق اندلع في المبنى.

اقرأ أيضاً: القاعدة في الذكرى التاسعة عشرة لهجمات 11 سبتمبر: جردة حساب

كانت ويلسون تترأس القسم الإعلامي لمشروع المقبرة الإفريقية في نيويورك -وهو مشروع للتنقيب عن مقابر تضم آلاف الأفارقة من العبيد والمحررين- وكانت بذلك كثيراً ما تستقبل أطفال المدارس في مكتبها للتعرف على تاريخ نيويورك. لذلك رفضت ويلسون حتى زيارة الطابق السابع والستين، واختارت أن تشغل الطابق الأرضي والقبو في مبنى مجاور مؤلف من ثمانية طوابق. بعد ذلك بعام، سنة 1993، اهتزت الأرض تحت مكتب ويلسون جراء محاولة تفجير مبنى مركز التجارة العالمي، وبعد ثماني سنوات من ذلك انهارت واجهة البرج الشمالي للمركز على المبنى، ودُمرت آلاف القطع الأثرية التاريخية.

الدخان يتصاعد من حطام البرج الشمالي لمركز التجارة العالمي بعد خمسة أيام من الهجوم الإرهابي- “ناشيونال جيوغرافيك”

لقي نحو ثلاثة آلاف شخص مصرعهم صباح يوم 11 سبتمبر عندما ضربت طائرتان البرجَين التوأمين لمبنى مركز التجارة العالمي. وفي الأسابيع والأشهر التي تلَت ذلك، دأب المؤرخون على التنقيب بين الأنقاض بحثاً عن مئات الآلاف من القطع الأثرية التي تروي قصة أصل نيويورك، وتاريخ العبيد من الرجال والنساء والعمال المهجرين الذين جعلوا من المدينة مركز قوة عالمياً.

على مدى سنواتٍ من عملها كأستاذة ومرشدة سياحية، عرفت ويلسون أن معظم الناس يعتقدون أن وجود السود في نيويورك بدأ مع هجرات الحرب الأهلية؛ ولكن اكتشاف المقبرة الإفريقية عام 1991 أثناء تشييد مبنى فيدرالي، أثبت وجود مجتمع أسود كبير، وكشف عن الصورة الوحشية للعبودية التي تطلبها بناء مدينة صناعية كبيرة.

صورة التقطت عام 1872 لصالح مجلس الصحة في نيويورك لما وصف بأنه أوكار الموت- متحف نيويورك

تعود بنا كاتبة المقال إلى مطلع القرن السابع عشر، عندما أعطى المستعمرون الهولنديون قطعة أرض مساحتها ستة أفدنة تقع على الجهة الجنوبية من جزيرة مانهاتن للعبيد المحررين ليدفنوا فيها موتاهم تحت جنح الليل في وقتٍ لم يكن يُسمح فيه لأكثر من أربعة عبيد بالتجمع. وعلى مدى مئة وخمسين عاماً تم دفن ما يقارب خمسة عشر ألفاً من الأفارقة العبيد والمحررين في هذه المنطقة التي تقع اليوم تحت المنطقة المالية في مانهاتن.

وتروي عظام المقبرة قصصاً مروعة عن ظروف العبيد المدفونين فيها؛ حيث اختفت خلال جيل واحد التقاليد الإفريقية، كالأسنان المنحوتة والحلي الإفريقية، وكانت معظم العظام تحمل آثار كسور في الجمجمة وإصابات تدل على الأعمال الشاقة والخطيرة التي كان يقوم بها العمال المستعبدون الذين كان يتراوح متوسط أعمارهم بين 24 و26 عاماً.

صورة أخرى التقطت عام 1872 لصالح مجلس الصحة في المدينة لمنزل في شارع باكستر الذي كان أحد أكثر المناطق المكتظة في العالم- متحف نيويورك

ويشير المقال إلى أنه على مدى عشر سنوات من الدراسة تمت معالجة البقايا المكتشفة في المقبرة الإفريقية في مختبر ويلسون، الذي يقع في قبو المبنى المجاور لبرجَي مركز التجارة العالمي. وبعد التوثيق والتحليل، تم تغليف القطع الأثرية وعينات التربة وبقايا التوابيت وتخزينها في قبو المبنى، وتم إرسال البقايا البشرية إلى جامعة هوارد في واشنطن العاصمة؛ للمزيد من التحليل والدراسة.

وجاء في المقال الذي نشره موقع “ناشيونال جيوغرافيك” أنه في عام 1991 أيضاً تم الكشف عن موقعٍ أثري آخر لما كان يُعرف بساحة “فايف بوينتس” التي كانت تعتبر أحد أكثر الأماكن ازدحاماً بالسكان في العالم في القرن التاسع عشر، وأسوأ أحياء مانهاتن سمعة في القرن التاسع عشر.

فنجان شاي للأطفال عُثر عليه في بقايا شقة متواضعة لمستأجرين أيرلنديين في شارع بيرل- “ناشيونال جيوغرافيك”
غليون من الخزف عُثر عليه في شارع بيرل- ساحة “فايف بوينتس”- “ناشيونال جيوغرافيك”

عادة ما تمتلئ المتاحف بالتحف التي كان يمتلكها الأثرياء؛ ولكن موقع “فايف بوينتس” الذي يضم بقايا مبان تتنوع بين منزل حاخام وبيت دعارة، كشف عن أكثر من 850,000 قطعة أثرية من الأدوات اليومية في حياة الطبقة العاملة. وقد انضمت هذه اللقى من ساحة “فايف بوينتس” إلى تلك التي عُثر عليها في المقبرة الإفريقية في قبو المبنى.

رأس غليون من الخزف ربما يصور أحد الآلهة الرومانيين أو الإغريقيين- “ناشيونال جيوغرافيك”

وتؤكد نينا ستروتشليك، كاتبة المقال، أن هذه الآثار تخالف الانطباع السائد في صحافة القرن التاسع عشر عن تلك المنطقة، والذي كان يصورها على أنها بؤرة للجريمة والدعارة، فقط كان من بين آلاف القطع التي عثر عليها قصاصات من الأقمشة المشغولة يدوياً وأمشاط للزينة وأكواب شاي ورسائل تحثّ الأطفال على حسن السلوك. وبذلك رسمت صورة لعائلات وصلت حديثاً، وتحاول انتشال نفسها من الفقر.

تشير عالمة الآثار ريبيكا يامين التي أشرفت على مشروع التنقيب في موقع “فايف بوينتس”: “لقد أسيء فهم سكان منطقة فايف بوينتس بهدف الإثارة”.

اقرأ أيضاً: صحف عالمية: السعودية وقعت ضحية نظريات المؤامرة في قضية هجمات 11 سبتمبر

تعود بنا كاتبة المقال إلى صبيحة الحادي عشر من سبتمبر؛ حيث كانت شيريل ويلسون تستقل القطار إلى مركز المدينة عندما أعلن قائد القطار أن طائرتين قد تحطمتا على برجَي مركز التجارة. وخلال ساعات قليلة، لقي الآلاف مصرعهم واختفت حكايات غير مروية من التاريخ؛ بما فيها أرشيف هيلين كيلر، وسجلات مواني نيويورك ونيوجيرسي، ولوحات بيكاسو التي كانت تزين جدران أقوى الشركات المالية في المدينة.

عادت ويلسون إلى منزلها لتشاهد على شاشة قناة “سي إن إن” المبنى الذي يضم مكتبها، وقد تحول إلى ركام. كان عزاؤها أن البقايا البشرية لا تزال آمنة في جامعة هوارد في واشنطن.

بقي مصير كلِّ ما كان مخزناً في قبو المبنى مجهولاً حتى مطلع نوفمبر عندما وصل عمال رفع الأنقاض إلى ركام المبنى حيث تم العثور على مجموعةٍ كاملة من آثار المقبرة الإفريقية، ومئتي صندوق من مجموعة “فايف بوينتس” تحتوي فقط على السجلات الورقية للقطع الأثرية التي دمرت بفعل انهيار المبنى.

أُقيم في مانهاتن السفلى نصب تذكاري من الغرانيت ترقد تحته بقايا الهياكل العظمية التي استخرجت من المقبرة الإفريقية؛ حيث أُعيدت إلى مكانها في عام 2003 بعد أن تم تحليلها في جامعة هوارد. وتم إرسال محتويات نحو 100 صندوق تمت استعادتها من بين الأنقاض –تحتوي على عينات تربة وأجزاء من التوابيت وغيرها من القطع الأثرية– إلى مختبر مونيغ كوب في جامعة هوارد؛ حيث تجري دراستها حالياً بعد ثلاثين عاماً من اكتشافها، وعشرين عاماً من إنقاذها من بين أنقاض مركز التجارة العالمي.

اقرأ أيضاً: 17 سنة على هجمات 11 أيلول: القاعدة إلى أين؟

ويعمل حالياً كارتر كلينتون، الباحث في “ناشيونال جيوغرافيك”، على فحص عيناتٍ من تربة المقبرة الإفريقية؛ بهدف إعادة تشكيل بكتيريا الأمعاء أو الميكروبيوم البشري للبقايا التي دفنت قبل 400 عام. ويمكن لهذه الدراسة أن تقدم صورة مفصلة عن النظام الغذائي الفقير، ومستوى التلوث العالي، والوضع الصحي المتردي الذي كان سائداً آنذاك.

فصل دراسي مزدحم في جادة “فايف بوينتس”- “ناشيونال جيوغرافيك”

يقول كلينتون -وهو من أصول إفريقية- “إن هذه البقايا والعينات هي كل ما لدينا لمعرفة ما كان يحدث في نيويورك في ذلك الوقت. ربما لا نعرف أسماء هؤلاء الأشخاص؛ ولكننا قادرون على منحهم شكلاً من أشكال الهوية”. ويتابع: “أتمنى لو كانت المعرفة بالمقبرة الإفريقية واسعة مثل شهرة أحداث 11 سبتمبر؛ فالأشخاص الذين بنوا هذه المدينة هم من أعطى هذه الأحداث أهميتها. وعندما أفكر في مركز التجارة العالمي، وبورصة نيويورك، يعود بي التفكير إلى بدايات المدينة، وإلى العمال الأفارقة الذين قاموا ببناء الأسس التي قامت عليها المؤسسات المالية الأمريكية”.

تقول فاطمة جاكسون، مديرة مختبر كوب: “كان الأفارقة هم مَن جعلوا نيويورك ما هي عليه الآن، ولو أننا فقدنا هذه المواد لكانت مأساة 11 سبتمبر قد تضاعفت”.

اقرأ أيضاً: أربعون عاماً حزينة تتوجطالبانحاكماً على أفغانستان عشية الـ11 من سبتمبر

ويزف المقال بشرى سارة لقارئيه بأن بعض آثار جادة “فايف بوينتس” قد نجَت من الدمار، ويشير إلى أنه قد مرت بضعة أشهر قبل أن تعرف ريبيكا يامين، أنه لم يتم فقدان كل مجموعة جادة “فايف بوينتس” في ذلك اليوم الرهيب. فقد تصادف أن أبرشية نيويورك كانت قد طلبت في عام 2000 استعارة بعض القطع لعرضها في معرض عن التاريخ الأيرلندي في المدينة، واستجاب لطلبها مختبر يامين بأن أرسل 18 قطعة من أثمن محتوياته، والتي كان أثمنها على الإطلاق فنجان شاي رُسمت عليه صوة الأب ماثيو، وهو أيرلندي كان يدعو إلى الاعتدال. وفي حين كان ينظر إلى سكان جادة “فايف بوينتس” على أنهم مجموعة من السكيرين والمجرمين، كان أحدهم يعرض هذا الفنجان بعناية في منزله.

وعندما انتهى المعرض في أغسطس 2001 ورغبت الأبرشية في إعادة القطع إلى مكانها طلبت يامين إرسالها مباشرة إلى متحف الميناء بدلاً من ذلك. واليوم استقرت هذه القطع على أرفف متحف مدينة نيويورك، وتُعرض مختارات منها في المعرض الدائم حول تنوع مدينة نيويورك في وقتٍ غيرت فيه الهجرات الألمانية والأيرلندية واليهودية وجه المدينة. ولا يزال الفنجان الثمين الذي يحمل صورة الأب ماثيو معروضاً في صندوق زجاجي على جدار المتحف.

نصب تذكاري في الموقع الذي أعيد فيه دفن رفات 419 رجلاً وامرأة وطفلاً من الأفارقة المستعبدين- مكتبة الكونغرس

تصف كبيرة الأمناء في المتحف سارة هنري، آثار جادة “فايف بوينتس” بأنها “ناجية ثلاثية”؛ فقد نجت من الفقر والبؤس في تلك الأحياء، ونجت من الدفن لسنواتٍ طويلة، ثم نجت من الدمار الذي وقع في 11 سبتمبر.

وينقل المقال عن هنري التي كانت في اجتماع لمجلس إدارة المتحف عندما دوى انفجار ارتطام الطائرة الأولى بالبرج الشمالي، قولها: “أعتقد أن كل مؤرخ يشعر بألم يمزق أحشاءه عندما يختفي جهد سنوات طويلة من التنقيب والعمل الشاق. لا أقول إن ذلك يعادل الكارثة التي شهدتها المدينة، لكنه كان ضربة إضافية”.

اقرأ أيضاً: طارق رمضان يستفز الغرب ويصدر كتابًا مثيرًا للجدل في 11 سبتمبر

بعد بضعة أسابيع اجتمع أمناء المتحف لمناقشة دورهم كمؤسسة، وما الذي يجب أن يجمعوه بعد كارثة كهذه، ومتى يمكنهم ذلك. وسرعان ما غمرتهم ملصقات الأشخاص المفقودين والشموع التذكارية، فأدركوا أن سكان المدينة بحاجة إلى أن يتم توثيق تجربتهم القاسية وحفظها. وأصدرت هنري تعليماتها إلى لجنة خاصة بخصوص الأشياء المادية التي يجب عليهم إنقاذها من الحطام وحفظها لأجيال المستقبل للتعلم وإعادة التقييم.

وتشير نينا ستروتشليك، في ختام مقالها، إلى أن مدينة نيويورك جمعت مجموعة جديدة من القطع التذكارية التي تروي حكاية أوقات صعبة، وأشخاص لقوا حتفهم، وآخرين تمكنوا من النجاة. واليوم تقبع القطع القديمة والجديدة على جانبي رواق في متحف مدينة نيويورك.

في إحدى القاعات تروي مجموعة جادة “فايف بوينتس” حكاية نشأة المدينة والناس الذين أسهموا في بنائها، وفي القاعة الأخرى تستحضر بقايا كارثة 11 سبتمبر قصة نيويورك التي لطالما بُنيت وهُدمت في سلسلةٍ من الصدمات والبطولات، وصولاً إلى القرن الحادي والعشرين.

المصدر: ناشيونال جيوغرافيك

اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

مقالات ذات صلة