الواجهة الرئيسيةترجماتثقافة ومعرفة
كتب لا يمكن لأحد أن يقرأها!

كيوبوست- ترجمات
ريتشارد فيشر♦
في صبيحة يوم أحد، اجتمع نحو مئتي شخص في غابة شمال أوسلو في النرويج؛ للاحتفال في غابة من أشجار التنوب التي زُرعت حديثاً. في يوم ما عندما تنمو هذه الأشجار إلى ارتفاع 20 أو 30 متراً؛ فإنها ستوفر الورق اللازم لطباعة مجموعة خاصة من الكتب. كل مَن كانوا في هذه الغابة كانوا يعلمون أنهم لن يعيشوا ليروا ذلك اليوم، ولن يتمكنوا من قراءة تلك الكتب.
كان ذلك الاحتفال بمكتبة المستقبل لعام 2022. وهي مشروع أدبي مستقبلي مدته مئة عام. انطلق المشروع عام 2014 عندما قررت الفنانة الأسكتلندية كاتي باترسون، مع نظيرتها النرويجية آن بيت هوفيند، وعدد من الأمناء، دعوة أحد الكتاب المعروفين كل عام لتقديم عمل أدبي، على أن يستمر هذا الأمر حتى عام 2113. وبعد قرن من انطلاق المشروع سيتم نشر هذه الأعمال في التوقيت نفسه.

بدأ الأمر مع الكاتبة مارغريت آتوود التي قدمت قصة بعنوان ” Scribbler Moon” (القمر.. الكاتب المأجور). ومنذ ذلك الحين طلبت المكتبة من مؤلفين في جميع أنحاء العالم؛ مثل الروائي الإنجليزي ديفيد ميتشل، والشاعر الأيسلندي سيون، والتركية أليف شفق، والكورية الجنوبية هان كانغ، والفيتنامي الأمريكي أوشن فونغ؛ لتقديم أعمالهم. وفي هذا العام، انضم الروائي تسيتسي دانغاريمبغا من زيمبابوي، والكاتب كارل أوف كناوزغارد من النرويج، إلى المحتفلين في الغابة. قدم الأول عملاً بعنوان “اللا نهاية”، بينما اختار الثاني عنواناً أكثر غموضاً “الكتاب الأعمى”.
اقرأ أيضاً: الكتاب الصوتي ينافس الورقي.. ولكلٍّ جمهوره
سيتم حفظ هذه الأعمال في صناديق زجاجية مقفلة في مستودع خشبي يُعرف باسم “الغرفة الصامتة”. وفي عام 2114 سيتم الإفراج عن الأعمال وقطع الأشجار لصنع الورق اللازم لطباعة مئة قصة دفعة واحدة. تقول باترسون: “إنه مشروع لا يتعلق بنا فقط؛ بل بأشخاص لم يولدوا بعد”. وتضيف: “في الواقع، معظم المؤلفين لم يولدوا بعد”.

ليست مكتبة المستقبل هي الأولى من بين أعمال باترسون التي تتناول العلاقة بين الإنسانية والزمن. كان عملها الأول “Vatnajokull”؛ وهو رقم هاتف يمكن لأي كان أن يطلبه للاستماع إلى صوت ذوبان الجليد الآيسلندي، حيث تنهار الجبال الجليدية لتطفو في البحر. وتبعته عدة أعمال تستعرض كسوف الشمس على مر التاريخ أو بعينات من الغبار والصخور تمثل كل واحدة منها لحظة من الزمن السحيق منذ ما قبل الشمس، وصولاً إلى حبيبات البلاستيك التي جمعت من أعماق المحيطات وفرع لشجرة مشعة من هيروشيما.
اقرأ أيضاً: أفضل 100 كتاب في القرن الحادي والعشرين
ومن بين هذه الأعمال المرتبطة بالزمن، مكتبة المستقبل؛ وهي المشروع الوحيد الذي من المؤكد أن يتذكره الناس. حيث تم في هذا العام ضمان ذلك بعد أن وقع عمدة مدينة أوسلو عقداً يلزم المدينة رسمياً بحماية الغابة والمخطوطات على مدار المئة عام المقبلة.

ربما سيترك جيلنا هدايا قيمة للأجيال القادمة؛ كالموسيقى والأعمال الأدبية والمنشآت المعمارية الكبيرة، ولكن هل تكون هدايا حقاً إذا كنا قد استمتعنا بها نحن قبل أن تصل إلى أحفادنا؟ ما يميز مكتبة المستقبل هو أن الاهتمام بأجيال المستقبل يعني التخلي عن مكاسب الوقت الحاضر؛ فالعطاء للغد لا يتطلب الأخذ اليوم. صحيح أنه لا يمكن لأحد قراءة الكتب اليوم؛ لكن يمكن للجميع الاستمتاع بزيارة الغابة أو قضاء بعض الوقت في “الغرفة الصامتة” التي تحتضن المخطوطات في مكتبة أوسلو العامة، حيث قصَّت عمدة المدينة ماريان بورغون، الشريط الحريري، معلنةً افتتاح الغرفة للجمهور.
تشبه زيارة “الغرفة الصامتة” العبور إلى عالم آخر. يصل الزائر إليها عبر سلسلة من السلالم المتحركة تقوده إلى الطابق الخامس؛ حيث يصل إلى ما يشبه كهفاً خشبياً في زاوية هادئة بين أرفف الكتب. بعد خلع حذائك يمكنك الدخول إلى حيث تكون الجدران الخشبية؛ المساحة الصغيرة التي تضم مئة صندوق زجاجي مقفل. تقول باترسون: “يبدو الأمر وكأنك داخل شجرة، إنها ساحرة للغاية، صغيرة وحميمة، محاطة بحلقات الأشجار والضوء يتلألأ من خلال صناديق المخطوطات”.

إن أجمل ما في مكتبة المستقبل هو قدرتها على التطور والتكيف بمرور الوقت؛ فقد صممتها باترسون وزملاؤها، بحيث تمنح الأجيال القادمة الخيار حول كيفية تشكيل المشروع؛ أي اختيار المؤلفين، وكيفية إقامة الحفل السنوي، ومَن هم المدعوون، وفي نهاية المطاف ما سيظهر على أغلفة الكتب. وعلى مدى القرن المقبل سيحتاج المؤلفون أنفسهم إلى التكيف كل عام مع حقيقة أنهم لن يعيشوا إلى اليوم الذي ستنشر فيه كتبهم؛ الأمر الذي منح بعضهم فرصة التحرر من تبعات ما يكتبون.

ولكن، وفي غضون عقود قليلة، سيكون العديد من المؤلفين على قيد الحياة حتى عام 2114؛ فهل سيؤثر ذلك على ما يكتبونه؟ سوف يتعين على المؤلف الأخير الانتظار لمدة عام واحد فقط قبل أن ينشر كتابه؛ فهل سيختار الأمناء المستقبليون تغيير الخطة الأصلية ونشر كتاب آتوود فقط في عام 2014، ثم كتاب ميتشيل في العام التالي. لا شك أن هذا سيكون تغييراً جذرياً؛ لكن ترك القرار في إجراء مثل هذه التغييرات هو قيمة في صميم المشروع. أفضل إرث قد يسعى جيلنا لتركه للأجيال القادمة ليس نصباً تذكارياً يمجدنا؛ بل القدرة على الاختيار.
♦صحفي متقدم في “بي بي سي”، ومؤلف كتاب “النظرة بعيدة المدى”.
المصدر: بي بي سي