الواجهة الرئيسيةترجماتتكنولوجياشؤون دولية
قوة الابتكار: كيف ستحدِّد التكنولوجيا مستقبل الجغرافيا السياسية؟

كيوبوست- ترجمات
إيريك شميدت♦
في تحليله المستفيض يسعى إيريك شميدت، الرئيس التنفيذي السابق لجوجل، والمؤلف المشارك مع هنري كيسنجر ودانييل هاتنلوشير لكتاب «عصر الذكاء الاصطناعي ومستقبل الإنسان»، إلى شرح كيف يمنح التفوق التكنولوجي ميزة نسبية في الصراعات. ويضرب مثالاً بالحرب بين روسيا وأوكرانيا، ويرى أن التكنولوجيا منحت أوكرانيا ميزة نسبية في الحرب ضد روسيا التي تتفوق عليها تسليحياً وعددياً. فقد تمكنت الحكومة الأوكرانية من تحميل جميع بياناتها المهمة على “سحابة المعلومات”، ومن ثم الحفاظ على كل الملفات من وزاراتها المختلفة. وقد تمكنت وزارة “التحول الرقمي” التي أنشأها الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي -قبل عامين فقط من الحرب- من القيام بذلك.
من جانبٍ آخر، تمكن الأوكرانيون من استخدام التطبيق الحكومي الإلكتروني للهاتف المحمول Diia، لجمع معلوماتٍ استخبارية مفتوحة المصدر، بحيث تمكن المواطنون من تحميل الصور ومقاطع الفيديو للوحدات العسكرية الروسية. ومن ثم، يؤكد شميدت أهمية قوة التكنولوجيا والقدرة على ابتكار تقنياتٍ جديدة، واعتمادها والتدريب عليها في دعم القوة الصلبة والناعمة.

ويرى أن المستقبل يشير إلى أن تفوق الدول لن يقتصر على ميزان القوى التقليدية العادية، بل قدرتها على مواكبة التطورات في الذكاء الاصطناعي، وفتح مجالات جديدة للاكتشاف العلمي ودعم قدرة العلماء والمهندسين على اكتشاف تقنيات أكثر وتعزيز التقدم في الذكاء الاصطناعي نفسه. ومن ثم فالقدرة على الابتكار بشكلٍ أسرع وأفضل، وهو الأساس الذي تقوم عليه القوة العسكرية والاقتصادية والثقافية الآن، ستحدِّد نتيجة المنافسة بين القوى العظمى خاصة بين الولايات المتحدة والصين. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة ما زالت متصدرة، لكن الصين تلحق بالركب في العديد من المجالات وقد تقدمت بالفعل في بعض المجالات.
ويعتبر شميدت أن الانتصار في هذه المنافسة لن يكون “بالعمل كالمعتاد” لأنه لن يفي بالغرض، بل سيتعين على الحكومة الأمريكية إيجاد ظروف مواتية للابتكار، والاستثمار في الأدوات والمواهب اللازمة لتعزيز الابتكار.
اقرأ أيضًا: الابتكار والتكنولوجيا في العمل الإنساني: آسيا والمحيط الهادي نموذجاً
المعرفة قوة
يمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعي الحالية أن توفِّر بالفعل مزايا رئيسية في المجال العسكري، حيث تكون قادرة على تحليل ملايين المدخلات، وتحديد الأنماط، وتنبيه القادة إلى نشاط العدو. ووفقاً لشميدت ستنتقل أنظمة الذكاء الاصطناعي بشكلٍ متزايد إلى ما هو أبعد من مجرد المساعدة في صنع القرار البشري إلى البدء في اتخاذ القرارات بأنفسها. الذكاء الاصطناعي يولد نفسه بنفسه أيضاً، ويمكن أن يؤدِّي إلى المزيد من الابتكار.
هذه الظاهرة تجعل عصر الذكاء الاصطناعي يختلف اختلافاً جوهرياً عن إسهام اكتشاف الفولاذ مثلاً، ومن ثم فمصدر قوة الدولة لن يكون مقدار ما تملكه من ثروة الموارد الطبيعية أو إتقان تقنية معينة، وإنما في قدرتها على الابتكار المستمر. كذلك ستسمح أجهزة الكمبيوتر فائقة السرعة بمعالجة كم أكبر من البيانات، مما ينتج أنظمة ذكاء اصطناعي أكثر ذكاءً. وستكون أنظمة الذكاء الاصطناعي هذه، بدورها، قادرة على إنتاج ابتكاراتٍ خارقة في مجالاتٍ ناشئة أخرى، مثل تصنيع أشباه الموصلات، وسوف يغير الذكاء الاصطناعي طبيعة البحث العلمي. فبدلاً من إحراز تقدم في دراسة واحدة في كل مرة، سيكتشف العلماء إجاباتٍ للأسئلة القديمة من خلال تحليل مجموعات البيانات الضخمة، ومن ثم سيكون الذكاء الاصطناعي عاملاً حاسماً في السباق نحو قوة الابتكار، والقدرة على اكتشاف الأدوية، والعلاج الجيني، والطاقة النظيفة. ويقول شميدت: “لم تساعد الطائرات السريعة في بناء طائرات أسرع، لكن أجهزة الكمبيوتر الأسرع ستساعد في بناء أجهزة كمبيوتر أسرع منها”.
اقرأ أيضاً: كيف تغذِّي فوارق التكنولوجيا شكلاً جديداً من الشعبوية حول العالم؟
وينتقل شميدت للحديث حول المجال الأخطر للذكاء الاصطناعي “الذكاء العام الاصطناعي” أو AGI الذي سيكون قادراً على أداء أي مهمة عقلية يمكن للإنسان القيام بها، “تخيل نظاماً للذكاء الاصطناعي يمكنه الإجابة عن أسئلة تبدو مستعصية على الحل، مثل أفضل طريقة لتعليم مليون طفل اللغة الإنجليزية أو علاج حالة مرض الزهايمر… صحيح أن ظهور الذكاء الاصطناعي العام وقدراته تلك أمامها سنوات، وربما حتى عقود، ولكن أياً كان البلد الذي سيطور التكنولوجيا أولاً سيكون له ميزة هائلة، حيث يمكنه بعد ذلك استخدام الذكاء الاصطناعي العام لتطوير إصدارات أكثر تقدماً من الذكاء الاصطناعي العام، واكتساب ميزة في جميع مجالات العلوم الأخرى والتكنولوجيا في هذه العملية”.
الطائرات دون طيار نموذج مهم
في حين أن العديد من التأثيرات التحويلية للذكاء الاصطناعي لا تزال بعيدة المنال، فإن الابتكار في مجال الطائرات دون طيار يقلب بالفعل ساحة المعركة. في عام 2020، استخدمت أذربيجان طائراتٍ دون طيار، تركية وإسرائيلية الصنع، أكسبتها ميزة حاسمة في حربها ضد أرمينيا في منطقة ناغورنو كاراباخ، وحققت انتصاراتٍ في ساحة المعركة بعد أكثر من عقدين من الجمود العسكري.
ومن ثم، وكما يؤكد شميدت، تقدم الطائرات دون طيار مزايا تتفوق على الأسلحة التقليدية، فهي أصغر وأرخص، وتوفر قدرات مراقبة لا مثيل لها، وتقلِّل من تعرض الجنود للمخاطر. وبمرور الوقت، ستعمل البلدان على تحسين الأجهزة والبرامج التي تشغل الطائرات دون طيار لتتفوق على منافسيها. في نهاية المطاف، ستحل الطائرات دون طيار المسلحة ذاتية التشغيل محل المركبات الجوية ومحل الجنود والمدفعية.

دور الابتكار في المجالات الأخرى
الابتكار يشكِّل أيضاً القوة الاقتصادية من خلال منح الدول نفوذاً وقدرة في التحكم في سلاسل التوريد، فالدول التي تعتمد على أو تستورد الموارد الطبيعية أو السلع النادرة الأساسية تواجه نقاط ضعفٍ لا يواجهها الآخرون. مثلاً القوة التي يمكن أن تمارسها الصين على البلدان التي تزودها بأجهزة الاتصالات، وليس من المستغرب أن الدول التي تعتمد على البنية التحتية التي توفرها الصين مثل العديد من دول إفريقيا، كانت مترددة في انتقاد انتهاكات حقوق الإنسان الصينية. وبالمثل، فإن تفوق تايوان في تصنيع أشباه الموصلات يوفر لها رادعاً قوياً ضد غزوٍ صيني محتمل.
ويؤكد شميدت أن السبب الرئيسي الذي يجعل الابتكار يضفي الآن هذه الميزة الهائلة هو أنه يولد المزيد من الابتكار. فهناك ما يشبه دورة الابتكار حيث تقوم مجموعات العلماء بجذب وتدريس وتدريب علماء آخرين في جامعات الأبحاث وشركات التكنولوجيا الكبيرة، هذه الدورة من التغذية والتغذية المرتدة تحدِّد قدرة الدولة على الابتكار بفعالية. والثابت من جانب آخر أن “الخندق المائي” حول البلدان التي تتمتع بمزايا هيكلية في التكنولوجيا آخذ في الزوال، بفضل البحث الأكاديمي وظهور البرامج مفتوحة المصدر، التي تنشر التقنيات الآن بسرعة أكبر في جميع أنحاء العالم.

منافسة صينية أمريكية
هناك مجالات ما زالت الولايات المتحدة تتفوق فيها على الصين ومنها مجال “الحوسبة الكمومية quantum computing”. ومع ذلك، على مدى العقد الماضي، استثمرت الصين ما لا يقل عن 10 مليارات دولار في هذا المجال، أي ما يقرب من عشرة أضعاف ما تنفقه حكومة الولايات المتحدة. وتعمل الصين على بناء حواسيب كمومية قوية جداً، وتستثمر أيضاً بكثافة في الشبكات الكمومية، بهدف أن تكون هذه الشبكات منيعة أمام المراقبة من قبل وكالات الاستخبارات الأخرى.
الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن الحكومة الصينية ربما تقوم بالفعل بتخزين الاتصالات المسروقة والمعترضة بهدف فك تشفيرها بمجرد أن تمتلك القدرة الحاسوبية للقيام بذلك، وهي استراتيجية تُعرف باسم “التخزين الآن، فك التشفير لاحقاً”. وعندما يتعلق الأمر بأشباه الموصلات، فإن الصين لديها خطط طموحة وتمول الحكومة الصينية جهوداً غير مسبوقة لتصبح رائدة في تصنيع أشباه الموصلات بحلول عام 2030.
والسؤال إذاً كما يطرحه شميدت: “لماذا تحجم واشنطن عن تمويل العلم الذي يعمل كأساسٍ لقوة الابتكار؟” ويحاول الإجابة بالإشارة إلى أن الابتكار يتطلب المخاطرة، وفي بعض الأحيان يفشل وهو أمر يكره السياسيون قبوله. يمكن أن يتطلب الابتكار استثماراتٍ طويلة الأجل، لكن حكومة الولايات المتحدة تعمل وفقاً لدورة ميزانية لمدة عام واحد، ودورة سياسية مدتها سنتان. ومع ذلك يظل وادي السيليكون قادراً على تشجيع الابتكار. لكن هناك حاجة للدعم الحكومي الذي يلعب دوراً حاسماً في تحفيز الابتكار.
اقرأ أيضًا: عرض كتاب: حرب الرقائق، صراع الهيمنة على التكنولوجيا الأخطر في العالم
الاستثمار في المستقبل
كجزءٍ من جهودها لضمان أن تظل الولايات المتحدة قوة ابتكارية عظمى، ستحتاج إلى استثمار مليارات الدولارات في المجالات الرئيسية للمنافسة التكنولوجية: في مجال أشباه الموصلات، وتمول البحث والتطوير للإلكترونيات الدقيقة، وتخزين المعادن الأرضية النادرة (مثل الليثيوم والكوبالت) اللازمة للبطاريات والمركبات الكهربائية، والاستثمار في التقنيات الجديدة التي يمكن أن تحل محل بطاريات الليثيوم.
وستحتاج الولايات المتحدة إلى الاستثمار في جميع أجزاء دورة الابتكار، وتمويل ليس فقط الأبحاث الأساسية، ولكن أيضاً التسويق التجاري. يتطلب الابتكار كلاً من الاختراع والتنفيذ، والقدرة على تنفيذ وتسويق الاختراعات الجديدة على نطاق واسع. وغالباً ما يكون هذا هو حجر العثرة الرئيسي. ساعد البحث في السيارات الكهربائية، على سبيل المثال، شركة جنرال موتورز على طرح طرازها الأول في السوق في عام 1996، لكن الأمر استغرق عقدين آخرين قبل أن تنتج تسلا نموذجاً تجارياً بكمياتٍ كبيرة.

كذلك، وكما يؤكد شميدت، على الولايات المتحدة أن تستثمر في المدخلات التي تكمن في صميم الابتكار: الموهبة واجتذاب الأفضل والألمع من جميع أنحاء العالم. ومع ذلك، يُمنع الكثير من الموهوبين من القدوم إلى الولايات المتحدة بسبب نظام الهجرة الذي عفى عليه الزمن. بدلاً من إنشاء مسار سهل للحصول على البطاقة الخضراء للأجانب الذين يحصلون على درجات STEM من المدارس الأمريكية حول العالم. يأتي أكثر من نصف الباحثين في مجال الذكاء الاصطناعي العاملين في الولايات المتحدة من الخارج، ولا يزال الطلب على مواهب الذكاء الاصطناعي يتجاوز العرض بكثير. إذا أغلقت الولايات المتحدة أبوابها أمام المهاجرين الموهوبين، فإنها تخاطر بفقدان ميزتها الإبداعية.
كذلك ستحتاج الولايات المتحدة إلى مواجهة تحدياتٍ جديدة، فمثلاً لمواجهة هجمات الطائرات دون طيار المحتملة، يجب أن تستثمر في أنظمة المدفعية والصواريخ الدفاعية. ويجب على الجيش الأمريكي التركيز على نشر شبكة من أجهزة الاستشعار غير المكلفة المدعومة بالذكاء الاصطناعي لمراقبة المناطق المتنازع عليها، ومن المهم أن يتعلم الجيش الأمريكي أيضاً دمج التقنيات الجديدة في عملية الشراء وخطط القتال.
وفي خلاصة هذا التحليل المهم يؤكد شميدت أن صراع القرن -التنافس بين الولايات المتحدة والصين- سيكون العامل الحاسم فيه هو قوة الابتكار. فالتقدم التكنولوجي في السنوات الخمس إلى العشر القادمة سيحدِّد الدولة التي سيكون لها اليد العليا التي تشكل العالم.
♦الرئيس التنفيذي السابق لجوجل، والمؤلف المشارك مع هنري كيسنجر ودانييل هاتنلوشير لكتاب «عصر الذكاء الاصطناعي ومستقبل الإنسان»
المصدر: فورين أفيرز