الواجهة الرئيسيةشؤون خليجية
قناة الجزيرة بين الاغتيال الرمزي و”إعادة تدوير المصداقية”
هل تتحكم الدوحة في مضامين أخبار قناة الجزيرة؟

خاص كيو بوست – د. منصور المرزوقي
من تاريخ ١٦ مايو/أيار ٢٠١٨، حتى ٣٠ يوليو/تموز ٢٠١٨، قامت قناة الجزيرة بنشر من ١٤٤ مادة عن السعودية، كلها في غاية السلبية، ويمكن تلخيص محتواها في التالي:
السعودية باعت نفسها للغرب، وخياراتها السياسية خاطئة، وهي مقبلة على هاوية.
اقرأ أيضًا: قناة الجزيرة: التطبيع باسم حرية التعبير
وقبل البدء في ملاحظاتي على نهج الجزيرة، لدي 3 أسئلة بسيطة:
١- هل يمكن اعتبار قيام الجزيرة بنشر أكثر من ١٤٤ مادة سلبية عن السعودية (مقابل عدم نشر أي شيء إيجابي) هو أمر عفوي؟ أم أن هذا التركيز هو أمر مدروس ومقصود؟
٢- هل تختلف تغطية قناة الجزيرة للصراع العربي-الإيراني في اليمن قبل أزمة قطر مع جيرانها العرب بالمقارنة مع ما بعد بدء الأزمة؟
إذا كانت الإجابة بنعم، للسؤالين، فهذا يعني أن قناة الجزيرة تتأثر بمواقف دولة قطر، وهذا يمهد للقول بأن القناة ما هي إلا أداة من أدوات السياسة الخارجية القطرية.
٣- إذا كانت حكومة قطر تقوم بتوجيه وتسليط الجزيرة على خصومها، فلا بد من التساؤل: هل هنالك دول قريبة من قطر، ويتم توجيه قناة الجزيرة بدعم هذه الدول والتغاضي عنها وعما يمكن أن يؤثر على صورتها؟ ما هي هذه الدول؟
اقرأ أيضًا: تسريبات من داخل الجزيرة: كم تدفع القناة لضيوفها؟
قبل أزمة قطر مع جيرانها العرب، كانت القناة تدعم الرياض في قيادتها للمعركة العربية ضد طهران. وبعد الأزمة تحولت القناة إلى وحش جريح، يتوثب على السعودية بكل ما يمكنه من قوة ليفتك بها، لكنه لا يستطيع. وفي كل معركة نُهدِفُ فيها صدورنا لرماح التوسع الإيراني، تنقض الجزيرة على ظهورنا، وفي أنيابها منّا دمُ.
وتحولت قطر من دولة إلى شاعر هجاء، لا موضوع له سوى السعودية. ذهب الجميع بالإبل وليس في يده سوى قصيدة.
نهج الاغتيال الرمزي هذا يتم عبر تشويه صورة السعودية والسعوديين لدى رأي عام عربي ينوء بثقلين:
١- موروث عنصري قديم، ابتلي به بعض إخوتنا العرب، يرانا -نحن أحفاد حاتم الطائي وعمرو ابن كلثوم والخنساء والصحابة، والعاصمين في ذي قار وحاملي لواءه، وأعلام سوق عكاظ، وأهل السقاية والرفادة ودار الندوة والمعلقات ودستور المدينة والسقيفة، وحكام دمشق وقرطبة وبُناة بغداد- على أننا أهل صحراء قاحلة ولسنا ذوي شأن.
٢- موروث لدى بعض التيارات القومية يتبنى هذا الموقف العنصري.
اقرأ أيضًا: تناقضات مذيع الجزيرة أحمد منصور تكشفها مواقفه المتبدلة!
والرأي العام العربي، بسبب الواقع المرير، واليأس، وغياب الرؤية الحضارية، يبحث عن معارك كبرى، ولا يكترث للتفاصيل. فهو يرى الأحداث بشكل شمولي. إنه يبحث عن بيتين شعريين كبيرين، واحد في المدح وآخر في الهجاء، ليعلقهما على أستار الكعبة.
شمولية الرأي العام العربي وعدم اكتراثه للتفاصيل الحاسمة منعته من أن يرى ازدواجية قناة الجزيرة وتبعيتها لدولة قطر، وعدم نشرها الفيلم الوثائقي عن اللوبي الإسرائيلي في واشنطن، ولا الأموال القطرية التي ذهبت لهذا اللوبي، ويمنعه من رؤية البوارج الروسية المحملة بالأسلحة وهي تحصل على إذن تركيا لعبور البسفور، وترسو في طرطوس، ليستخدمها الروس في قصف أهلنا في سوريا. وهذه الشمولية تمنعه من رؤية صفقات السلاح والتجارة بين تركيا وإسرائيل، وتبادل السفراء والزيارات، ناهيك عن زيارة شمعون بيريز للدوحة والمكتب الإسرائيلي هناك. وهي الشمولية ذاتها التي تمنع الشارع العربي من رؤية تجارة المخدرات التابعة لحزب الله، ودوره في استخدام الأسلحة الكيماوية ضد أطفال سوريا، وتوافق حلفائه في لبنان، كجبران باسيل وتياره، على «حق إسرائيل في التمتع بالأمن»، وخدمته للأجندة الإيرانية في اليمن.
كل هذه هي تفاصيل حاسمة، لكن شمولية الرأي العام العربي لا ترى سوى بيتين من الشعر.
وعندما تأتي الاتهامات القطرية (عبر قناة الجزيرة) للسعودية بالتطبيع مع إسرائيل، فهي تنزل على أرض خصبة -هذا الرأي العربي العام المُثقل- مستعدة لتصديقه بلا دليل أو شاهد أو محكمة. ولا تجتهد القناة في تصحيح ما يتبين عدم صحته لاحقًا، إذا كان الأمر يتعلق بخصوم قطر، لكنها تدافع وتطالب الآخرين بالتصحيح إذا كان الأمر مختصًا بقطر أو حلفائها، في ازدواجية مركّبة.
اقرأ أيضًا: متابعو “الجزيرة” يُقدّمون التعازي للقناة بمقتل ابن زعيم داعش
مثلًا، تفرغت قناة الجزيرة لاتهام السعودية باستقبال لاعبين إسرائيليين في مناسبة استضافة الرياض لبطولة الشطرنج العالمية في ديسمبر/كانون الأول ٢٠١٧. صدعت القناةُ رؤوس العرب، وأيقظت النيام، تطوف عليهم في المضاجع وتصيح: “السعودية تُطبع! السعودية تُطبع!”. ثلاثة أسابيع أو يزيد، تفرغت فيها القناة لترسيخ هذا الاتهام، عبر نشر عشرات النصوص الإخبارية، ناهيك عن حساباتها في تويتر والتغريدات وإعادة التغريدات من الجزيرة وزبانيتها.
أتت البطولة وشاهدها القاصي والداني على الهواء مباشرة، ولم يكن فيها إسرائيلي واحد، فالتزمت الجزيرة وزبانيتها الصمت، ولم يرد عنها أو عنهم كلمة واحدة للاعتذار، أو حتى مجرد تصحيح سيل اتهاماتهم السابقة حيال هذه المسألة.
الأنكى من ذلك هو أن قطر بعد تلك الفترة، بأسبوع أو يزيد، استضافت لاعبين وفرقًا إسرائيلية، في يناير/كانون الثاني ٢٠١٨، لبطولة التنس، على بُعد ٣ أمتار من مقر الجزيرة. وكما هو متوقع، التزمت الجزيرة وزبانيتها الصمت، ولم ينبسوا ببنت شفة.
هذا باختصار هو نهج الاغتيال الرمزي الممنهج الذي تقوم به قطر، عبر قناة الجزيرة. ودور قناة الجزيرة كأداة للسياسة الخارجية القطرية لا يقتصر على الاغتيال الرمزي، بل يمتد لما أسميه “إعادة تدوير المصداقية” (recycled credibility).
اقرأ أيضًا: الإعلامي أحمد منصور يكشف علاقته بالقاعدة
فما هي إعادة تدوير المصداقية؟ عندما توحي حكومة قطر لأذرع إعلامية، أو كتاب في صحف عالمية لهم مصالح مع قطر، أو باحثين أكاديميين، يعملون في مراكز بحثية غربية أو إقليمية، لنشر مادة ما (تعزز من مصداقية قطر، وعدالة مواقفها، وتشويه خصومها وإسقاطهم)، ثم يقوم مثلث: الحكومة/الباحث-الإعلامي/القناة، بتمريرها فيما بينهم، هذا يناولها ذاك، فيعزز هذا الطرف من موقف ذاك، في جهد منظم.
مثلًا، نبيل النصري، باحث فرنسي مقرب من قطر، مشرف على موقع “مرصد قطر”، يقول حسبما نقلت عنه قناة الجزيرة: “إن دول الحصار فشلت في تركيع دولة قطر، بل إن الدوحة تجاوزت آثار هذا الحصار”، وهذا بالضبط هو مضمون بيانات الحكومة القطرية.
ثم تأتي قناة الجزيرة لتكتب عن نبيل النصري، على أساس أنه يمثل رأيًا علميًا رصينًا من خارج المنطقة، أي أنه مستقل، وتستشهد به لتعزز مصداقية خطاب حكومة قطر، التي تدفع مصاريفه ومعاشاته في “المرصد”، وهي التي أوحت لهذا الباحث بقول ما قال.
مثال آخر، مؤسسة ميدل إيست آي (التي يديرها جمال بساسو، الموظف السابق في قناة الجزيرة، ولا أعتقد أنني بحاجة لذكر مصادر التمويل أو تكاليف الإعاشة)، التي تنشر بلغات عدة من بينها الإنجليزية والفرنسية. تنشر المؤسسة باستمرار مواد تهاجم السعودية، ثم تستشهد بها قناة الجزيرة عبر القول: “صحيفة ميدل إيست آي البريطانية”! وكأن كاتب هذا الخبر لم يستعر ولاّعة من جمال بساسو عندما خرج ذات يوم من إستوديو الجزيرة في الدوحة، لتدخين سيجارة.
حكومة قطر توحي >> باحث/إعلامي يعيد تدوير موقف قطر وخطابها >> قناة الجزيرة تعيد تدوير موقف الباحث/الإعلامي. كل هذا هو جهد قطري منظم يسعى لتعزيز مصداقية خطاب الدوحة عبر إعادة تدوير المصداقية (Recycled credibility).
هذا ما تقوم به قناة الجزيرة: الاغتيال الرمزي وإعادة تدوير المصداقية.
لكن رب ضارة نافعة؛ فانقلاب قناة الجزيرة وأنيابها التي تقطر دمًا قدمت خدمة عظيمة للرأي العام العربي عبر تلقينه درسًا مفاده أن المؤسسات الإعلامية لا يمكن أن تكون منفصلة عن مصالح الدول التي تتواجد فيها. فمهما علت أصوات الخطب الرنانة عن استقلالية الجزيرة ومبادئها، يظل دويّ انقلابها على العرب أعلى.
وهو دويٌ سمعته أجيالٌ لم تُخلق بعد.