الواجهة الرئيسيةشؤون دوليةمقالاتملفات مميزة

قصة حمزة بن لادن (الجزء الثاني)

كيوبوست

عمرو صلاح 

في الجزء السابق تحدَّثنا عن كيف أن الصدفة قادت زعيم “القاعدة” إلى زوجته خيرية صابر “أم حمزة”، وقصة زواجهما، ثم رحلة أسامة بن لادن وابنه إلى السودان ثم إلى أفغانستان، ولجوء حمزة بن لادن وأُمِّه إلى إيران في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر؛ مثلما لجأ العديد من قيادات تنظيم القاعدة إليها. وقد كانت تلك المرحلة هي مرحلة الإعداد الفكري والوجداني لحمزة، وزواجه من مريم، ابنة أحد قادة التنظيم، ثم صفقة التبادل بين “القاعدة” وإيران؛ والتي جرى بموجبها إطلاق سراح حمزة بن لادن ووالدته في مقابل الإفراج عن دبلوماسي إيراني كان تحت سيطرة “القاعدة”.

قطر الملاذ.. ولكن!

بينما تفرَّقت عائلة زعيم القاعدة بعد إطلاق سراحها إلى أماكن مختلفة، يظل ما يعنينا هنا هو مصير حمزة. وكجزء من عملية الإعداد والتقديم السياسي، واستغلالًا لمهارات اكتسبها وميَّزت حمزة عن إخوته خلال السنوات السابقة؛ كان لدى زعيم “القاعدة” تصور استراتيجي لإرسال نجله حمزة إلى قطر. ففي الدوحة -ووَفق وجهة نظر الأب- يمكن أن يتمتع حمزة بحرية الحركة من جانب، مثلما يمكنه أن يحظى بمنبر عبر شاشة “الجزيرة” يمكنه من الدعوة لعقيدة القاعدة ويفنِّد الدعاية المضادة ضد التنظيم الذي أصبح محل إدانة الجميع في أعقاب 11 سبتمبر.

لكن عطية عبد الرحمن، أحد المقربين من “بن لادن”؛ وكان مسؤولًا في السابق عن العمليات اللوجيستية لـ”القاعدة” في إيران، نصح أسامة بن لادن بالعدول عن تلك الفكرة؛ خشية خيانة قطر -الحليفة لأمريكا- والتي من الممكن أن تسلم حمزة إلى الولايات المتحدة الأمريكية في حال تلقَّت ثمنًا له. غير أن تلك الواقعة وتفكير “بن لادن” في إمكانية الاستفادة من حمزة عبر شاشة “الجزيرة”، لهي كاشفة وبوضوح عن مدى ثقة الأب في الحالة الكاريزمية والقدرات البلاغية ومهارات التواصل والإقناع لدى الابن، وما يمكن أن يحظى به حمزة في المستقبل من تأثير واسع على أنصار “القاعدة”.

اقرأ أيضًا: قصة حمزة بن لادن (الجزء الأول)

الاستدعاء

في أبوت آباد، والتي تبعد مئة ميل عن وزيرستان معقل “القاعدة” القوي، كان خالد بن أسامة بن لادن، وبخلاف توليه مهام وأعمالًا يدوية في المجمع؛ حيث يعيش زعيم “القاعدة” مثل سائر المحيطين به، على استعداد تام للدفاع عنه، لكنه لم يكن من وجهة نظر والده يصلح للقيادة. وفي المقابل كان هناك الأبناء الثلاثة الآخرون، عثمان 27 عامًا، محمد 25 عامًا، وحمزة 21 عامًا. وقد اختار أسامة بن لادن حمزة وطلب منه العودة إلى أبوت آباد، عندما يتوفَّر له طريق آمن للقيام بهذا، بعد أن صار معدًّا للقيام بكثير من الأعمال التي تنتظره في أبوت آباد مثلما كان يرى الأب.

في الحقيقة لم تكن عودة حمزة إلى أبيه مرتبطة بمدى جهوزية الشاب الصغير من عدمها؛ لكنها كانت ضرورة لزعيم “القاعدة” الذي كان على وشك الانهيار، خصوصًا بعد وفاة سعد ابنه الذي قُتل في قصف أمريكي في عام 2009، ونجاح الولايات المتحدة في استهداف قادة “القاعدة” الكبار واحدًا تلو الآخر في أماكن مختلفة، ناهيك بالحالة الأمنية التي بدأ يصيبها الضعف والهشاشة حول زعيم “القاعدة”. فحتى الحارسان الشخصيان لأسامة بن لادن  كان قد أصابهما الضعف؛ نتيجة الضغطَين الجسدي والنفسي الشديدَين، وبدأ يصيبهما الملل والانزعاج من مهمة خطرة تبدو بلا نهاية، للدرجة التي دفعت أسامة بن لادن إلى النزول من موقع القائد؛ ليخاطب حارسَيه برسالة مكتوبة يطلب فيها منهما الوقت الكافي لإيجاد بديل لهما؛ لحمايته.

لكن حتى يحدث هذا، وخشية أن يلقى حمزة مصير أخيه سعد، فقد أمر أسامة بن لادن ببقائه في وزيرستان، مشددًا على ضرورة أن لا يغادر مقر إقامته إلا في حالات الضرورة ؛ مثلما أمر بضرورة التدقيق في اختيار الحارس الخاص المكلَّف بحمايته، بالإضافة إلى أمر آخر لحمزة نفسه، حيث رأى ضرورة بدئه في تلقِّي التدريبالقتالي؛ لمعالجة نقطة ضعفه الوحيدة؛ أنه لم يقاتل مسبقًا. لكن على الرغم من نقطة الضعف تلك؛ فإن الأب لا يزال يرى أن حمزة هو الأجدر بالقيادة، وأن نقاط قوته تفوق نقاط ضعفه؛ فهو من ناحية ابن زوجته المفضلة، كما أنه يحظى بكاريزما وقدرة على التأثير؛ مما يعني قدرته على تقديم إفادة كبرى للتنظيم. فقط سيكون على حمزة الانتظار حتى تحين الفرصة للعودة.

وصول متأخر

في فبراير 2011 تم وضع الخطة بإحكام؛ وكانت تقتضي سفر حمزة إلى الجنوب من خلال الأراضي الوعرة في بلوشستان. جغرافيًّا، وبالنظر إلى الخريطة، يمكنك أن تدرك البُعد الدائري غير المنطقي لهذا المسار، ولكنه في الحقيقة شديد المنطقية على الصعيد الأمني، وأكثر أمانًا من طريق مباشر إلى أبوت آباد.

في بلوشستان كانت الخطة تقتضي أن يلتقي حمزة مع أزماري (عمر صديقي أزماري)، واحد من أكثر رجال القاعدة ثقة. كان من المفترض أن يقوم أزماري بترتيب سفر حمزة عبر كراتشي، ثم إلى بيشاور؛ حيث سيلتقي حمزة رجلًا آخر من رجال القاعد،  والذي سيتولى مهمة إيصاله إلى أبوت آباد حينما تسمح الظروف الأمنية بذلك، والنقاط الأمنية على الطريق أكثر يُسرًا. وهكذا أقرض خالد أخاه حمزة جواز سفر ورخصة قيادة مزوَّرة. لكن هل يسعف الوقت حمزة؟

بنهاية أبريل 2011 كان حمزة على أهبة الاستعداد، في انتظار أن تصبح السماء غائمة ليبدأ رحلته إلى أبيه؛ كي تتاح له الحركة الآمنة والقدرة على التخفِّي. لكن الأمور لم تسِر وَفق هذا التصوُّر، ففي غضون أسابيع سبقته القوات الأمريكية في الوصول إلى أبيه زعيم “القاعدة” في مجمعه السكني في باكستان، حيث مات هو وابنه خالد ، واقتيدت أم حمزة بعد ذلك إلى أحد مرافق الاحتجاز في باكستان في الساعات الأولى من يوم 2 مايو، بينما حال دون اعتقال أو قتل حمزة في تلك الواقعة انتظار غيوم يبدو أنها قد تأخَّرت كثيرًا.

الصعود

في السنوات الأربع التالية، وبينما ينزلق العديد من بلدان المنطقة العربية إلى حالة الفوضى، ويخرج تنظيم جديد يُسمى داعش (الدولة الإسلامية في العراق والشام) ، منبثقًا من رحم “القاعدة” الذي أصابه التفكك، ومتبنيًا منهجًا وتكتيكات أكثر وحشية، يكون أيمن الظواهري، الرجل الثاني في “القاعدة” قائمًا على مهمة غير موفقة لقيادة التنظيم، بينما يظل حمزة مبتعدًا عن الأنظار حتى أغسطس من عام 2015، عندما خرج تسجيل لأيمن الظواهري يقدم فيه ما سمَّاه بـ”أسد من عرين القاعدة”. كان الصوت التالي في التسجيل هو لحمزة الذي أشاد بـ”استشهاد” والده وأخيه خالد؛ مثلما أشاد بقادة تنظيم القاعدة في سوريا واليمن وشمال إفريقيا، وبهجمات قاعدة فورت هود العسكرية وماراثون بوسطن، داعيًا الجهاديين إلى “إخلاء ساحة المعركة من كابول وبغداد وغزة إلى واشنطن ولندن وباريس وتل أبيب”. وحتى هذه اللحظة يظل السبب الذي دفع الظواهري إلى القيام بمثل تلك الخطوة غامضًا؛ فهل قام بها مخاطبًا ود شباب بدأ يترك التنظيم ويتجه إلى تنظيمات أكثر جذبًا؟ أم قام بها ساعيًا لمنح نفسه شرعية آخذة في التراجع؟ أم أراد تقديم حمزة وإعداده لتسلُّم القيادة؟ أم نفَّذ هذا تحت ضغوط من أعضاء التنظيم؟!

رسائل حمزة

يبعث حمزة بعدها برسالتَين، الأولى في أغسطس 2016، والثانية في مايو 2017. في تلك الرسالتَين يُشَجِّع حمزة الهجمات على المصالح اليهودية والغربية، وهو الذي أكدها أكثر من مرة كتوجه سياسي. ومن اللافت للنظر في الرسالتَين أن حمزة كان يسعى لخلق مساحة تمايز عن تنظيم داعش؛ وهو يوجه أتباعه بعدم السفر إلى ساحات القتال في العالم الإسلامي وإعطاء الأولوية لمهاجمة أهداف في الغرب وروسيا، وقد وضع ضمنيًّا ترتيبًا هرميًّا للأهداف؛ ابتداءً من أولئك “المعتدين” على الإسلام؛ مثل محرري الصحيفة الأسبوعية الفرنسية الساخرة (شارلي إبدو)، يليهم مصالح يهودية، ثم الولايات المتحدة، فدول أخرى أعضاء في الناتو، وأخيرًا روسيا. وعلى خُطى أبيه، باحثًا عن داعمين ماليين، يضع حمزة في قلب خطابه “الحث على تغيير نظام الحكم في المملكة العربية السعودية”.

اقرأ أيضًا: مترجم: القاعدة تمكنت من إعادة بناء نفسها بمساعدة إيران

أزمة ثقة

عمليًّا، عندما صدر بيان حمزة الأول في أغسطس 2015، كانت الثقة في أيمن الظواهري قد وصلت إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق؛ فطالما تم التعامل معه بوصفه منظِّرًا أكثر منه قائدًا، كما أنه لا يحظى بالكاريزما ذاتها التي امتلكها أسامة بن لادن، وكونه رفيقًا لـ”بن لادن” لم يكن يعني للكثيرين أنه أحق بقيادة التنظيم من بعده، خصوصًا أنه لم يكن قادرًا على الاحتفاظ بتواصل قريب بالقادة الآخرين والتأثير فيهم مثلما كان يفعل أسامة بن لادن، أضف إلى هذا أن صراع الهويات في المنطقة ما بعد الربيع العربي (الصراع السُّني- الشيعي) يسَّر وحفَّز منطقًا أكثر راديكالية ووحشية تمثَّل في تنظيم داعش الذي كان أكثر مقدرةً على توظيف أدوات التكنولوجيا، وبدأ يحوز مساحات واسعة على حساب “القاعدة” الذي بدا أكثر مهادنة وضعفًا وانجذب زعيمه إلى الخوض في ملاسنات كلامية مع تنظيم داعش وصلت إلى حد الإساءة المتبادلة.

حمزة وإرث “بن لادن”

مع نجاح الجهود الغربية في هزيمة “داعش” في العراق وسوريا، بات التنظيم في حالة انهيار كامل، فبينما تقرأ تلك السطور فإن عمليات تصفية آخر معاقل “داعش” (الباغوز) في دير الزور في سوريا تدور على قدم وساق. ووَفق الكثير من المحللين، فإن خطر حمزة يكمن في أن العديد من أتباع “داعش” وجنوده؛ وهم عشرات الآلاف، سوف يبحثون عن لافتات جديدة للانضواء تحت ظلها للقتال. ووَفق نقاط ضعف عدة لدى الظواهري؛ فمن غير المحتمل أن مثل هؤلاء سوف يقدمون ولاءهم إلى الظواهري. فبخلاف كل ما سبق فهو غير ذي صلة بتراث “بن لادن”. أضف إلي هذا -ولكونه مصريًّا- أنه يُنظر إليه على أنه يشجِّع الولاء بين العرب، خصوصًا من شبه الجزيرة العربية على حساب المقاتلين الآخرين. في المقابل، فإن حمزة وإن لم يكن يحظى بمهارات القائد العسكري الميداني؛ لكنه يحظى بسمات كثيرة قد تمكِّنه من إعادة شتات التنظيم مجددًا.

فهو قبل كل شيء ابن “بن لادن”، بل أحب أبنائه، وهو محل احترام أعضاء التنظيم، وحتى مَن انشقوا عنه والتحقوا بـ”داعش” الذي هاجم الظواهري وحرص على توقير واحترام أسامة بن لادن في خطاباته، ناهيك بأن حمزة تربَّى على يد مؤسسي التنظيم الأوائل بمعرفتهم النظرية وخبراتهم العسكرية والاستراتيجية، وهو صهر أحد أهم رموز التنظيم، وبخلاف كاريزمته وقدرته على التأثير؛ فإن انحداره من نسب بارز –من ناحية والده ووالدته- يجعله في وضع جيد يسمح له بسحب تبرعات كبيرة من الممولين؛ خصوصًا مع تبنيه خطابًا مناهضًا للعائلة الحاكمة في المملكة وتجديده دعوة أبيه بإسقاط هذا الحكم. هذا بالإضافة إلى أنه لم يورِّط نفسه في صراعات علنية مفتوحة مع تنظيم داعش، وإن كان قادرًا على صياغة موقفه تجاهه بنعومة بالإشارة إلى حسرته على “الفتنة” بين مختلف جماعات القتال في العراق وسوريا ودعوته إلى وأد تلك الفتنة والوحدة بين الجهاديين؛ لمواجهة “عدو موحد” من “الصليبيين واليهود والعلويين والرافضين والمرتزقة المرتدين”.

في النهاية، صحيح أن حمزة بن لادن، يملك نقطة ضعف مثلما أشرنا؛ وهي الخبرة القتالية العملية، لكن مجددًا يشفع له كل ما سبق ذكره وكونه الابن المفضل لأسامة، ومَن وقف بجواره في حقول التدريب حينما كان طفلًا. إنه التاريخ مجددًا يجعل من حمزة في الحاضر قادرًا على تنظيم ما انفرط عقده، وجمع ما شتته الظواهري وتوحيد التنظيمات الإرهابية الأخرى في المنطقة؛ وعلى رأسها رجال “داعش” السابقون. إنه ما يجعله اليوم على رأس الإرهابيين المطلوبين في العالم بمكافأة مليون دولار لمَن يرشد عنه.


 كاتب وباحث، ماجستير العلاقات الدولية من جامعة إكستر بالمملكة المتحدة

المصدر: عين أوروبية على التطرف

اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

مقالات ذات صلة