الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفةمقالات
قراءات في كتب كبار الفلاسفة 2: كتاب الجمهورية.. أفلاطون

شايع الوقيان♦
كتاب «الجمهورية» هو أعظم كتب أفلاطون، وكبقية كتبه هو عبارة عن محاورة يجريها على لسان سقراط، وهو يتناقش مع غيره من الأصدقاء أو الخصوم. وكتاب «الجمهورية» هو أول الكتب الفلسفية السياسية التي طرحت مفهوم “المدينة الفاضلة” أو “اليوتوبيا”.
الكتاب يتكون من عشرة أجزاء، وفي كل جزء يناقش موضوعات سياسية أو معرفية أو أخلاقية.
في الجزء الأول يطرح أفلاطون تساؤلات حول مفهوم العدالة. وكعادة سقراط، الشخصية المحورية، فهو يمارس ما صار يُسمى بالحوار السقراطي الذي حاز على إعجاب علماء التربية إلى يومنا هذا.
في هذا الحوار يطرح سقراط سؤالاً على خصمه، مثلاً: ما العدالة؟ فيجيب الخصم قائلاً: العدالة هي أن ترد الأمانة لأصحابها، فيبدأ سقراط في الكشف عن عيوب الجواب، والتناقضات الكامنة فيه. فيقول مثلاً: إذا أعطاك شخص مجموعة من الأسلحة أمانة عندك، ولكنه بعد زمن أصيب بلوثة في عقله، فهل من “العدل” رد الأمانة؟ هنا يضطر الخصم إلى تغيير تعريفه شيئاً فشيئاً.

ثم يسأل الخصم الثاني نفس السؤال، فيجيب قائلاً: العدالة هي أمرٌ منوط بالنخبة الحاكمة القوية؛ فهم مَن يصدر الأوامر ويسنّ القوانين، وهم الأجدر بتحديد مفهوم العدالة. فيرد سقراط: ولكن القوة دون معرفة قد تفضي إلى الظلم. فلا بد للنخبة من معرفة بالأخلاق، وبالحق، وبما ينفع الناس، ويضرهم. ويبدو أن سقراط سوف يتبنى هذا المفهوم المعدل لاحقاً، فرأس الدولة عنده يجب أن يجمع القوة مع المعرفة أو الحكمة.
في الجزء الثاني، يدرس أفلاطون مفهوم العدالة في الدولة لأنها أوضح منها في الفرد، ويشدد على أن الفضيلة يجب أن تلازم الحاكم؛ لأنها ستمنعه من استغلال الحكم لصالح منفعته الخاصة. ومن هنا فهو يرى أن العدالة فضيلة؛ أي يجب أن تُطلَب لذاتها وليس للمنافع التي تنجم عنها.

ويقسم أفلاطون الدولة إلى ثلاث فئات: فئة الحكام، وفئة الجنود، وفئة العمال والعامة؛ ولكل فئة هناك فضائل تميزها، ففضيلة الحكمة تميز الحكام، وفضيلة الشجاعة تميز الجنود، وفضيلة العفة والاعتدال تميز العامة. وبما أن الحكمة هي صفة الحكام، فإن الحاكم يجب أن يكون فيلسوفاً، والمراد هنا ليس الفيلسوف كمعلم أكاديمي، بل يقصد ببساطة أنه يجب أن يكون حكيماً عارفاً.
في الجزء الثالث يبيِّن أفلاطون موقفه الشهير من الشعراء؛ فهو يرى أنهم يجب أن يطردوا من الجمهورية؛ لأن “القصص” التي يرويها الشعراء مثل هزيود وهوميروس كفيلة بإفساد أخلاق النشء، فهي تسرد رذائل الآلهة وتصورهم بشكل مخزٍ، وهذا سيجعل النشء يستسيغون الرذائل. وهنا يجب ملاحظة أن موقف أفلاطون لم يكن من الشعر كشعر بل من مضمونه السردي المنافي لأخلاق المدينة الفاضلة.

في الجزء الرابع يقول أفلاطون إن الإنسان عندما يعمل العمل المناسب له فإنه سيكون سعيداً؛ فالعدالة في بعض جوانبها هي أن يكون الشخصُ المناسب في المكان المناسب، كما أنه يؤكد المساواة بين الرجال والنساء في الفرص؛ ولعله هنا أول داعية للمساواة بين الجنسَين في تاريخ الفكر الإنساني المدوّن.
في الجزئين الخامس والسادس، يتكلم عن طبقة الحكام، وأنها طبقة الفلاسفة العارفين الذين تلقوا تعليماً عالياً؛ ولكي يضمن عدم الصراع ينادي بشيوعية الزواج والأطفال، فيكون كل الرجال آباء لكل الأطفال، وكل النساء أمهات لهم؛ ولكن هذه الشيوعية لا تنسحب على طبقة الجند والعامة.
اقرأ أيضًا: قراءات في كتب كبار الفلاسفة (1): ما وراء الخير والشر.. فريدرك نيتشه
في الجزء السابع، يطرح أفلاطون نظريته الشهيرة؛ أي “نظرية المثل” عبر أمثولة الكهف. بالنسبة إلى أفلاطون الحواس لا تقدم لنا معرفة صحيحة؛ فالحواس متغيرة ومضلِّلة. ويشبّه مَن يعتمد على الحواس بأناس محبوسين في كهف منذ كانوا أطفالاً ومقيدين؛ بحيث لا يستطيعون الحركة أو حتى الالتفات إلى الوراء، فيكونون متجهين دائماً ناحية جدار الكهف الداخلي. ومن فتحة الكهف هناك نار عظيمة، ويمر بينهم وبين النار أشخاص يعيشون حياتهم الطبيعية ويحملون معهم أشياء كثيرة. والسجناء لا يرون سوى ظلال الناس والأشياء؛ ولكنهم يظنون أن هذه الظلال هي الحقيقة، إلا أن أحدهم لا يلبث أن يفك قيده، ويرى أن ما كان يظنه الحقيقة ليس سوى ظلال ووهم، وأن معرفة العالم الحقيقي تحتاج منا إلى التحرر من هذه القيود. وهكذا فإن القيود في نظر أفلاطون هي الحواس، وأنها لا تكشف لنا عن الحقائق؛ بل عن الظلال.

أما “نظرية المثل” فهي تنص على أن الحقائق هي أفكار كلية وليست أشياء جزئية؛ فالعقل البشري كان يعيش في عالم المثل أو الحقائق الكلية، ثم نزل إلى الجسد فنسي كل ما كان يعرفه. وفي حياته الحسية، يبدأ يتعلم شيئاً فشيئاً، فإذا رأى الرجل مثلاً امرأة جميلة، فإنه يعرف مباشرة أنها جميلة دون أن يعلمه أحد، والسبب أنه رأى مثالَ الجمال أو حقيقة الجمال عندما كان عقله يعيش في عالم المثل. ولما رأى المرأة الجميلة “تذكَّر” مثال الجمال. ولذا يقول أفلاطون “إن المعرفة تذكّر”؛ لكن هذه المرأة الجميلة ليست هي بذاتها مثال الجمال الكلي بل مجرد عينة أو محاكاة جزئية غير كاملة لمثال الجمال، وقُل مثل ذلك على كل الحقائق؛ فالكريم مثلاً هو كريم لأنه يحوز على شيء من مثال الكرم، فالكريم الفعلي أو الواقعي، كحاتم الطائي، ليس سوى “مِثال جزئي” للفكرة الكلية الكاملة؛ فكل شيء في عالم الحس ناقص ومشوه.
لإيضاح الفكرة بشكلٍ مبسط، لنتصور أن هناك مهندساً معمارياً؛ هذا المهندس يزمع أن يبني منزلاً، هذا المنزل قبل أن يصبح متجسداً في الواقع الحسي كان “فكرة” في ذهن المهندس. وهذه الفكرة كاملة؛ لكن عندما يريد تطبيقها واقعياً يواجه بعض الصعوبات، فيكون المنزل الفعلي أقل كمالاً من الفكرة. أفلاطون يرى أن المثل هي أفكار كاملة وأننا في عالمنا الحسي لسنا سوى تطبيقات ناقصة ويعترينا الفساد؛ فالمنزل يتعرض إلى الفساد، لكن “فكرة” المنزل لا تفسد.

الآن، بالعودة إلى أمثولة الكهف، يرى أفلاطون أن عالم المثل والمعقولات هو العالم الحقيقي، وأما عالمنا الحسي فهو كالظلال التي كان يظن أهل الكهف أنها هي الحقيقة؛ من هنا يراهن أفلاطون على العقل من أجل تخطي محدودية الحواس، فبالعقل وحده نصل إلى عالم الحقائق المطلقة التي لا تتغير ولا تفسد.
في الأجزاء المتبقية من كتاب «الجمهورية» يعود أفلاطون إلى المدينة الفاضلة، ثم يبحث في أسباب فسادها وانهيارها، ومن أبرز أسباب سقوطها أن ينسى الحكام المعنى الصحيح للعدالة فيسعون وراء منافعهم الخاصة ووراء الثروة، وهنا تنشأ الحكومة الأوليجارشية؛ وهي حكومة الأقلية الأثرياء. ومن مظاهر فساد الدولة حكم الغوغاء، وهذه هي الديمقراطية. وكذلك يشير إلى الحكومة الاستبدادية كمظهر من مظاهر الدولة الفاسدة.
تمت ترجمة جمهورية أفلاطون إلى العربية مرات كثيرة، ولعله أكثر كتاب فلسفي تُرجم إلى العربية. ومن أهم الترجمات: ترجمة أحمد لطفي السيد، وترجمة فؤاد زكريا، وترجمة حنا خباز، وترجمة شوقي تمراز، وترجمة أحمد فياض.
♦ كاتب سعودي