الواجهة الرئيسيةترجماتشؤون عربية
“قتل الطاغية” في الإسلام المتطرف.. حالة سيد قطب وعبد السلام فرج

كيوبوست- ترجمات
داني أورباش
تحمل فكرة اغتيال الحاكم بغية الاستيلاء على السلطة أو إحداث تغييرٍ في السياسة مخاطر كبيرة حتى في حال نجاحها. وإحدى هذه المخاطر قد لا يظهر إلا بعد استيلاء القاتل أو المقربين أيديولوجياً منه على السلطة، إذ قد يتعرض هؤلاء للمصير نفسه.
وقد تكرر هذا السيناريو كثيراً في الشرق الأوسط في القرن العشرين؛ إذ أثارت الاغتيالات السياسية دوامة من جرائم القتل والقتل المضاد، على الرغم من محاولة مرتكبيها تبرير أفعالهم، واعتبارها أمراً مبرراً بل واجباً، بينما ينكرون ذلك على الآخرين، في محاولة منهم لمنع تكرارها إلى ما لا نهاية.
اقرأ أيضاً: «ميثاق العمل الإسلامي».. كراسة السجن التي صارت دستور “الجماعة الإسلامية”!
وأثناء قيامهم بذلك، كان عليهم التركيز على طبيعة السلطة، ودورها، ومصدر شرعيتها. وسوف نناقش هذه الهياكل الفكرية، والشكل الذي اتخذته، في فكر اثنين من المنظِّرين الإسلاميين المتطرفين في مصر، سيد قطب، وعبد السلام فرج.
في السادس من أكتوبر عام 1981، اغتالت جماعة الجهاد الإسلامية المتطرفة الرئيس المصري أنور السادات، فكيف قدم المرشد الروحي لهذه الجماعة، عبد السلام فرج، أفكاره بالاعتماد على النظرية الدينية للمفكر الإسلامي سيد قطب لتشريع اغتيال حاكم مسلم، على الرغم من أن الإسلام السني التقليدي منع مقاومة الحاكم المسلم ناهيك عن قتله؟

بدأ سيد قطب حياته مفكراً علمانياً يحترم الإسلام، ولكنه تحول إلى الإسلام الراديكالي، ووضع كتابه الأول في نهجه الجديد «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، وازداد تطرفه أثناء إقامته في الولايات المتحدة، حيث لم يرَ في الثقافة الغربية سوى الابتذال والفسق والمادية، على الرغم من الإنجازات العلمية والتكنولوجية. وفي عام 1953 انضم إلى جماعة الإخوان المسلمين في مصر.
كان الإخوان المسلمون من أشد الداعمين لانقلاب “الضباط الأحرار” على الملك فاروق، وعمل سيد قطب في الحكومة الجديدة في مجالات التعليم والثقافة. ولكن الإخوان وقطب انقلبوا على النظام في عام 1954 بسبب رفضهم للأيديولوجية العلمانية والاشتراكية، وتحول عداء الإخوان إلى حربٍ مفتوحة مع النظام في أعقاب محاولتهم اغتيال جمال عبد الناصر الذي شنَّ حملة اعتقالاتٍ طالت العديد من قيادات الإخوان، ومن بينهم قطب، الذي أُفرج عنه بعد تدخل من الرئيس العراقي عام 1964.
اقرأ أيضًا: معالم طريق سيد قطب بين الحقيقة والمجاز
وبسبب دوره في قيادة خلية إسلامية سرية، تم القبض عليه مجدداً وأعدم في أغسطس 1966. وأثناء اعتقاله، كتب قطب أكثر أعماله أهمية «في ظلال القرآن»، و«معالم في الطريق» الذي يمثل العقيدة التي أثَّرت على الإسلاميين المتطرفين في المستقبل، بمن فيهم عبد السلام فرج.
وتستند رؤية قطب للعالم، أولاً وقبل كل شيء، إلى التوحيد، حيث يرى قطب أن وحدانية الله هي حجر الزاوية للكون، والأساس المثالي لأي مجتمعٍ بشري. ويرى في التوحيد بعداً آخر، هو الوحدة بين الله والعالم، وهذا ما أكده مراراً في كتابه «العدالة الاجتماعية في الإسلام».

ولكن العالم بعيد كل البعد عن التمتع بالوحدة الإلهية، بسبب الصراعات الدينية والوطنية والعرقية والاجتماعية. والإسلام هو خطة عملية ابتكرها الله لاستعادة الوحدة المفقودة. والمفتاح الأساسي لهذه الخطة هو الاعتراف الكامل بوحدانية الله.
ومن هنا يشكل كتاب «معالم في الطريق» هجوماً مبطناً على أيديولوجية العروبة لجمال عبد الناصر، ويؤكد على عقدية قطب الأساسية التي تقضي بأنه يجب أن يتحد العالم بالله، وألا يخضع الإنسان إلا لله وحده. وبذلك ابتكر قطب عداوته لأي سلطة تعوق هذه الوحدة، وهذا ما قاده إلى معاداة القومية العربية والقومية المصرية. فالدولة الوطنية -حتى لو كانت قائمة على الشريعة- تفصل بين المسلم العربي المؤمن عن إخوانه من المسلمين غير العرب. والدول القومية الحديثة هي أسوأ من ذلك، لأنها تخلت عن الشريعة، واستعانت بدلاً منها بالقوانين الوضعية. وهذا ما يراه قطب ليس فقط انتهاكاً لا يُغتفر للوحد الإلهية، بل عبودية لغير الله أيضاً؛ لأنها تجبر المواطنين على طاعة البشر، بدلاً من طاعة خالقهم.
اقرأ أيضاً: «الفريضة الغائبة»… نافذة إلى تبرير القتل المفرط
ومن هذا المبدأ الأساسي، يشتق قطب مبدأً آخر هو مبدأ “الحاكمية”. فبما أن الله وحده هو الذي خلق عالماً واحداً، فغني عن القول إنه هو وحده حاكم هذا العالم. وأي محاولة من رجال الدين أو الحكام العلمانيين لمشاركته الحكم هو شرك مبين.
ونتيجة لذلك، فإن أي سلطة دينية أو علمانية لا تطبق الشريعة كقانون للدولة، هي سلطة تغتصب حاكمية الله، وتجب مقاومتها بالفعل. وهذه الدول التي اغتصبت حاكمية الله هي شر مطلق، وغارقة في الجاهلية، وهي بذلك تخالف نظام الكون.
وبحسب هذا التعريف، فإن كل المجتمعات الموجودة في العالم هي مجتمعات جاهلية -بما فيها المجتمعات الإسلامية- ليس لأنها تؤمن بإلهٍ آخر غير الله، بل لأن أسلوب حياة أفرادها لا يقوم على الخضوع لله وحده بقبولهم الخضوع لتشريعات وضعها بشر بدلاً من الشريعة الإلهية.

وبذلك يخلص قطب إلى أنه من واجبِ المسلم الحقيقي أن يقاوم حكامه العلمانيين، وما دام أن الدولة الحديثة، بما في ذلك مصر، “جاهلية” فهي بالتعريف عدو يجب هزيمته. والمصالحة الوحيدة الممكنة هنا هي الاستسلام غير المشروط، والقضاء على الدولة العلمانية، وإقامة الشريعة. وقد لخص قطب ذلك أثناء استجواب الشرطة له عن أهدافه النهائية؛ إذ قال: “إن الهدف النهائي الذي اتفقنا عليه هو إقامة نظام إسلامي قائم على شريعة الله”.
ويرى قطب أنه يجب على طليعة المسلمين دفع المجتمع الجاهلي نحو الإصلاح، وتكريس حياتهم لواجب الجهاد المقدس. الذي يفهم في كل من القرآن والتفسيرات اللاحقة على أنه “قتال مسلح ضد الكفار”. ولكنّ هنالك جدلاً طويلاً حول ما إذا كانت هذه الحرب دفاعية فقط أم أنها مفروضة من أجل بسط حكم الإسلام على العالم بأسره. وهنالك آيات قرآنية تشير إلى كلا التفسيرين. أما بالنسب لسيد قطب فالجهاد فرض إلهي على الأمة المسلمة من أجل استعادة الوحدة المفقودة بين الله والبشر، من خلال القضاء على الأنظمة المشركة، والتي تحجب نور الإسلام عن البشرية.
اقرأ أيضاً: من معركة صفين إلى سيد قطب.. السياق النفسي للحاكمية والتكفير
على الرغم من ذلك، لم يكن قطب متحمساً للعنف ضد الحكومة المصرية الجاهلية، ويرى أنه لا داعي لتعريض “الطليعة” الإسلامية للخطر، ما دام أنها ليست قادرة بعد على القيام بما أسماه “الضربة الشاملة” التي تجتث جذورها وفروعها.
ولكنه بعد إطلاق سراحه، وتحت الضغوط المتكررة من أتباعه، وافق على مضض على قيام جماعته بجمع الأسلحة، والانخراط في تدريباتٍ عسكرية، مما دفع الحكومة لاتهامه بالتخطيط لاغتيال السياسيين، ومن بينهم جمال عبد الناصر، بالإضافة إلى مطربين مشهورين، وتفجير المسارح ودور السينما.

وعلى الرغم من فشل هذا المخطط، تبقى الفكرة الأساسية وراءه هي الأكثر أهمية، وهي مبدأ العداء المميت للحكومة، والشك العميق في المجتمع ككل، كما لخصها أعضاء جماعة قطب أثناء التحقيق معهم “نحن جماعة المؤمنين الحقيقية، نعيش في وسط مجتمعٍ جاهلي. لا علاقة لنا بالدولة والمجتمع، ونحن في حالة حرب معهما”.
وإذا كان “مجتمع المؤمنين الحقيقي” في حالة حرب عنيفة مع النظام الدولة والمجتمع على حد سواء (يصفها قطب في كتابه «معالم في الطريق» بأنها طريق مرصوفة بالجماجم والأطراف والدم والعرق)، فإن الحاكم بالطبع هو هدف مشروع. وبما أن الحاكم والمجتمع جاهليون، وليسوا مسلمين، فقد زالت الموانع الإسلامية السنية المتعلقة بالتمرد على الحاكم المسلم مهما كان فاسداً.
اقرأ أيضًا: الحاكمية: أداة الإسلاميين من الإخوان إلى داعش للنفاذ إلى الغرب
ومع ذلك، وعلى الرغم من اتهام جماعة قطب بالتخطيط لاغتيال عبد الناصر، وغيره من كبار السياسيين، يبقى “قتل الطاغية” جزءاً صغيراً من أجندتهم، ويبقى القائد الطاغية ضحية واحدة في قائمة طويلة من الأهداف.
على عكس مؤلفات سيد قطب، لم يكن كتاب «الجهاد، الفريضة الغائبة» -الذي وضعه مهندس الكهرباء عبد السلام فرج المنظر الرئيسي لجماعة الجهاد- موجهاً للاستهلاك العام، بل كان بياناً أيديولوجياً داخلياً تم توزيعه على أعضاء جماعة الجهاد لغرض محدد، وهو تبرير “قتل طاغية” محدد هو أنور السادات.
وهو كتاب لا يمكن إطلاقاً فهمه على أنه عمل مستقل، بل إعادة صياغة بليغة لنظرية قطب عن الجاهلية الحديثة. فلماذا كان قطب غير متحمس لقتل الطاغية، بينما حوّله فرج إلى عقيدته الأساسية؟

يكمن الاختلاف الرئيسي بين الرجلين في تفاؤل فرج بشأن قوة الإسلام في المجتمع المصري. فقطب اعتبر المجتمع بأكمله “جاهلياً” باستثناء حفنة من المؤمنين الصالحين يشكلون الطليعة الإسلامية، بينما رأى فرج أن المجتمع المصري مسلم بجوهره، ولا يحكمه سوى الدخلاء.
وهنا اعتمد فرج على فتاوى ابن تيمية بشأن مدينة ماردين، وبشأن المغول الذين رأى أنه على الرغم من كونهم مسلمين، يجب معاملتهم معاملة الجاهليين، لأنهم يطبقون قوانينهم الوضعية بدلاً من الشريعة. واعتبر فرج أن حكام مصر مرتدون تخلوا عن الإسلام بمحض إرادتهم، والمرتدون وفقاً للقرآن يجب قتلهم أينما كانوا. “والتخلص من الحكام سيكون كافياً لإعادة الإسلام إلى هذه الأمة وإقامة دول الإسلام”، على حد تعبيره.
اقرأ أيضاً: وزير الشؤون الإسلامية السعودي: أم كلثوم أولى بـ”الذوق الرفيع” من سيد قطب
ولا عجب في أن فرج وجماعته توقعوا إشعال ثورة شعبية في مصر باغتيال السادات. ويأتي تفاؤل فرج في صميم رفضه لعقيدة قطب المتأنية في انتظار التمكن من إطلاق “الضربة الشاملة”، وتحذيره من العمل السابق لأوانه.
وهنا تكتمل الدائرة. فبعد أن أعلن قطب أن الحاكم هو عدو جاهلي أصبح الطريق إلى قتله مفتوحاً من الناحية النظرية، ولكن التنفيذ العملي لهذا المبدأ النظري يعتمد على جماعةٍ تركز بشكل أساسي على هذا العمل بشكل أساسي.
ولذلك كان لا بد من التخلي عن النظرة القاتمة إلى المجتمع، والتمسك بالحماس والتفاؤل المفرط؛ الأمر الذي يعتبر تطوراً طبيعياً، وإن لم يكن حتمياً. كان أنور السادات من أوائل ضحايا هذه العقيدة، ولكنه، مع الأسف، لم يكن الأخير.
المصدر: روتليدج