الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفةصحةمقالات
في ضرورة العدالة الإنجابية

نجاة عبدالصمد♦
في خطابها إلى النساء، قالت روث باد غانسبيرغ: “حارِبن من أجل القضايا التي تؤمِنّ بها؛ ولكن بطريقة تحمل الآخرين على الانضمام إلى صفوفكن”.
غانسبيرغ أستاذة في القانون وقاضية في محكمة العدل العليا الأمريكية منذ عام 1993 حتى وفاتها في 2020. لم تقدِّم هذه المرأة نفسها كأمريكيةٍ من أصولٍ أوكرانية ونمساوية ولا بخلفيتها الدينية اليهودية؛ بل كحقوقيةٍ مناهضة لجميع أشكال التمييز، ومناصرة للحريات المدنية ولحكم القانون وقضايا المرأة؛ هذه القضايا المتصلة، التي بُني عليها مشروع العدالة الإنجابية.
البدايات..
حمل النصف الثاني من القرن العشرين اهتماماً خاصاً بالصحة الإنجابية للمرأة، بتوعية النساء وخدمات رعاية الحامل، والكشف المبكر عن سرطان الثدي وعنق الرحم، والوقاية من الأمراض المنقولة عن طريق الجنس، ونشر ثقافة تنظيم الأسرة كترشيد للإنجاب، وتجنب الحمل غير المرغوب فيه.
اقرأ أيضًا: قصة الأخوات الثلاث اللاتي رسّخَ اغتيالهن لليوم العالمي للقضاء على العنف ضد المرأة
لكنَّ هذه الخدمات لم تتوفر في جميع البلدان النامية، ولم تشمل جميع شرائح النساء، ووصلت منقوصةً إلى بعضها، ولم تشرك الرجال في برامجها، إضافة إلى المعضلات التنموية بعمومها وخصوصيتها في كل بلد، من الأمية إلى الفقر إلى تدني مستوى التعليم والبطالة، وغيرها..
وحتى نهايات القرن العشرين، ومع توالي منجزات العلم، والطب على وجه الخصوص، والتغيُّر الهائل في حاجات العالم، إضافةً إلى بقاء كثيرٍ من القضايا التنمويّة عالقة، وظهور قضايا وفئات مجتمعية جديدة؛ تفاقمت الحاجة إلى قوانين تنظم هذه القضايا مجتمعة، وتحمي الأفراد من الاستغلال المعنوي والمادي ومن سوء الخدمة.
في عام 1994، انعقد المؤتمر الدولي للسكان والتنمية في القاهرة، وكان سبقه مؤتمران شبيهان؛ الأول في بوخارست عام 1974، والثاني في مكسيكو سيتي عام 1984، لكنّ مؤتمر القاهرة كان الأول من نوعه من بين الأنظمة التنموية الدولية الذي كسر تابو “الحقوق الإنجابية “وسط معارضةٍ شديدةٍ من التيارات الدينية على اختلافها. فقد توافق القادة الدوليون في القاهرة على تغيير وجهة محور التنمية العالمية من جهود السيطرة على السكان إلى حق الفرد في تخطيط أسرته، في اختيار ما يتعلق بصحة جسده وحقوقه الإنجابية، كتعزيزٍ لحقوق الإنسان، وتكريس مساواة النوع الاجتماعي، والتصدي للعنف ضد النساء، والمساواة الكاملة في التعليم بين الإناث والذكور، وأولوية القضاء على الفقر، وتحقيق الاستقرار في النمو السكاني. والأهم في نواتج هذا المؤتمر أنه خصَّص ميزانيةً سنويةً لبرامج السكان والصحة الإنجابية في البلدان النامية.

وفي العام نفسه، وبعد سنواتٍ من النشاط غير الرسمي، أعلنت مجموعةٌ من النساء الملونات عن نفسها باسم حركة “سيستر سونغ” sister Song، معارضةً مطالب التيار الرئيسي لحركة حقوق المرأة في أمريكا.
موضوعُ الإجهاض كان نقطة الخلاف في الظاهر؛ فقد طالبت النساءُ البيض بقانونٍ يُجيز حق الإجهاض في جميع الولايات، وكان لحركة “سيستر سونغ” مطالب أبعد أُفقاً، وانضمت إليهن مجموعاتٌ من النساء البيض، وبعض الرجال، وأطيافٌ من ذوي الهويات الجندرية غير النمطية.
تركَّز احتجاج حركة “سيستر سونغ” على أن تيار حقوق المرأة يتوجَّه باهتمامه إلى صحة المرأة الأمريكية البيضاء وحدها، ولا يقارب القضايا الإنجابية الملحَّة لذوات البشرة الملونة، وكذلك يستثني الشرائح المستضعَفة من قائمة أولوياته، (كالمهاجرين، وذوي الدخل المنخفض، ومرضى الإيدز، والمشتغلين بالجنس، وذوي الهويات الجندرية غير النمطية، وذوي الإعاقة و..)، ولا يلتفت إلى ما يلحق بهذه الشرائح من إهمال واضطهاد ممنهج. وعلى سبيل المثال لا الحصر، أن حق الإجهاض الذي تطالب به النساء البيض هو ذاته الذي تعاني النساء الملونات من فرضه عليهن بالتهديد، كما أنهن يعانين من صعوبة الوصول إلى الإجهاض الآمن حتى في الأماكن المسموح فيها قانوناً، وتتعرض كثيراتٌ منهن إلى التعقيم القسري والترويج القسري لحبوب منع الحمل، وتُختبَر العمليات أو التجارب على أجساد بعضهن قسراً لتدعيم الاكتشافات العلمية، ويرتفع بينهن معدل وفيات الأمهات بسبب صعوبة الوصول إلى خيارات الولادة الآمنة، ومياه الشرب في بيوتهن غير نقية، وتعاملهن الشرطة بوحشية، وتتحيَّز دوائر الهجرة ضد عائلاتهن فتفصل الآباء عن الأطفال.. إلخ.

في مطالبها، مزجت حركة “سيستر سونغ” ما بين “الحقوق الإنجابية” و”العدالة الاجتماعية”، وجعلت منها قضيةً لا مجرد مطالب، أنها حق الإنسان في الحفاظ على استقلاله الجسدي الشخصي، وألا يُكتفى بتشريع هذا الحق؛ بل بتفعيله على الأرض لإحقاق هذه العدالة.
وفي العام التالي، 1995، أطلق مؤتمر الأمم المتحدة العالمي الرابع للمرأة في بكين (إعلان بيغين) القاضي بالدعم الكامل لجميع النساء، وتحميل الدول مسؤولية ضمان حقوق النساء؛ ومن بينها الحق في الرعاية الصحية الجنسية والإنجابية.
أثمر مجموع هذا الحراك عن صياغة مفهوم العدالة الإنجابية على أنها “حق النساء في الحفاظ على استقلالهن الجسدي، وفي قرار الإنجاب أو عدم الإنجاب، أو الإجهاض، أو متى يتم إنجاب الأطفال، والحق في تربية أطفالهن داخل مجتمعات آمنة، بما يضمن لهن الصحة والحميمية والأمن المالي والسلامة المنظمة والمستدامة، وتضمين هذا الحق في الإطار الدولي لحقوق الإنسان، غير القابلة للتصرف”.
اقرأ أيضًا: العلاقة بين تمكين المرأة ومكافحة التطرف
تُقارب العدالة الإنجابية حق النساء في خيار الإجهاض أو الإنجاب أو عدمه، من خلال الاعتراف أولاً بحقيقة أن المرأة لا تستطيع ممارسة حقوقها الإنجابية ما لم تنل حقوقها الإنسانية الأخرى، وأولها الكرامة الشخصية. والكرامة هي حق الفرد في أن تكون له قيمة وأن يُحترم لذاته وأن يُعامَل بطريقة أخلاقية وأن يتأثر حين يُنتقَص قدرُه أو يُؤذى في إنسانيته، وأن يؤلمه هذا الانتقاص مثل جرحٍ مفتوح. وهذا يتضمن حكماً الاعتراف بكرامة الآخرين وعدم استغلال نقطة قوة في أحدهم لنقطة ضعفِ في الآخر وإيذائه من خلالها (التنمر)؛ فلا كرامة حقيقية لا تشمل الجميع. ولا تتحقق كرامة المرأة إلا بتمكينها الاقتصادي كأساسٍ لاستقلاليتها.
في سياقها التاريخي، تمت إعادة إنتاج الدولة والأنظمة والعائلة والفرد بالسيطرة على الأجساد عبر إعادة الإنتاج الإنجابي، (أي إعادة إنتاج القوى العاملة، إنتاج المواطن الصالح للعمل)، من خلال الوظيفة الأهم، أي الوظيفة التناسلية والإنجابية. وهذا يعني أن فكرة التخطيط للأسرة أو تربية الأولاد أو تأمين خدمات الصحة الجنسية والإنجابية، تصب جميعها في كدح الإنسان أياً كان جنسه، ووظيفته في إعادة الإنتاج الإنجابي وغير الإنجابي، ومن الطبيعي أن تتحمل المرأة، بسبب امتلاكها الرحم، الكلفة الأكبر منه.
لكن العدالة الإنجابية لا تقتصر على النساء وحدهن كما قد يبدو من ظاهر التعريف، ولا على الصحة والحقوق الإنجابية وحدها للمرأة والرجل على السواء؛ بل هي حاجةٌ مجتمعيةٌ وإنسانيةٌ وعابرةٌ للدول، تشتبك فيها القضايا الإنسانية العالقة منذ أواخر القرن العشرين، بدءاً من العدالة الاجتماعية، إلى العدالة البيئية، إلى واقع المواطنة والهجرة والحدود، ومآسي اللجوء، ومعاناة الأطياف التي ترغب في تقديم نفسها بهويةٍ جندريةٍ غير نمطية، وذوي المهن المذمومة وذوي الإعاقة، وصولاً إلى الاضطهاد الإنجابي الذي تواجهه المجتمعات والمجموعات والأفراد.. فالبلدان التي لا تكفل لنسائها حق إعطاء الجنسية لأبنائهن أو حضانتهم هي ذاتها التي لا تشرِّع حق الإجهاض ولا تشرِّع الزواج المدني، ولا تمنح الأوراق الثبوتية لذوي الهويات الجندرية غير النمطية، وهي التي تمنع اللاجئين/ات من العمل ومن حق الوصول إلى الرعاية الطبية وغيرهما.. وهي المنظومة التي تقدِّم خدمات صحية وإنجابية نخبوية، وتُفقِر المجموعات المستضعفة، وتُعرِّضها إلى اعتداءات يومية على أجسادها واستقلاليتها الإنجابية وقدرتها الذاتية على التصرف، أي تُسهِم في إمراضها وإمراض عائلاتها. هذه القضايا مترابطةٌ في بناها التحتية، وهي غير قابلة للتجزئة، وكذلك غير قابلةٍ للحل؛ ما لم يتفكَّك الظلم من جذوره.

كثيرةٌ هي الأمثلة الواقعية التي توضح الصورة، وتُظهِر التمييز الذي يقع على فئةٍ ما فقط بسبب العرق أو الجنس أو الطبقة الاقتصادية والاجتماعية أو الجغرافيا التي تنتمي إليها:
* العنف الجنسـي والعنف القائم على اختلاف النوع الاجتماعي يصنع عدم المساواة بين الجنسَين، ويُقصي النساء والفتيات من جميع مناحي التنمية، ويبقيهن تابعات.
* الفقر والعشوائيات والبيوت الرطبة بلا شمس والعيش قرب المزابل وفي المقابر وعدم الأمان والقلق وسوء التغذية، جميعها عوامل مرتبطة بالإجهاض التلقائي، والولادة المبكرة، والعقم، والعيوب الخلقية في الأجنَّة.
* يضع السياسيون اللوم في الزيادة السكانية، والمشكلات البيئية الناجمة عنها، على النساء الفقيرات والمهاجرات واللاجئات، المهمشات بطبيعة الحال، وكأنما لا حق لهن في حمل آمن وتربية أطفالهن في بيئة صحية أسوةً بباقي النساء. بينما قد تكمن الأسباب في سوء الإدارة الحكومي والصناعي الذي يُخلِّف الضرر على مصادر المياه والتربة، وكذلك على الغذاء.

* لا ينظر المجتمع إلى الإصابة بالأمراض المنقولة عن طريق الجنس على أنها مرضٌ كباقي الأمراض؛ بل بصفتها وصمة (ستيغما)، وعقاباً على سلوك متهوِّر وغير أخلاقي. والخوف من هذه الوصمة أو من التعرُّض إلى معاملة سلبية من قِبل الشريك الحميم أو الأصدقاء أو الأسرة أو مقدمي الرعاية الصحية يعيق رعاية هؤلاء المرضى لأجسادهم.
* تنميط الصورة عن النساء الفقيرات والمهاجرات واللاجئات أنهن جاهلات، مهملات، بليدات، يمارسن الجنس أمام أولادهن في الخيمة الوحيدة التي تعيش فيها أُسرهن الكبيرة، ولا يعرفن كيف يستخدمن وسائل منع الحمل، وينجبن الأطفال ليزدن عدد الفقراء ويهددن أمن وموارد بلدهن أو البلد الذي لجأن إليه. وتسمع المرأة هذا الخطاب وتخشاه، وتحجم عن طلب الخدمة الصحية خوفاً من سخرية الموظف المسؤول، وقد تُخفي أنها حامل، أو تلد في البيت بسبب سوء المعاملة في المشفى، وإذا طلبت الخدمة الصحية فهي الأقل حظاً في الحصول على خدمات التوليد والرعاية الصحية، وبالتالي فهذه المرأة وجنينها هما الأكثر عرضةً إلى الموت عند الولادة أو بعدها، وهي أكثر عرضةً إلى الأمراض، والسرطان بالتحديد، واللاجئات لا يحظين بالرعاية الصحية الوقائية كما المستقرات (كالكشف المبكر أو التداوي لعلاج نقص الخصوبة أو سائر الأمراض، وإذا توفرت الرعاية الطبية قريباً منهن فقد لا يستطعن دخول المشافي بسبب فقدان أوراقهن الثبوتية أو عدم القدرة على دفع الفاتورة. وقد تجبر اللاجئة على إنهاء حمل مرغوبٍ به؛ حتى لا تُلحق الضرر بفرصة عائلتها في الهجرة إلى بلدٍ يمنحها إقامة آمنة.
اقرأ أيضًا: الفريسة: الإسلام والهجرة وتآكل حقوق المرأة
* استغلال النساء ذوات الإعاقة الجسدية بمصادرة قرارهن الشخصي وإخضاعهن للوصاية ورغبة الوصي بينما هن سليمات العقل، وعدم امتلاكهن فرص العمل أو الزواج وحبسهن في البيت واعتبارهن عبئاً على العائلة.
* ختان الإناث لا يزال سارياً في كثيرٍ من بلدان إفريقيا والشرق الأوسط، كذلك في بعض مجتمعات المهاجرين في الدول الغربية، ويقدَّر اليوم أن أكثر من 125 مليون فتاة وامرأة قد تعرَّضن إلى الختان.
* معاناة النساء المسجونات من إمكانية التعرُّض إلى الإيذاء الجسدي والجنسي، وغياب الرعاية الصحية الإنجابية والجنسية؛ بسبب عدم توافر أطباء أمراض النساء وعدم وجود أبسط الحاجات كالفوط الصحية.
* واقع اختلاف الأجور بين العاملين في مهنة واحدة تتطلب المجهود نفسه، يكسب الرجل فيها أجراً أعلى من أجر المرأة، وتكسب المرأة البيضاء أعلى من الملوَّنة. فعلى المرأة البيضاء أن تبذل ضعف الجهد لأنها امرأة، وعلى الملونة أن تبذل ثلاثة أضعاف هذا الجهد لأنها امرأة ولأنها ملوَّنة.

* الدعارة السرية هي مأساة للمشتغلين والمشتغلات فيها وليست عارهم، فهم غالباً ضحايا استغلال طبقة أعلى. والدعارة المرخصة مهنة كباقي المهن؛ لكن المجتمع يعاملها بالنبذ، وهي غير محمية بالقانون، ولا يتلقى المشتغلون فيها (من رجالٍ ونساء) اللقاحات أو الرعاية الطبية أو فحوص الكشف المبكر عن السرطان أو وسائل منع الحمل، ولا يفرض القانون على الزبائن ارتداء الواقي الذكري، وبدلاً من حماية الدولة لهذه الفئة؛ فإن أكبر استغلالٍ لها يأتي من رجال الدولة أنفسهم.
* الترويج لوسائل منع الحمل بعقلية ذكورية تُركِّز على إبطال خصوبة المرأة، ولا تشجِّع على الواقيات الذكرية للرجال، فيرفضها أكثرهم، إضافة إلى استهتارهم بجزء المسؤولية المطلوب منهم في منع الحمل غير المرغوب حتى في أوساط العائلات القائمة على الزواج التقليدي.
* غياب العدالة عن الجنسَين بتشجيع المرأة أو الرجل على التعقيم (ربط القناتَين الرحميتَين للمرأة، أو الأسهرين للرجل) دون شرحٍ لكيفية أو نتائج هذه العملية، أو مراعاة أن مجتمعاتهم مسيَّرةٌ بنظامٍ أبوي يعتبر تعقيم الرجل انتقاصاً للرجولة.
اقرأ أيضًا: المرأة في المنظومة الأبوية للأديان التوحيدية
* في الحمل خارج إطار مؤسسة الزواج التقليدي أو الحمل الناجم عن العنف الجنسي، يقع التجريم الوحيد على المرأة، وتضطر هذه المرأة إلى الإجهاض، على رغم رغبتها في الأمومة، كي لا تجلب العار لعائلتها. وقد يستغل بعض الأطباء خوفها ويطلب منها مبالغ خرافية، فترغم على الأمومة الإجبارية وتتخفَّى وتعيش في رعبٍ دائم، أو تلجأ إلى الإجهاض غير الآمن فتفقد صحتها أو حياتها.
* استبعاد النساء الفقيرات و/أو غير المتزوجات أو اللاجئات من برامج الأمومة الآمنة ورعاية ورفاه الأطفال التي تدعمها الدولة، فتدفعهن قسوة الظرف الاقتصادي أو الاجتماعي إلى الاضطهاد الإنجابي: أي أن تجبر هؤلاء النساء على الاختيار بين عيشهن وأطفالهن البيولوجيين، فيرسلنهم إلى التبنِّي. والتبني بدوره خاضعٌ لسلطة الدين وليس للدولة. وفي حين لا يسمح الفقه الإسلامي بالتبنِّي الكامل، فإن المسيحية تسمح به من خلال عدد من الشروط التي تضعها الكنيسة.
* دخول التقنيات المساعدة على الحمل مكَّن النساء الراغبات في الأمومة وغير القادرات عليها بيولوجياً، كالمسنات، والمريضات، واللواتي بلا رحم، أو في حالة عقم الزوج.. وحمل معه الحاجة إلى خدمة “الرحم البديلة”، وخدمات الإرضاع من الثدي وسواها.. جميعها تجري اليوم بتسييرٍ من السوق الرأسمالي الذي يستغل النساء الفقيرات ويجبرهن على تقديم أرحامهن أو حليب أثدائهن مقابل أجورٍ بخسةٍ، مع غياب القوانين التي تنظم “الأمومة البديلة”، وتُنصف المشتغلات فيها بأجر عادل باعتبارها مهنة نظامية.

* رهاب ذوي الهويات الجنسية غير النمطية من العبور الجنسي، ومن تحميل الأطباء مسؤولية العمليات الجراحية الفاشلة، ومن طلب خدمة تجميد البويضات أو السائل المنوي قبل إجراء جراحاتهم، والاضطهاد الجنسي الذي يتعرضون إليه بسبب اضطرارهم/ن إلى الاختيار بين بطاقة هوية تؤمِّن الحماية القانونية والاجتماعية أو البطاقة التي تعبِّر عن هويتهم الجندرية كما يشعرون بها، واضطرارهم إلى العيش مع عائلة ترفضهم ووسط مجتمع ينبذهم، وغياب حقوقيين يتبنون قضاياهم، أو قبول الحقوقيين هذه القضايا وتركها معلَّقة.
* والكادر الطبي نفسه لم يعد محمياً في ظل تخلُّف القوانين عن الحاجات الطبية المستجدة، وأبسط مثالٍ عليه أن قوانين بعض الدول تعاقب الطبيب بالسجن إذا وصف دواءً مانعاً للحمل لامرأة وتم الادعاء عليه وثبت اتهامه بدليل هذه الوصفة.
هذه بعض الحالات، عدا عن كثيرٍ غيرها، تكشف عن مدى الظلم الواقع على أصحابها، وغياب الإطار الناظم لهذه الفئات وسط شركائها في المجتمع الكبير، بحقوقها ومسؤولياتها المستحقة، وقد تكون العدالة الإنجابية هي الإطار العملي لتفكيك هذا الظلم من جذوره، هي مشروع التغيير الاجتماعي الجذري والشامل، بشراكة فعلية بين واضعي السياسات والمجتمع المدني وجماعات التأييد، وتحييد سيطرة النظامَين: الرأسمالي والأبوي، وتفعيل التنمية الاجتماعيـة، والصحة والتعليم أولاً، للوصول إلى مجتمع مستقر يعترف بحق جميع أفراده في الوجود والكرامة، من دون أي تمييز جندري أو سواه.
اقرأ أيضاً: رحيل نوال السعداوي.. رائدة الدفاع عن حقوق المرأة
والطريق إلى العدالة الإنجابية المنشودة طويل وحافل، كما تقول روث باد غانسبيرغ: (كل مشروعٍ للتغيير الاجتماعي الراديكالي هو في حقيقته عمل سياسي منظم، ولا ينجح أي عمل سياسي من دون مخاطبة المجتمع الواسع خارجه، والتأثير في العقول والقلوب، واستقطاب مناصرين من خارج الحراك إلى داخله أو للتحالف معه، وكذلك مواجهة خطاب الخصوم والأعداء بالنقاش وبالنفس الطويل).

وسوء الحال على الأرض لا يجب أن يقود إلى الصمت عليه أو التسليم به أو تجنب خوضه؛ بل لعله يحفِّز على الإيمان بضرورة التغيير، وعلى امتلاك الإرادة للبدء والقوة والتحمل والصبر حتى إنجازه، وتلزمه المعرفة والوعي بالحرية كمسؤولية كما هي حق، وطمأنة الرجال أنهم شركاء، وتوعية الرجال والنساء ليبدؤوا بطرح أسئلتهم الموجهة والعميقة، ويبادروا بأنفسهم إلى طلب المعلومة أو الخدمة التي يحتاجون إليها أكثر من سواها لا أن يبقوا مجرد متلقين لما يُعطى إليهم، وأن يضغطوا معاً على منظومات القرار والحكومات كي تتبنى دساتير عادلة تسري على الكبار والصغار، والأقوياء والضعفاء..