الواجهة الرئيسيةاليوم الوطني السعوديشؤون خليجيةشؤون عربيةمقالات
في ذكرى اليوم الوطني الحادي والتسعين للمملكة العربية السعودية.. نضج وثقة في مواجهة التحديات

كيوبوست- خاص
د.محمد رمادي♦
إذا نظرنا إلى الإنجازات التي تحققت في المملكة على مدى واحد وتسعين عاماً، فسنرى العديد من المعالم الرئيسية؛ مثل إرساء أُسس اقتصاد أكثر استدامة، وأنظمة ولوائح مالية، ودور قيادي عالمي أكثر ثقة. ولكن في الوقت نفسه، لا يزال هنالك بعض القضايا العالقة المثيرة للقلق؛ مثل تضخم الدين الوطني، ومدى سرعة عملية تنويع الاقتصاد، والتقليل من الاعتماد على النفط، ووتيرة عمليات سَعْوَدة القوى العاملة في البلاد.
يعتبر القطاع المالي إحدى قصص النجاح التي يجب أن تفاخر بها المملكة العربية السعودية؛ فالدول ترتكز على سلامة نظامها المالي ونزاهة سلطاتها الرقابية الناظمة. وفي الذكرى الـ91 لتأسيس الدولة السعودية الحديثة، يُظهر تحليل الهيكل المالي السعودي والمؤسستَين الرئيسيتَين الناظمتَين له (مؤسسة النقد العربي السعودي وهيئة السوق المالية)، مدى التقدم الكبير الذي تم إحرازه على مدى العقود القليلة الماضية في الإشراف على قطاع مالي متعدد الأوجه منذ بدايته المتواضعة للغاية التي كانت متخلفة عن المراكز المالية الخليجية الأخرى؛ مثل البحرين والكويت والإمارات العربية المتحدة. كان تركيز الهيئات الناظمة يميل إلى التحفظ، وكانت البراغماتية والاستقرار والاستمرارية هي الشعار؛ خصوصاً بالنسبة إلى مؤسسة النقد العربي السعودي، على الرغم من الكثير من الانتقادات التي أثارها مَن كانوا يرغبون في اتباع سياسة أكثر جرأة في إدارة الأصول. وقد نَجَت مؤسسة النقد العربي السعودي، تحت قيادة عدد من المديرين، وخرجت أكثر قوة بعد سلسلة من الأزمات كان يمكن أن تضع الهيئات الناظمة الأخرى تحت ضغط كبير؛ مثل أزمة الخليج بين عامَي 1990 و1991، والأزمة المالية العالمية بين عامَي 2008 و2009، وهي الآن تواجه تحديات في مجال الخدمات المصرفية الرقمية والتقنية المالية، وتنظيم موجة جديدة من البنوك الأجنبية من مختلف أنحاء العالم التي تفتح فروعاً لها في المملكة العربية السعودية في أعقاب حقبة سَعْوَدة البنوك الأجنبية، كما أنها تشرف حالياً على اندماج البنوك السعودية العملاقة.

اقرأ أيضًا: 90 عاماً.. السعودية ملحمة التأسيس ورؤية 2030 المستقبلية
على خلاف النموذج القديم الشامل لسَعْوَدة العمال على أساس نسب معينة تم فرضها على القطاع الخاص؛ فإن سعودة البنوك الأجنبية العاملة في السعودية كانت تتم على أساس شراكة متبادلة المنفعة سمحت للخبرات المصرفية الأجنبية بالاستمرار في الانتقال إلى الجيل القادم من المصرفيين السعوديين. والآن تركز سَعْوَدة العمالة بشكل أكبر على تمكين جيل من شباب البارعين المبتدئين في مجال التكنولوجيا، مع إتاحة إمكانية إدراجهم في سوق الأسهم السعودية الموازية، إلى جانب تقديم الدعم المالي وبناء القدرات لقطاع المشروعات الصغيرة والمتوسطة الحيوي الذي يخلق فرص العمل.
واليوم تطور القطاع المصرفي السعودي من ناحية نوعية الأصول والسيولة بفضل الرقابة الناظمة المتوازنة لمؤسسة النقد العربي السعودي التي تقوم بترسيخ ممارسات مصرفية سليمة من خلال رَسْمَلَة قوية وجودة ائتمانية عالية وربحية جيدة للقطاع المصرفي، مع إجراء العديد من عمليات الاندماج بين البنوك الضخمة التي ضمنت قدرة البنوك السعودية على منافسة نظيرتها الأجنبية. وقد تمت تسوية التداخلات في مناطق الاختصاص الرقابية على الخدمات المصرفية الاستثمارية والأدوات المالية بين مؤسسة النقد العربي السعودي وهيئة السوق المالية السعودية الناضجة من حيث عمق وتعدد اللاعبين الماليين.

سوف تدخل مؤسسة النقد العربي السعودي، التي أُعيدت تسميتها كمصرف مركزي، مرحلة جديدة منذ تأسيسها عام 1952، وهي واثقة من أنها أرست أسساً قوية لمواجهة التحديات الجديدة التي تنتظرها؛ خصوصاً إذا ما سعى البنك المركزي الجديد إلى تحقيق عائدات وأهداف استثمارية أعلى بالمقارنة مع النهج الحالي المحافظ، لضمان تغطية الريال السعودي. وهذا سيثير بعض التساؤلات المثيرة للاهتمام حول ما إذا كان البنك المركزي السعودي سوف يستمر بالتركيز على الاستثمارات النقدية بدلاً من الاستثمار في أسهم الشركات؛ مثل صندوق الاستثمارات العامة، في حين أن الأنشطة الاستثمارية لهذا الصندوق سوف تخضع الآن لرقابة أشد، وستكون موجهة نحو الاقتصاد المحلي لدعم المشروعات العملاقة لرؤية 2030 وشراكات القطاع الخاص.

كانت قضية الفساد في تلزيمات المشروعات الحكومية عاملاً أسهم في منع الشركات المحلية والأجنبية من المشاركة الناجحة في المشروعات الوطنية، كما أسهم في زيادة الأعباء الحكومية بنسبة 10- 15% من الناتج المحلي الإجمالي. وقد نجحت حملة مكافحة الفساد، التي تمتعت بسلطات واسعة في التحقيق والملاحقة القضائية بحق أي موظف حكومي مهما كانت رتبته أو وضعه الاجتماعي، في ضمان عدالة الفرص والمنافسة النزيهة في المناقصات الحكومية. وهذه الحملة لمكافحة الفساد سوف تشجِّع الشركات الدولية على نقل مكاتبها الإقليمية الرئيسية إلى الرياض، إذا كانت ترغب في المشاركة في المشروعات الحكومية العملاقة.
شاهد: فيديوغراف.. جهود السعودية في مكافحة الفساد
ربما يكون ارتفاع الدين المحلي السعودي مشكلة في المستقبل؛ فقد أجبر الاعتماد غير المنتظم على عائدات النفط، المملكة العربية السعودية على توسيع برامج ديونها المحلية، والدولية في معظم الأحوال، وبالتالي زيادة تداعيات عبء خدمة الدين في المستقبل. ووفقاً لبعض التقديرات سيصل إجمالي الدين الخارجي السعودي بنهاية عام 2021 إلى 261.1 مليار دولار، وهذا يمثل نحو 35% من الناتج المحلي الإجمالي، بينما يصل إجمالي الدين الحكومي إلى 274.5 مليار دولار أو 36.8% من الناتج المحلي الإجمالي. وفي غضون ذلك ستنخفض الاحتياطيات الدولية للمملكة العربية السعودية إلى 369.9 مليار دولار بنهاية عام 2021. وهذه توقعات متشائمة إلى حد ما، ولا تأخذ بعين الاعتبار التأثير الإيجابي على النشاط الاقتصادي العالمي لتسريع طرح لقاح فعال لجائحة “كوفيد-19″، ولارتفاع أسعار النفط وإجراءات تعزيز العائدات غير النفطية الأخرى، وبرامج ترشيد الإنفاق التي تطبقها المملكة لخفض النفقات الحكومية. وبينما تخطط بعض دول مجلس التعاون لتطبيق ضريبة الدخل على أصحاب الدخول المرتفعة بحلول عام 2022؛ مثل عمان التي أوضحت ذلك في أحدث خططها الاقتصادية 2020- 2024، فإنه من غير المتوقع أن تنتهج المملكة مثل هذا النهج؛ نظراً لرفعها ضريبة القيمة المضافة من 5% إلى 15% في عام 2020، ثم إلغائها على البيوع العقارية. ومع التركيز المتجدد على جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة والمشروعات الأجنبية في برنامج رؤية 2030 المتنوعة؛ خصوصاً في مجال الترفيه والسياحة ومشروع “نيوم”، يصبح احتمال تطبيق ضريبة الدخل أقل ترجيحاً؛ ولكن لا يمكن اعتبار أي شيء أمراً مفروغاً منه.

وعلى الساحة الدولية، انتقلت المملكة من كونها مشاركاً هامشياً إلى لاعب إقليمي وعالمي فعال على الساحة الاقتصادية العالمية. وستظل رئاسة المملكة لمجموعة العشرين في عام 2020 في الذاكرة لفترة طويلة؛ ليس لمجرد أنها انعقدت في سنة جائحة “كوفيد-19” الاستثنائية، بل بسبب الإدارة الاحترافية للحدث الذي استمر لمدة عام، والمشاركة الواسعة للقطاع العام والخاص السعودي. ولم يكن ذلك ليحدث دون تغييرات جذرية في الهيكلية الحكومية والمزيد من مخرجات التعليم القائمة على المهارات النوعية.
اقرأ أيضًا: مشروع نيوم.. مستقبل جديد للمملكة والعالم
وقد انعكست نتائج ذلك في عدة مظاهر؛ أولها أن المملكة العربية السعودية رسخت نفسها بقوة باعتبارها الدولة العربية الوحيدة في مجموعة العشرين التي كانت تحمل تطلعات ليس المملكة فحسب بل العالم العربي بشكل عام، وثانيها أن المملكة خرجت من الظل لتلعب دوراً عالمياً بارزاً في المساعدة على تشكيل أُطر جديدة في النظام الدولي لتجاوز الأزمة الاقتصادية العالمية. وكما قال مسؤولون سعوديون، فقد تمت دعوة مجموعة العشرين وترؤسها لإنقاذ العالم والتخفيف من آثار الأزمة والتأكيد أن المشكلات العالمية تتطلب حلولاً عالمية؛ لا سيما في ضمان الوصول العادل للدول الفقيرة إلى مخزونات اللقاح، ودعم منظمة الصحة العالمية. أما ثالث الانعكاسات فهو أن المملكة قد أثبتت قدرتها على استضافة مثل هذا الحدث الدولي واسع النطاق، الذي لم يكن حدثاً ليوم واحد؛ بل كان برنامجاً يمتد على مدى عام كامل ظهرت المملكة من خلاله بوصفها شريكاً عالمياً حقيقياً بفضل تقدم البنية التحتية فيها وكفاءة ومهارات حكومتها والمشاركين من القطاع الخاص فيها.

قلة من المراقبين السعوديين كانوا يتوقعون أن تحقق المملكة الكثير وأن تثبت نفسها صوتاً قوياً وواثقاً خلال اجتماعات مجموعة العشرين القادمة؛ حيث يمكن للدول الأخرى أن تتعلم من جهود المملكة العربية السعودية الناجحة في خفض انبعاثات الكربون والاستفادة من هذا التخفيض في ما يعرف بنموذج اقتصاد الكربون الدائري، ومن كونها من أوائل المنتجين لمصادر طاقة الهيدروجين الزرقاء والخضراء.
ومن المؤكد أن الذكرى السنوية المئة لليوم الوطني سوف تضع المملكة كواحدة من الدول الرائدة في قطاع الطاقة، مع تصدير التكنولوجيا السعودية إلى منتجي الوقود الأحفوري الآخرين.
♦د.محمد الرمادي: مؤلف معروف للعديد من المنشورات عن المملكة العربية السعودية ومنظمة “أوبك” وشركة “أرامكو” ومجلس التعاون الخليجي، وكبير المصرفيين وأستاذ التمويل والاقتصاد في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن بالظهران.
لقراءة الأصل الإنكليزي: KSA 91st Anniversary -1392