الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفة
في اليوم العالمي للإذاعة.. ذكريات عبر الأثير!

كيوبوست- إيهاب الملاح
– 1 –
بحسب المنظمة العالمية للتربية والعلم والثقافة التابعة للأمم المتحدة “يونسكو”، أعلنت الدول الأعضاء في المنظمة عام 2011 عن يوم 13 فبراير يوماً عالمياً للإذاعة (WRD)، واعتمدت ذلك الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2012. ومنذ ذلك التاريخ والاحتفال العالمي بالإذاعة يتجدد في كل بلدان العالم التي يستحضر أبناء كل بلد فيها ذكرياتهم وخبراتهم مع الوسيلة التواصلية الأولى للعالم لما يقرب من نصف القرن تقريباً.
وبحسب يونسكو، أيضاً، فإن الإذاعة هي وسيلة قوية للاحتفال بالإنسانية بكل تنوعها لكونها تشكل منصة للحوار الديمقراطي. وعلى المستوى العالمي، تظل الإذاعة الوسيلة الإعلامية الأوسع انتشاراً. وتعني قدرتها الفريدة الوصول إلى جمهور واسع وتشكيل تجربة المجتمع في التنوع، وخلق ساحة للجميع للتعبير عن آرائهم وتمثيلهم وإسماع صوتهم.

– 2 –
في اليوم العالمي للإذاعة، الذي يحل في الثالث عشر من فبراير كل عام، يحمل الملايين في كل بقاع الأرض ذكرى ما تربطهم بهذا الجهاز العجيب الذي كان اختراعه نقلة حضارية في تاريخ البشرية، جهاز الراديو الذي حمل عبر موجاته الأثيرية أعذب الأنغام والألحان وأعظم ما أبدعته المخيلة البشرية قبل أن تنتقل من عصر الصوت إلى عصر الصورة!
في محبة الإذاعة؛ وجهاز الراديو الساحر الذي لعب أكبر الأثر في تكويني، وفي ثقافتي، وفي حبي وافتتاني بالفن وسحره، والدراما وخلودها، والغناء وجماله.. أقدِّم التحية للإذاعة المصرية العربية (الأم) وكذلك إلى الإذاعات العربية التي تسير على الدرب، وتمسك بالقيمة كالجمر، وبرامجها الثقافية التي أنارت وتنير للكثيرين دروب الثقافة والمعرفة الأصيلة..
وإذا كان من الصعب بل يكاد يكون من المستحيل التأريخ للإذاعة وموادها عالميا، وفي كل بقاع الأرض، فإنني أتصور أن أهل كل بلد وثقافة هم الأقدر والأجدر على الكتابة عن إذاعتهم التي استمعوا إليها، وشكلت وجدانهم وأذواقهم ويسرت سبل المعرفة والإعلام والتواصل والإفادة بحسب ظروف كل بلد وتطوره، ولعل هذه دعوة لكل مستمع أصيل للإذاعة في البلد الذي عاش فيه واستمع إلى الإذاعة عبر أثيرها، أن يسجل تجربته التي تمثل لبنة في بناء الصورة الكاملة لهذه الوسيلة الحضارية التي أسهمت في تقدم البشرية.
اقرأ أيضًا: محطات في حياتي مع الراديو
– 3 –
أنا من مواليد أواخر السبعينيات، تفتحت عيني على “التليفزيون” -أو “صندوق الدنيا الملون” كما كنا نسميه- أول ما تفتحت، كوسيلة تعرّف مذهلة على العالم، جاء “الراديو” في مرحلة تالية، ربما في أواخر المرحلة الابتدائية، وربما بالصدفة، لكني صرت مدمنا للراديو والاستماع إلى الإذاعة وبرامجها، وخاصة مع سهر الليالي منذ الإعدادية، وحتى تخرجي في الجامعة تقريباً.
عرفت أسماء بقيمة طه حسين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ومحمد مندور وبهاء طاهر ولويس عوض وثروت عكاشة وخالد محمد خالد وزكي نجيب محمود وسيد درويش وطاهر أبو فاشا، وعشرات غيرهم، أول ما عرفت من الراديو (تحديدًا من خلال برنامجي «شاهد على العصر»، و«زيارة لمكتبة فلان»).
ليالي كاملة ولسنوات طويلة امتدا منذ منتصف الليل وحتى الفجر، أقضيها بصحبة “الراديو” لا يؤنسني غيره، ولا يمتعني غيره، أتوحد بكامل حواسي مع برامجه التي صرت أحفظها عن ظهر قلب، وبرامجه التي حولت مجرى حياتي كله، وعمقت في نفسي النزوع إلى الخيال والتأمل والبحث بلا نهاية ولا قرار عن كل ما أسمع وأتخيل… عن “الأغنية”، و”المثل الشعبي”، و”السيرة الشعبية”، عن الكِتاب و”الرواية والقصة القصيرة والمسرحية”، عن الأدب والنقد وحتى السينما! عن الأوبريت واللوحة الغنائية والمسلسل الإذاعي، عن أعذب القراءات للقرآن الكريم بصوت ملوك التلاوة، أصحاب الحناجر الذهبية.

– 4 –
حينما أعاود التفكير في مصادر التكوين الثقافي والمؤثرات التي شكلت وجداني ووجهت تفكيري، ولعبت دوراً حاسماً في رسم الملامح العامة لما يمكن تسميته بمسيرة الحياة، والمشروع المهني والتكوين الفكري؛ ستكون الإذاعة المصرية التي تأسست عام 1934 وبرنامجها العام بالأخص، وموادها التي ليس لها مثيل أو نظير أحد أبرز العوامل وأهم العناصر التي ساهمت في تشكيل هذه الرحلة، وتحديد معالم ومحطات لها.
نموذج واحد من هذه النماذج، وهو برنامج «كتاب عربي علم العالم» كان هو النافذة الأولى التي فتحت بصري وبصيرتي على روائع تراثنا العربي والإسلامي (ومعه أيضًا برنامج «قطوف الأدب من كلام العرب»، الذي كنت أدون بعض الأشعار والمأثورات التي تتردد في البرنامج في كراسة خاصة أحفظها عن ظهر قلب). لكنه لم يكن منفردًا ووحيدا في هذه الدائرة.
أتذكر الآن، مثلا، البرنامج الذي أسرني وأشعل خيالي وجعلني لا أدخر جهدا ولا طاقة ولا مالا في سبيل الحصول على واحدة من موسوعاتنا التراثية الباهرة. أقصد كتاب (الأغاني) لأبي الفرج الأصفهاني. بالتأكيد لم أكن أعرفه ولا قرأت عنه وأنا في العاشرة من عمري! لكني كنت استمعت إلى حلقات هذا البرنامج العظيم (من كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني) الذي كان يعده للإذاعة ويخرجه فتح الله الصفتي، بصوت الفنان عبد الفتاح البارودي الذي كان مجرد الاستماع إليه كفيلاً بأن أترك كل ما في يدي، وأغمض عيني، وأستمع إلى روايته الفصيحة المنغمة الموقعة لحكايات وقصص الشعراء العرب، من عمر بن أبي ربيعة إلى قيس الرقيات.. ومن ديك الجن إلى أبي نواس.. ومن الضحَّاك إلى شعراء الحب العذري… إلخ.
أتصور أنني لم أكن لأُغرم بكتاب «الأغاني» (اقتنيتُ منه طبعات متعددة فيما بعد)، ولا ما كُتب عنه ولا ما يتصل به من كتبٍ ودراسات ومقالات (تشكِّل تقريبًا جناحًا ضخمًا في مكتبتي الشخصية) إلا بفضل الإذاعة، وبرامج الإذاعة، وبفضل هذا البرنامج تحديداً!
ولم يكن الحس التراثي فقط هو الذي أيقظته الإذاعةُ في وجداني وذهني، إنما أيضاً الانتباه والالتفات لكل ما يتصل بأعلام أدبنا وفكرنا المعاصر؛ ومن ينسى برنامج الإذاعية الراحلة نادية صالح «زيارة لمكتبة فلان» أو برنامج «شاهد على العصر» الذي استمعتُ فيه لعمالقة الفكر والأدب والثقافة في عالمنا العربي (من ضيوفه الكبار آنذاك: زكي نجيب محمود، لويس عوض، توفيق الحكيم، حسين فوزي، نجيب محفوظ، ثروت عكاشة، أسامة أنور عكاشة، مصطفى محمود.. إلخ)
اقرأ أيضًا: الراديو.. رحلة قرن وأكثر
– 5 –
حينما حصل نجيب محفوظ على جائزة نوبل في الآداب عام 1988 كنت في العاشرة من عمري؛ لم أكن قرأتُ له شيئا بعد، فقط شاهدت بعض الأفلام المأخوذة عن روايات له، لكني أذكر جيدًا أنني كوَّنتُ تصورا مستوعباً ومتماسكاً عن نجيب محفوظ وأدبه، وتصوراته الإنسانية، والفكرية والثقافية، من خلال ما استمعتُ له في برامج الإذاعة التي تسابقتْ لبثِّ حلقات عنه عقب فوزه أو تسجيل حلقات أخرى تواكب الحدث الكبير، هذا فضلاً على إعادة بث الدراما الإذاعية المأخوذة عن أعماله (رواياته وقصصه).
وتوالت الاكتشافات الممتعة المذهلة: اكتشفت أن «أولاد حارتنا» قدمت كمسلسل إذاعي، ولم أكن قرأتها بعد ولم تكن متاحة في مصر آنذاك بأي شكل! ولا أعلم على وجه اليقين والدقة متى اكتشفت أيضا مسلسل «الحرافيش» في صورته الإذاعية… كل ما فيه مثير للخيال والوجدان ويجذبك منذ اللحظة الأولى لإتمام الاستماع؛ أذكر أنني تابعت على حلقات دراما الحكايتين الأوليين من الملحمة؛ وهما “حكاية عاشور الناجي”، و”حكاية شمس الدين الناجي”.. وهلم جرا!
أما المادة الإذاعية التي سجلت مع نجيب محفوظ وحدَها فمكتبةٌ كبرى بغير شك، وذخيرة معرفية وثقافية دائما ما أشير إليها وأسميها بـ “الحواريات النادرة والأحاديث المجهولة”؛ وللأسف لم تحظَ هذه الحواريات الإذاعية لأديب نوبل الكبير (ويمكن أن نضيف إليها أيضًا أحاديثه المرئية) باهتمام كثير من الباحثين، قدر الجوانب المختلفة والمتعددة من إبداع محفوظ، ولهذا أخذت أدعو منذ سنوات طويلة إلى الاهتمام بها والتركيز عليها والنظر فيها؛ وهو ما بدأ يثمر على استحياء وخفر في السنوات الأخيرة؛ وإن لم يصل بعد إلى الاهتمام المنشود.
هذه الحواريات النادرة أجراها معه إذاعيون كبار في مراحل مختلفة من عمره، وإن كان أقدمها التي وصلت إلينا كانت بعد أن تجاوز السبعين من عمره.
ولا أريد أن أترك العنان للذكريات والاستدعاءات والاستطرادات؛ فهي في النهاية ستشكل القوام الأكبر من مادة كتاب أسجل فيه الذي عشته وعايشته، وكبرت في ظله، طوال ما يزيد على الأربعين سنة! لكني على يقين بأنني سأظل مديناً عمري كله للإذاعة وجمال الإذاعة، وواحات الإذاعة، وكنوزها التي لا تنضب أبداً..