الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفةشؤون عربية
في المغرب العربي.. الحضارة الأمازيغية تتحدى الزمن والسلطة
أمازيغ تونس يحتفلون برأس السنة الأمازيغية رغم عدم الاعتراف الرسمي.. وأمازيغ الجزائر والمغرب يقطعون شوطاً في المطالبة بحقوقهم

تونس- فاطمة بدري
يحتفل أمازيغ كلٍّ من الجزائر وتونس والمغرب وليبيا، وأجزاء من مصر، برأس السنة الأمازيغية الجديدة والذي يطلقون عليه اسم “ينّاير” (Yennayer)، ابتداء من الـ12 من يناير من كل سنة، وفي المغرب يوم الـ13 من نفس الشهر. ويوافق عام 2022 عام 2972 بالتقويم الأمازيغي.
وبدأ الاحتفال برأس السنة الأمازيغية الجديدة يكتسي أهمية كبيرة في السنوات الأخيرة في هذه الدول، خاصة الجزائر والمغرب وتونس؛ باعتباره وسيلة لإحياء وتجذير هوية ثقافية ضاربة في القدم. ويعرف التقويم الأمازيغي أيضاً بـ”التقويم الفلاحي” نظراً للرابط الوثيق بين الأمازيغ في شمال إفريقيا والأرض، ولهذا يعد هذا اليوم بمثابة الاحتفال بالطبيعة والزراعة وثروات الأرض.
وتختلف الروايات التاريخية حول أصل هذا التقويم، لكن الأكثر انتشاراً هو ذكرى انتصار الملك الأمازيغي “شاشناق” على الفرعون المصري “رمسيس الثاني” في مصر، في المعركة التي وقعت على ضفاف النيل ﺳﻨﺔ 950 ﻗﺒﻞ ﺍﻟﻤﻴﻼﺩ. إذ يرى الأمازيغ أن هذا التاريخ يرمز إلى القوة والسلطة.
اقرأ أيضًا: تمثال للملك “شيشناق” يثير الجدل مع احتفالات السنة الأمازيغية!
وحسب بعض الباحثين، فإن شهر يناير كان يتكون حسب التقاليد الأمازيغية فقط من 30 يوماً، ولكن تقول الأسطورة إن عجوزاً أرادت تحدي غضب فصل الشتاء فأخذت ماعزها للرعي خلال اليوم الأخير من يناير، حينها شعر هذا الشهر بالإهانة، واعتبر أن هذه المرأة تتحداه فاقترض يوماً إضافيا من فبراير كان في غاية البرودة لينتقم من تلك العجوز. وهذه الأسطورة تؤكد بدورها علاقة الأمازيغ بالطبيعة.
ويوافق “يناير” بداية ما يعرف باسم “الليالي السود” التي تدوم 20 يوماً، وهي من الفترات التي تسجل انخفاضاً قياسيا في درجات الحرارة.
والأمازيغ هم السكان الأصليون للمغرب العربي، وعموم شمال إفريقيا، ولهذا صمدت ثقافتهم رغم مرور عدد من الحضارات، ورغم الفتوحات والتعريب “القسري”، كما يصفونه. وإلى اليوم ما زالت الهوية الأمازيغية حاضرة بقوة في دول المغرب العربي، على أكثر من صعيد، سواء الأكل أو اللباس واللغة أيضاً، فرغم غلبة اللغة العربية وتحول الناطقين باللغة الأمازيغية إلى أقلية في هذه الدول، فإن اللهجات فيها لا تخلو من عدة ألفاظ إما أمازيغية أو مشتقة منها.
اقرأ أيضاً: ترسيم اللغة “الأمازيغية” في الدستور الجديد يثير جدلاً في الجزائر
ويُعتبر الأمازيغ أول من أدخل الأوشام، يسمى باللغة الأمازيغية “تِكاز”، التي ترسم على الأجساد إلى دول المغرب العربي، إذ يعد الوشم أحد أبرز مميزات النساء الأمازيغيات قديماً، ويرمز إلى الأنوثة والخصب. ومن أبرز الرسوم المنتشرة عند غالبية الأمازيغيات علامة زائد (+)، ترسم على الخد، وتعني حرف تاء في الحروف الأمازيغية، وهو اختصار لكلمة “تامطوت”، التي تعني الأنثى الجميلة.

والوشم الأمازيغي هو تقليد وطقس مرتبط بالنظام القيمي والثقافي مستوحى من حياة الأمازيغيين، وله عدة دلالات منها الديني، والمحصورة أساساً في إبعاد الأرواح الشريرة والحسد، وجلب الحظ السعيد، ودلالات طبية أيضاً. ومن بين أكثر الرموز استعمالاً النحلة، الحلزون، الثعبان، سنابل القمح، الشمس، العقرب، النجوم، غصن الزيتون، ورموز أخرى تحمل معاني كثيرة. ولهذا يعد الوشم الأمازيغي مرجعاً ثقافياً قيماً يروي بوضوح خصائص الحضارة الأمازيغية لاسيما نظامها الاجتماعي.
الأمازيغية في تونس
رغم أن عدد الناطقين باللغة الأمازيغية في تونس يعد قليلاً مقارنة بالجزائر والمغرب، ولكن أثر الحضارة الأمازيغية كبير جدا في هذا البلد، ومنتشرة في كل مكان، وفي كل مظاهر الحياة فيه. فعلى مستوى الطعام ما زال “الكسكسي”، هو الطبق المميز في كامل البلاد إلى جانب أكلات أخرى كخبز الطابونة والمحمصة وغيرها، الملابس التقليدية التي تعد ضرورية للأفراح والمناسبات السعيدة ما زالت تحتفظ بانتمائها الأمازيغي، كما يتجه عدد كبير من المصممين الشباب لدمج الموروث الأمازيغي في الأزياء الحديثة، وتلقى هذه الأفكار رواجاً كبيراً.
اقرأ أيضًا: رفع الراية الأمازيغية وتصاعد خطاب الكراهية.. هل تعاني الجزائر أزمة هوية؟
الوشم الأمازيغي ما زال هو الآخر يزين ذقون وخدود وجبين الجدات وانتقلت الرموز إلى الحفيدات. كما ظلت الرموز المنحوتة على المساجد، وقبابها، وأبواب بعض الأحياء القديمة، في أغلب مدن البلاد، صامدة لتشهد على مرور هذه الحضارة وتأثيرها القوي، والأهم هو وجود عدة قرى أمازيغية بكامل معالمها وخاصة بيوتها وصمودها حتى اليوم غير عابئة بثقل الزمن.
وهذا ما تؤكده الناشطة والحقوقية الأمازيغية الكاهنة الطالبي التي أوضحت في حديثها لـ”كيوبوست” أن الثقافة الأمازيغية منتشرة في كل مظاهر حياة التونسيين، قائلة “رغم فقدان التونسيين للغة الأمازيغية فإن الثقافة الأمازيغية حاضرة، وقد توارثناها كتونسيين عن أجدادنا وهي حاضرة في كل مناسباتنا سواء في أفراحنا في لباسنا التقليدي ولهجتنا الممزوجة بالمفردات الأمازيغية، وخاصة في مطبخنا الذي تعد معظم أطباقه أمازيغية كالمطبقة الفرفوشة وطبعا الكسكسي وغيرها. ونجد الثقافة الأمازيغية واضحة أكثر في المدن الداخلية لا سيما مدن الجنوب التي تحافظ حتى على التفاصيل الأمازيغية الصغيرة. وتراثنا المادي واللا مادي ظاهر بقوة في تونس من شمالها إلى أقصى جنوبها لكن التعريب القسري هو ما أخفى حضورها بشكل أكبر والذي دعمته سياسة الدول منذ نشأتها بعدم فرضها تدريس الأمازيغية في المدارس”.

ولا توجد إحصائيات رسمية في تونس حول عدد الأمازيغ في البلاد، ولكن بعض المصادر غير الرسمية تقول إن عددهم يناهز 500 ألف؛ أي خمسة بالمئة من العدد الإجمالي لسكان البلاد. ولا تمثيلية سياسية لأمازيغ تونس، كما لم تتجاوب الدولة منذ عقود مع مطالبهم بإدراج لغتهم في المناهج الدراسية. وظلت الحكومات المتعاقبة تمنع تداول اللغة الأمازيغية تحت ذريعة لتكريس “هوية عرقية متجانسة” للشعب التونسي، وحتى بعد ثورة 2011 التي مكنت الأمازيغ في تونس من الحديث بصوت عال عن هويتهم ظلت السلطة وفية لتعاطيها معهم حتى أن دستور 2014 لم يتطرق، ولو بالإشارة، إلى الأمازيغ مقابل تأكيده على البعد العربي للبلاد.
وتقول الكاهنة تعليقا على مسألة أعداد الأمازيغ في تونس، والحديث عن تراجعهم بقولها “لا إحصائيات رسمية لعدد الناطقين باللغة الأمازيغية في تونس لأن المعهد الوطني الاحصاء بصفته هيكل رسمي مكلف بهذه المسائل لم يتجه مطلقا لإحصاء عدد الناطقين بهذه اللغة في البلاد، وكل ما يروج من أرقام غير دقيقة وآخر رقم رسمي يعود لسنة 1903 وقدر به حينها المستعمر الفرنسي أن عددهم يتجاوز مليوناً ومائتين ناطق. وأود الإشارة هنا إلى أن تونس هي أكثر دول شمال إفريقيا تعرضاً للتعريب القسري في خضم الفتوحات والحروب التي مرت بها، وخاصة الغزو والمد العربي”.

وأضافت الطالبي “لا يمكن الحديث عن تراجع أعداد الأمازيغ في تونس؛ لأن الأمازيغية حضارة وعرق ولا يمكن الحديث عن تراجع عرق ما في بلده الأصلي حتى أن البحوث العلمية تؤكد أن 90 بالمئة من التونسيين هم من عرق أمازيغي صافٍ، ولكن التراجع حدث في صفوف الناطقين باللغة الأمازيغية، في ظل حملة التعريب التي ضربت البلاد”.
وفي ظل هذا التعاطي الرسمي التونسي مع الأمازيغيين، فإن احتفالهم برأس السنة الأمازيغية يبقى محدوداً نظرا لعدم تمكينهم من عطلة رسمية في هذا اليوم، ولكن مع الحفاظ على التقاليد الأمازيغية خاصة على مستوى الأكل والاحتفال. ويقوم أمازيغ تونس بتحضير أطباق تقليدية كالعصيدة والكسكسي و”تيكربابين”، وتجتمع العائلة أو القبيلة للاحتفال ثم الدعاء لتكون السنة الجديدة وافرة بالأمطار والمحاصيل الزراعية. وفي الأثناء تواصل الجمعيات الأمازيغية التي ظهرت جلها بعد ثورة 2011 النشاط من أجل نيل حقوق أكبر، كما تؤكد ذلك الناشطة الحقوقية الأمازيغية الكاهنة الطالبي.
اقرأ أيضًا: لماذا يعادي الإخوان المسلمون ثقافة وهوية الأمازيغ؟
وتقول الكاهنة “كجمعيات نسعى لاستعادة الموروث المادي واللا مادي للشعب الأصلي الأمازيغي كما نحاول افتكاك الحقوق التي افتكت قسراً، وخاصة مسألة التعريب التي حدثت خاصة مع الدولة الأموية. أيضاً هناك صراع نخوضه مع الدولة التونسية؛ قديماً وحديثاً، من أجل حقوقنا إذ لا تجاوب ولا دعم لكل المبادرات والأفكار المتعلقة بالأمازيغ، كما أنها لم تمنح الأمازيغ حقهم في ثقافتهم وتقاليدهم ولا حقهم في النشاط، وحتى الآن استطعنا افتكاك الحق في تسمية أبنائنا بأسماء أمازيغية دون الخوف من الرفض القانوني، وما زلنا نسعى لافتكاك مطالب أخرى على غرار ترسيم اللغة الأمازيغية بالمدارس، وأن يكون رأس السنة الأمازيغية يوماً رسمياً شأنه شأن رأس السنة الميلادية والهجرية”.
أمازيغ الجزائر
تقول بعض المصادر إن عدد الأمازيغ في الجزائر يتراوح بين 6 و8 ملايين، ويشكلون ما بين 30 و40 بالمئة من مجموع السكان الجزائريين. ويتمركز الأمازيغ في هذا البلد أساساً في منطقة القبائل الكبرى الممتدة على مناطق البويرة وتيزي وزو وبجاية، وفي ومحافظات سطيف وجيجل إلى جانب تمركز بعضهم في منطقة تيبازة غرب العاصمة الجزائرية.

وخاض أمازيغ الجزائر نضالاً كبيراً للحصول على حقوقهم، وما زالوا يتطلعون لنيل المزيد، ويرغب بعضهم في الانفصال عن البلاد، وهو ما لن تؤيده السلطات الجزائرية، مهما كلف الأمر. وبعد حراك دام سنواتٍ قدموا خلاله حتى الأرواح اعترفت الجزائر بالأمازيغية كلغة رسمية إلى جانب العربية سنة 2016، حين تبنى البرلمان الجزائري بغالبية ساحقة مراجعة دستورية تنصُّ على اعتبار الأمازيغية لغةً وطنية ورسمية في البلاد، فيما تشكِّل اللغةُ العربية اللغةَ الوطنية والرسمية للدولة.
وهذه الخطوة سبقتها خطواتٌ أخرى ففي العام 1996، تم الاعتراف بالأمازيغية في الدستور الجديد بوصفها مكونا للهوية الوطنية إلى جانب العروبة والإسلام، وفي العام 1995 أدخلت اللغة الأمازيغية في المناهج الدراسية في بعض مناطق البلاد، حيث الأمازيغية هي اللغة الأم. في العام 2002، وبعد أعمال شغب دامية في منطقة القبائل، اعترفت الدولة بالأمازيغية كـ”لغة وطنية” ثانية، بقرار من الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة.
وفي العام 2009، أُطلقت قناة تلفزيونية حكومية تبثُّ برامج بالأمازيغية بكل فروعها. وفي ديسمبر 2017 أقرت الجزائر رأس السنة الأمازيغية عطلة رسمية مدفوعة الأجر لتكون بذلك الدولة الوحيدة التي تتخذ هذا القرار في منطقة شمال إفريقيا.
اقرأ أيضًا: لماذا لا تقر الحكومة المغربية رأس السنة الأمازيغي عيدًا وطنيًا؟
ويحتفل أمازيغ الجزائر بالرقص والغناء وذبح “الديوك البلدية” في البيوت (ديك مُربَّى في البيوت)، وإقامة “الوزيعة” في الساحات، والتي تعني أن يقوم أعيان المدينة بجمع المال من السكان وشراء رؤوس الماشية وتوزيع لحمها بالتساوي بين الجميع، وإعادة طلي البيوت والشروع في حراثة الأرض، في تجسيد لعلاقة الأمازيغ بالأرض والطبيعة والزراعة.
أمازيغ المغرب
على خلافِ كل الأمازيغيين، يحتفل أمازيغ المغرب بالسنة الأمازيغية الجديدة في الـ13 من يناير من كل عام، وسط نداءات لا تتوقف للسلط الرسمية في البلاد لجعل هذا اليوم عطلة رسمية. ويترقب النشطاء الأمازيغيين في المغرب أن تلتزم الحكومة الجديدة بقيادة حزب “التجمع الوطني للأحرار” بتعهداتها تجاه الأمازيغ التي أطلقها الحزب ورئيسه عزيز أخنوش (رئيس الحكومة) في حملته الانتخابية، فضلاً على تضمن البرنامج الحكومي التزاماً بتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية.
ولا يبدو أن أخنوش سيختلف عن سابقيه في التعاطي مع مسألة بترسيم رأس السنة الأمازيغية عيداً وطنيا، في ظل عدم إقراره للأمر حتى تاريخ احتفال الأمازيغ بعيدهم، ما يرجح أن هذا الملف موكول للملك حصراً، ولن تستطيع الحكومة البت فيه دون قرار منه.
وتعالت الأصوات المطالبة باعتبار رأس السنة الأمازيغية عطلة رسمية في البلاد قبل أيام من الاحتفال بهذا اليوم، كان من بينها الجمعية المغربية لحقوق الإنسان التي جددت دعواتها عبر موقعها الإلكتروني لاتخاذ هذا القرار.

وقالت الجمعيةُ في رسالةٍ بعثتها إلى رئيس الحكومة عزيز أخنوش إن “الدعوة لإقرار رأس السنة الأمازيغية كعطلة رسمية، على غرار التقويمين الميلادي والهجري، كمبادرة رمزية للاعتراف بالهوية الثقافية الأمازيغية للشعب المغربي”. وكان البرلمان المغربي قد أقرَّ، في 2019، قانوناً يفعل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية، بعد ثماني سنوات على اعتمادها لغة رسمية في المملكة إلى جانب العربية في الدستور.
كما أقرَّ القانون كتابة اللغة الأمازيغية بحرفِ تيفيناغ، وجاء هذا الاعتراف سنة 2011 بمناسبة تعديل الدستور في سياق احتجاجات “حركة 20 فبراير”. ولا توجد إحصائيات دقيقة لعدد الناطقين بالأمازيغية في المغرب، لكن بعض الأرقام غير الرسمية تقول إنهم يشكلون نحو نصف السكان الذين يزيد عددهم على 36 مليون نسمة، حسب إحصائيات 2020.