الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفة
فيلم Official Competition كيف تسخر من السينما بالسينما؟

كيوبوست- أندرو محسن
ضمن المسابقة الرسمية Venezia 78 لمهرجان فينيسيا السينمائي الدولي، عرض فيلم “Official Competition” (المسابقة الرسمية) أحدث أفلام المخرجين الأرجنتينيين ماريانو كون وجاستون دوربات، ليكون أحد الأفلام التي حصلت على الكثير من الآراء الإيجابية أثناء المهرجان.
يحتوي الفيلم على الكثير من عوامل الجذب، فهو من بطولة النجمين أنطونيو بانديراس وبينالوبي كروز، بالإضافة لأنه ينتمي إلى نوع الكوميديا، لكنه في الحقيقة قدم أكثر بكثير مما وعد به. التمثيل المميز موجود، والكوميديا حاضرة بقوة، لكن ما هو موضوع الكوميديا؟ مم يسخر “المسابقة الرسمية”؟
إنه يسخر من صناعة السينما.
أو ربما لا.
هيا نصنع “فيلم مهرجانات”
تدور الأحداث عن رجل أعمال كبير يقرر أن يُنتج فيلمًا مهمًا يحصل على الجوائز، يُخلّد من خلاله اسمه، هكذا يستعين بالمخرجة لولا (بينالوبي كروز) غريبة الأطوار المشهود لها بالنجاح، وتختار هي ممثلين مميزين لدوري البطولة فيلكس (أنطونيو باندرياس) وإيفان (أوسكار مارتينيز).
للتفرقة بين الفيلم الذي نتحدث عنه “المسابقة الرسمية”، والفيلم الذي نشاهد كواليسه داخل الأحداث، سنشير للأخير بالفيلم الداخلي.
اقرأ أيضًا: مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي 78.. نتفليكس تنتصر مرة أخرى
في الحقيقة المفارقة الكوميدية تبدأ من المشهد الأول، فرجل الأعمال الذي يرغب في صناعة الفيلم الداخلي يتعامل مع الأمر وكأن هناك تركيبة ذات معطيات محددة إن نفذها سيصنع عملًا مهمًا وخالدًا. تصبح هذه المفارقة مضحكة بالفعل عندما ننظر كمشاهدين لفيلم “المسابقة الرسمية” المعروض بجانب عشرين فيلمًا آخر في مسابقة أعرق مهرجانات العالم. على الأرجح يدور في ذهن صناع هذه الأفلام كلها أنهم يصنعون أفضل فيلم ممكن، أو أقرب فيلم لتصوراتهم عن الفيلم الجيد، وبالتأكيد دار في ذهن بعضهم أن فيلمهم هذا تحديدًا هو من سيحصد أرفع الجوائز، لكننا نعرف دائمًا أن الأمر ليس بهذه السهولة، وأن الفيلم الجيد ليس وصفة ثابتة أو مضمونة.
في الحقيقة تبدو نظرة رجل الأعمال للفيلم الذي يريد صناعته أشبه بنظرة بعض الجمهور للأفلام الفنية (Art house) على أنها “أفلام مهرجانات”، أفلام ليست للشريحة الأكبر من الجمهور، ولكنها لجمهور محدود العدد يذهب للمهرجانات ولا يمكن مشاهدتها أو الاستمتاع بها إلا لجمهور المهرجانات.

في المقابل تبدو المخرجة لولا لامبالية بفكرة الجوائز أو بطموح المنتج المجرد من الفن، فهي تريد أن تصنع الفيلم الذي تريده طبقًا لرؤيتها، وربما هذا هو ما فكر فيه مخرجا الفيلم بالفعل.
شوهد من قبل
تستمر المفارقة في المشاهد التالية، عندما تبدأ لولا في الإعداد للفيلم الداخلي. تختار أن تقدم معالجة لرواية، حصل مؤلفها على جائزة نوبل، لكننا عندما نستمع إلى الخطوط العريضة لهذه الرواية سنجد أحداثها تقليدية إلى حد مضحك؛ علاقة بين أخين متناقضين تمامًا، يتسبب أحدهما بحادث لأبيهما وأمهما مما ينشأ عنه توتر شديد في علاقة الأخين.
اقرأ أيضًا: وثائقي “نقطة التحوُّل: هجمات 11 سبتمبر والحرب على الإرهاب”
كلما تقدمنا في أحداث الفيلم وعرفنا المزيد عن تفاصيل الفيلم الداخلي، سنشعر أنها أشبه بما نشاهده في الكثير من الأفلام وربما المسلسلات الاستهلاكية التي يمتلئ بها التلفزيون والمنصات، حتى إننا سنتساءل عما أثار اهتمام لولا بهذه الرواية، وعما أثار اهتمام لجنة نوبل في هذا الروائي.
هنا تكمن مفارقة جديدة شديدة الذكاء، فحبكات الأفلام قد تتشابه، ويبقى ما يميز فيلمًا عن الآخر في النهاية هو كيفية تقديم هذه الحبكة بأسلوب جديد ومختلف.

ينطبق هذا على “المسابقة الرسمية” نفسه، القصة كما ذكرناها شديدة البساطة، يمكن أن نتخيلها تصنع فيلمًا مسليًا لكنه قابل للنسيان فورًا بعد مشاهدته، في حين أن ما قدمه مخرجا الفيلم هو أن أعادا توظيف كل العناصر لتعطي معنى مختلف، بما في ذلك الموسيقى في أحد المشاهد، التي تتلاعب هي أيضًا بالتلقي التقليدي للمشاهد لتقدم مفارقة مختلفة.
هكذا نجد أننا نشاهد داخل الأحداث صراعًا بين ممثلَين، على طرفي النقيض، أحدهما أكاديمي ملتزم ومخلص للفن، والثاني نجم لاهٍ مشهور يعشق النساء، وهو ما يسمح بالتأكيد بصناعة الكثير من المفارقات الكوميدية. لكننا نجد أن هناك طبقة أكثر عمقًا يقدمها الفيلم لشخصياته، طبقة تخص تعامل كل منهما مع الفن بشكل عام، نظرتهما للالتزام بالسيناريو ومواعيد التصوير وتقمص الأدوار، وقيمة الجوائز بالنسبة لهما.
تمتد هذه المعالجة المختلفة للقصة، إلى المعالجة البصرية أيضًا للفيلم ككل.
اقرأ أيضًا: The misfits””.. عن جزيرستان والإخوان المسلمين واليد القذرة لأمريكا
مسرح داخل السينما
منذ المشاهد الأولى، ندرك بسهولة الأسلوب البصري الذي يعتمده المخرجان في فيلمهما. إذ يعتمدان على تصوير الممثلين في مساحات شاسعة مع استخدام اللقطات الواسعة، دون وجود الكثير من القطعات، كأننا في مسرح.
هذا الأسلوب يؤكد مرة أخرى على التناول المختلف في هذا الفيلم، إذ أننا من الممكن أن نتصور لقطات متوسطة ومقربة تؤدي الغرض في الكثير من المشاهد، وستكون أسهل في التنفيذ أيضًا، بينما في اللقطات الواسعة يجب أن يحافظ كل الممثلين داخل الكادر على حالة المشهد طوال الوقت.

لكن الأمر ليس مجرد اختيار لأجل الشكل فقط، بل هو جزء أيضًا من تجربة الاختلاف، ويمنح المُشاهد نظرة أوسع لكل ما يحدث.
الاتساع في ديكورات الفيلم يمنحنا أيضًا إحساسًا بأننا نشاهد بالفعل بروفة لمسرحية ستجري أمامنا على خشبة المسرح وليس بروفة لفيلم سيُصور في ديكورات أو أماكن خارجية. مع اختيار ألوان داكنة بعض الشيء في الكثير من المشاهد، عكس المتوقع في فيلم كوميدي، لكنه الاستمرار في كسر كل ما هو تقليدي ومتوقع وسهل.
اقرأ أيضًا: Pieces of a Woman.. عن تراجيديا الفقد
على الجانب الآخر تأتي بعض المشاهد ببعض الأحداث الطريفة التي تقع في عمق الكادر، والتي لا ترتبط بشكل وثيق بالحدث الرئيسي الذي يقع في مقدمة الكادر، ويمكن للمشاهد أن يتابع هذا أو ذاك، مع ما في هذا التناول من سخرية مبطنة من هؤلاء الفنانين (داخل الفيلم) الذين يعيشون في عالمهم الضيق.
فيلم “المسابقة الرسمية” من الأفلام التي يسهل مشاهدتها مرات عديدة، للاستمتاع بالكثير من تفاصيله، لكن تبقى المتعة الأكبر في التفكير في الشعرة التي وضعها صناع الفيلم للسخرية من بعض صناع السينما وتبجيلهم وتقديم التحية لهم في الوقت ذاته، وبما إننا نشاهد فيلمًا يسخر مما يبدو ثوابت في عالم السينما، إذن فنحن أمام فيلم ذكي ويمكن اعتباره أحد أفضل مفاجآت 2021.