الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفةشؤون خليجيةفيديو غراف
فهد بن سعيد.. جملة متن الغناء الشعبي التي سافرت للهوامش (فيديو)

كيوبوست
عبدالله الزيد
حقبة الستينيات والسبعينيات الميلادية التي بزغ فيها نجم المُغَنِّي الشعبي السعودي فهد بن سعيد، المعروف بلقب “وحيد الجزيرة”، يمكن لأي متابع منصف تسميتها بالفترة الذهبية للأغنية الشعبية.. فمن الغرف الضيقة لبيوت أحياء “العجيلة” و”حوطة خالد” وسط الرياض القديمة، إلى بقية مدن وأحياء السعودية، نَمَت ما يمكن أن تكون بذرة لإقلاع حقبة الأغنية الشعبية في السعودية.
فقد تزامن انتشار أغاني ابن سعيد مع سطوع أسماء؛ مثل: سلامة العبد الله وسالم بن حويل وعبد الله السلوم وبشير شنان والطيار.
في أحد أحياء مدينة بريدة، وهي المدينة التي عشقها ابن سعيد وعاش مرتحلًا منها وإليها طيلة فترة حياته التي امتدت إلى نحو ثمانين عامًا، استضافني أحد سكانها، وبعد أن قدَّم إليَّ هذا الرجل “الخمسيني” -الذي بدأ الشيب يداعب ذقنه- فنجانًا من القهوة، أشرت له إلى صورة لابن سعيد يحضن آلة العود؛ كانت تتوسَّط حائط مجلسه المتواضع.. سألته: ما الذي يُمَيِّزه لهذه الدرجة؟! نظر إلى الصورة وبدأت يداه تتحدَّثان قبل لسانه، قائلاً: “أبو خالد قَلَب كل معادلات العزف على آلة العود؛ حتى أصبح بفضله شيخ الآلات، وصارت صورة العود تظهر بمخيلتنا مباشرةً عند نطق كلمة طرب!”. وأكمل حديثه: “ابن سعيد -رحمه الله- أعاد إلى الفلكور النجدي هيبته، وأصبح للسامري حظوة، وكان شاعرًا يعرف كيف ينتقي كلماته”.
في بداية مشواره الفني تنبَّأ له أستاذه عبد الله السلوم بتفرُّده؛ لدرجة أن تنازل له عن لقبه (وحيد الجزيرة)، ليُعرف به ابن سعيد بعد ذلك، وكان “أبو خالد” حقًّا وحيدًا متفردًا في جيله؛ فهو أول مَن عزف على الوتر السادس الإضافي (وتر الشرارة)، فتحوَّلت آلة العود بين يدَيه إلى جيتار وبزق، وهو أول مَن ابتكر المواويل وسط الأغنية؛ فلم تُسمع قبل ابن سعيد، وسُمعت بعده كثيرًا من فنانين أعادوا غناء تراث ابن سعيد إلى المتن بينما بقي “أبو خالد” على الهامش!
اقرأ أيضًا: لماذا تجعلنا الموسيقى نشعر بالسعادة؟
رحل ابن سعيد عن عالمنا عام 2004م، معدمًا فقيرًا يعمل في وظيفة حارس لإحدى مدارس مدينة بريدة براتب لا يتجاوز ألفَي ريال، تاركًا إرثًا فنيًّا ضخمًا وقلوبًا شغفها أبو خالد حبًّا؛ فودَّعه محبوه في جنازة مهيبة حضرها الآلاف.
نص الحلقة
(مقطع موسيقي)
ضمن آفات زماننا، مع الأسف، أن أغلب الموسيقيين ليسوا “سمِّيعة”.. ما استمعنا إليه الآن هو موسيقي سمِّيع بامتياز؛ لذلك تفوَّق في فكره الموسيقي وجاوز به المتداول المعروف عند أهل النغم في بلاده.
شاهد حلقة الأسبوع الماضي: قراء نجد والقصيم والتلاوة على نغمة “نجدي”.. (فيديو)
فهد بن سعيد، موسيقي نجدي لم يشأ أن يستوطن مكانًا غير بلدته الأصلية مدينة بريدة؛ كان يذهب إلى أي مكان لإحياء الحفلات، لكن يعود إلى المكان الذي يبدو قد عشقه كثيرًا.
اقرأ أيضًا: حفلة غنائية لمحمد عبده في “بريدة المُحَافِظة” تُسَجِّل ترندًا عالميًّا (الحلقة الأولى)
فهد بن سعيد ولد في عشرينيات القرن العشرين، ويبدو أنه سجَّل متأخرًا في العمر أول تسجيلاته على شركة “نجد فون”؛ وهي من الشركات التي كانت تصنع أسطواناتها عند “الماسترز فويس” في مومباي بالهند.
(مقطع موسيقي)
فهد بن سعيد ملحن ممتاز، مطرب ممتاز، عازف عود ممتاز.. في التلحين، كل هذا التراث الذي سمعه شرقًا وغربًا عربًا وعجمًا، من المناطق المحيطة بنجد بالذات؛ مثل صنعاء وساحل الخليج العربي وعمان والحجاز.. كان أكثر الأشياء التي تأثَّر بها؛ لكنه تأثَّر أيضًا بما كان يحدث في مصر وفي كل المناطق التي تستخدم النظام النغمي المقامي.
اقرأ أيضًا: مئة عام من التحولات جعلت “بريدة” مدينة استثنائية (الحلقة الثانية)
أضاف إلى إرث السامري مثلًا في نجد؛ أضاف إليه من هذه الأنغام الشيء الذي طعَّم به هذا النغم، لكن أبدًا لم يُفقده خصوصيته.. ما يعني ذكاءً في التلحين وفي التعامل مع النغم فطريًّا، لكن أنا متأكد أنه درس.
في الغناء يعرف كيف يسيطر على طبقات صوته بصورة جيدة جدًّا؛ سواء القوة والضعف في الصوت أو الارتفاع والانخفاض بالطبقة، وفي التعبير عن هذا الكلام الذي كان ينتقيه بمنتهى البراعة.
وفي العزف، سواء أكان يعزف على عود بخمسة أوتار أم ستة، كان دومًا يُغَيِّر دوزان العود؛ للتوافق مع طبقة صوته.. هذا ذكاء جدًّا في العزف. كان يملك أدواته تمامًا من ريشة إيقاعية أو نغمية، ويده الشمال تملك أوضاع الأصابع كافة، وهذا أيضًا يؤكد أنه دارس وليس مجرد فطري؛ ممكن يكون دارسًا بالسمع أكيد.. فالدراسة ليست بالضرورة شهادات ومعاهد. مثلًا كان عنده أستاذ اسمه عبد الله السلوم، وأخذ منه لقب “وحيد الجزيرة”؛ الذي يستحقه بامتياز.
فهد بن سعيد من الموسيقيين الذين، مع الأسف، أدوات التوصيل لم تعطهم حقَّهم؛ حتى إننا عرفنا أنه توفي سنة 2004 على وظيفة حارس في إحدى المدارس.
رحمة الله عليه، يكفي ما تركه من إرث جميل للأجيال، هذا الإرث يقول إن النغم فعلًا حضارة.
(مقطع موسيقي)