الواجهة الرئيسيةشؤون عربية

فن الزخرفة والعمارة في حضرموت (1-3)

(الحلقة الأولى) الامتداد الحضاري للزخارف والعمارة

كيوبوست- منير بن وبر

ارتبط الإنسان بفن الزخرفة والعمارة منذ القدم، وارتبط بالفن الزخرفي العديد من الأدوات والمواد والموضوعات التي جعلت من هذه الفنون أشبه بوثيقة تاريخية عن حياة الشعوب وعاداتها وتقاليدها ومعتقداتها. ولم يكن للزخرفة أغراض جمالية فحسب؛ فبالإضافة إلى الوظيفة النفعية للغرض المزخرف كان للزخرفة ذاتها أغراض أخرى اختلفت على مر العصور. أما فن العمارة، فيعلمنا التاريخ أنه ينشأ من قِبل المجتمع قبل المهندسين؛ لأنه يمثل استجابة لحاجات هذا المجتمع، وبالتالي فإن دراسة العمارة -إلى جانب الزخرفة- تعطينا فكرة عن أحوال الحضارات في المراحل المختلفة من التاريخ.

استخدم سكان حضرموت، جنوب شرق اليمن، فن الزخرفة لتزيين الكثير من الأشياء؛ مثل الحُلي، والأدوات المنزلية، والملابس، والعمارة، والأسلحة، والأثاث، وحتى أجسام الحيوانات وجسم الإنسان. كما استخدموا الكتابة، باعتبارها فناً، لتزيين المباني والتماثيل وتدوين الأحداث. وقد استخدم الحضارم مختلف المواد المتوافرة في منطقتهم، أو المناطق المجاورة، لصناعة تلك الأشياء والتفنن في تزيينها؛ مثل الطين والفضة والنحاس والبرونز والخشب وفروع النبات والثمار والقماش.

اقرأ أيضاً: اكتشاف أدوات حجرية عمرها 8000 عام في جنوب اليمن

مدلولات عميقة

في لقاء خاص لـ”كيوبوست” مع الكاتب ياسر قنيوي، صاحب كتاب (الزخارف التقليدية في حضرموت)، أشار ياسر إلى العديد من المدلولات للزخارف والنقوش في حضرموت خلال 30 قرناً من الزمان؛ ومنها المدلولات العقائدية، مثل رمز الهلال والنقطة الذي يشير إلى الإله “سين” الذي كان يُعبد في مملكة حضرموت القديمة، والمدلولات الاجتماعية؛ حيث تعبر نوعية الزخارف والنقوش ومستوى حرفيتها وألوانها عن طبقة اجتماعية معينة أو قبيلة أو منطقة ما.

غلاف كتاب “الزخارف التقليدية في حضرموت”

كما تستخدم الزخارف لأغراض التمييز أيضاً، فكما يشير ياسر قنيوي، تستخدم نساء قبائل معينة نوعاً محدداً من الوشوم لتمييزها عن نساء القبائل الأخرى، والأمر ذاته ينطبق على الحيوانات؛ حيث تُوسم الجِّمال -مثلاً- برموز معينة تشير إلى القبيلة أو الشخص الذي يمتلكها. كما استخدمت النقوش في مجموعة واسعة من الأشياء؛ من العمارة ومروراً بالنسيج والأدوات المنزلية وحتى الطعام.

وبالإضافة إلى الوظيفة النفعية للأدوات، والوظيفة الجمالية للزخارف والنقوش، فإن هذا الفن يُعد سجلاً تاريخياً مهماً لمعرفة الكثير عن شعوب العالم، وحتى علاقاتها ببعضها البعض؛ ففي تمثال جمل صغير -مثلاً- يعود إلى القرنَين الأول والثاني قبل الميلاد كُتب باللغة العربية الجنوبية القديمة إهداء إلى الإله وَدّ، ويُسمى أيضاً ودوم وودعب.

الكاتب ياسر قنيوي

اقرأ أيضاً: بريطانيا وعلاقتها بجنوب الجزيرة العربية (1-3)

عُثر على تمثال الجمل في حضرموت، حسب المتحف البريطاني في لندن؛ حيث يُعرض التمثال حالياً، ومن اللافت للنظر أن الإله وَدّ لم يكن يُعبد في حضرموت؛ بل هو إله وطني في مملكة معين المجاورة، في وادي الجوف، والذين جاورهم السبئيون من الجهة الجنوبية الشرقية؛ وهذا ما يجعل العلماء يعتقدون أن التمثال يخص تجاراً معينيين أو سبئيين، خصوصاً أن الجمال قد لعبت دوراً رئيسياً في النقل بين حضارات الجنوب العربي والتجارة طويلة المدى التي تربط شبه الجزيرة العربية بأجزاء أخرى من الشرق الأدنى.

تمثال جمل جُلب من حضرموت وعليه كتابة عربية جنوبية قديمة- المتحف البريطاني © The Trustees of the British Museum

ويشير الأستاذ الدكتور منير عبدالجليل العريقي، في كتابه (دراسات في الآثار اليمنية القديمة)، إلى أن الجمل من الموضوعات الفنية الرئيسة لدى حضارات جنوب الجزيرة العربية؛ بفضل مواكبته مراحل ازدهار تلك الحضارات، وقد ظهر في فن الرسوم الصخرية لعصور ما قبل التاريخ في رسوم تجسِّد عملية صيده، ثم ظهرت رسومات أخرى -في نهاية الألف الثاني قبل الميلاد- توثق استئناس الإنسان بالجمل من خلال رسومات تظهره ممسكاً بزمام الجمل، ثم ازداد الاهتمام بالجمال لمتطلبات دينية وعُبِّر عنه في شكل تماثيل ولوحات وشواهد القبور؛ حتى أصبح الجمل من أكثر الأشكال الحيوانية في الفن اليمني القديم.[1]

قلادة على شكل هلال وزخرفة ووردة في الوسط صُنعت خلال الفترة من 1900-1940- المتحف البريطاني The Trustees of the British Museum

الإنسان ابن بيئته

وبطبيعة الحال، يُعد مدى وفرة المواد في البيئة المحيطة عاملاً أساسياً في اختيار الأدوات التي يزخرفها الإنسان؛ ولأن الطين والخشب وفيران في بيئة حضرموت؛ فإنه يُلاحظ استخدامهما في الكثير من الأشياء، كالفخار والمنازل والأثاث والأسقف والأبواب والنوافذ. وجميع هذه الأدوات تم تزيينها بزخارف بديعة بنسب متفاوتة على مر العصور. وحسب الكاتب ياسر قنيوي، في لقائه مع “كيوبوست”، فقد تم استخراج الألوان أيضاً من النباتات وبعض أنواع الصخور المتوفرة في حضرموت.

اقرأ أيضاً: 120 عاماً من الصراع في اليمن (1-10)

تُعد الأبواب الخشبية والنوافذ من أكثر ما يشد الانتباه بنقوشها وزخارفها، أما داخل البيوت فتشدك زخارف الأسقف والأعمدة. يقول صاحب كتاب (فنون التشكيل الشعبي في اليمن) محمد عبده سبأ، إن الأبواب الخشبية قد استخدمت في أغلب مباني المدن الأثرية في اليمن؛ وهي تمتاز بنقوش وزخارف متعددة، وأشهرها أبواب حضرموت وصنعاء وزبيد.

غطاء وجه المرأة (برقع) في حضرموت- المتحف البريطاني

ويشير محمد سبأ إلى أن النقوش والزخارف مُستلهمة من الإرث الحضاري؛ حيث إنها تتشابه مع الوحدات الزخرفية للمواقع الأثرية للحضارات اليمنية القديمة، والمستوحاة من أشكال أوراق العنب والنباتات الأخرى المتوفرة. كما يؤكد محمد سبأ اهتمام الحرفيين والنجارين الفائق بزخرفة النوافذ والأبواب وغيرهما إلى حد التعقيد في بعض الفنون الزخرفية الدقيقة والمتشابكة، كتلك التي في شبام حضرموت وصنعاء وزبيد.[2]

اقرأ أيضاً: عدن.. مدينة التسامح والتعايش والسلام

يتمتع عدد من النباتات في حضارات جنوب الجزيرة العربية بقدسية خاصة؛ مثل شجرة اللبان والمر والقمح والعنب، وقد أثرت تلك القدسية على فنون العمارة القديمة؛ حيث كانت أوراق وثمار العنب -مثلاً- من الموضوعات الزخرفية المحببة، وقد زُخرفت بها واجهات المباني وأبدان وتيجان الأعمدة، والصفائح الحجرية والرخام.

مبخرة من الفخار مطلية بالذهب في بعض أجزائها.. جُلبت من حضرموت ويعتقد أنها صُنعت في الفترة من 1930- 1944- المتحف البريطاني The Trustees of the British Museum

وكما يقول الأستاذ الدكتور منير العريقي، تُعد الأعمدة ذات التيجان الهرمية التي عُثر عليها في القصر الملكي “شقر” في عاصمة مملكة حضرموت القديمة، شبوة، من أفضل الأمثلة على استخدام أوراق العنب والثمار كعنصر زخرفي. وقد قُرن ذلك الموضوع الزخرفي بما هو معروف في منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط في الفترة الهلينستية، خصوصاً بلاد الشام.[3] ويتجلى التشابه في أشكال غُصينات الكروم، وقد اعتبر ذلك من التأثيرات الحضارية بين المنطقتَين. ويُعتقد أن النحت في قصر “شقر” يعود إلى سنة 230 للميلاد عند إعادة بناء القصر.  

عمود وتاج العمود من قصر “شقر” بعاصمة مملكة حضرموت القديمة شبوة- المتحف الوطني في عدن

واليوم، لا تزال الكثير من البيوت والمساجد والنوافذ والأبواب والمنتجات الحرفية والملابس تُزين بالزخارف النباتية والهندسية والكتابية؛ وهي تشكل مكوناً جمالياً أخَّاذاً للكثير من المدن الحضرمية، مثل شبام والهجرين وتريم.. وغيرها، إلا أنها بحاجة إلى عناية خاصة تحميها من الاندثار، وكما يقول ياسر قنيوي، في لقائه مع “كيوبوست”؛ فإن ما دفعه إلى تأليف كتاب (الزخارف التقليدية في حضرموت)، هو ما يلاحظه من اختفاء تدريجي لهذا الفن والإرث الحضاري. ويرى قنيوي أن هناك حاجة مُلحَّة لتوثيق هذه الفنون والأعمال، وتدريسها للجيل الحالي والأجيال القادمة، وابتكار استخدامات ومنتجات عصرية جديدة تستلهم جمالها وزخارفها من التراث الحضرمي.

المراجع:

[1] دراسات في الآثار اليمنية القديمة، الأستاذ الدكتور منير عبدالجليل العريقي. ص 177- 178

[2] فنون التشكيل الشعبي في اليمن، محمد عبده سبأ. ص 136- 148.

[3] العريقي، مرجع سابق. ص 146- 148.

اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

منير بن وبر

باحث في العلاقات الدولية وشؤون اليمن والخليج

مقالات ذات صلة