الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفة

فنون الامتزاج الحضاري: المسيحيون واليهود والمسلمون في تأسيس الثقافة القشتالية

كيوبوست

يناقش الكتاب الحضارة القشتالية (أي الإسبانية) التي ظهرت في شبه الجزيرة الإيْبِيرِيّة (إسبانيا والبرتغال) في القرون الوسطى، ودور الثقافة العربية والعبرية واللاتينية في تشكيلها، كما يتضح في الفن والعمارة والشعر والنثر؛ فالثقافة القشتالية اغتنت بفعل التفاعل مع ثقافات مختلفة، ومن ثَمَّ يفنِّد الكتاب الادعاء بأن إسبانيا تتمتع بثقافة وهوية خاصة لم تتأثر بالمؤثرات والثقافات الخارجية. ويسعى الكتاب إلى إثبات ذلك من خلال مراجعة التاريخ الإسباني منذ عام 1100 قبل الميلاد، عندما كانت شبه الجزيرة الإيْبِيرِيّة تتكون من قبائل مختلفة تفاعلت مع الفينيقيين أولًا، ثم الإغريق، والقرطاجيين، والذين قاموا بتأسيس مستعمرات على السواحل الشرقية والجنوبية من شبه الجزيرة الإيْبِيرِيّة، ثم جاء الرومان وأطلقوا عليها اسم “هسبانيا” (إسبانيا والبرتغال).

عبد الرحمن الداخل

في عام 750 ميلاديًّا، ومع انهيار الخلافة الأموية، هرب أحد أبناء الخليفة الأموي إلى الأندلس، وهو عبدالرحمن الداخل، وتمكن من السيطرة على قرطبة وحكم الأندلس، والذي وإن انفصل سياسيًّا عن الخلافة العباسية، فإنه لم يعلن نفسه خليفةً. ويلاحظ أن القبائل المحلية، التي تقبَّلت سلطة الأمويين، تم دمجها سريعًا في النظام الاجتماعي الجديد الذي نشأ، كما تحوَّلت نسبة كبيرة منها من المسيحية إلى الإسلام؛ لتنشئ فئةً جديدةً عُرفت باسم “المولودين”. أما المسيحيون واليهود، فقد كان ينظر إليهم باعتبارهم أهل كتاب معترفًا بهم من قِبَل المسلمين، وتمت معاملتهم كأهل ذمة.

غلاف الكتاب

 

واستند عبدالرحمن الداخل إلى الفن لتأسيس هوية الدولة الجديدة، ولذلك بنى مسجدًا في مركز مدينة قرطبة، والذي كانت له ساحة واسعة تتسع لنحو 5 آلاف مصلٍّ. وعلى الرغم من أن عمارة المسجد كانت تقترب من المساجد التي بناها الأمويون في مصر ودمشق والعراق والقدس؛ فإنها تضمنت بعض العناصر من الثقافة الهسبانية القديمة، مثل شكل حدوة الحصان، وغيرها من الأشكال، غير أنه في الوقت نفسه التزم بتعاليم الإسلام، والتي كانت تقتضي عدم تصوير البشر أو الحيوانات في الفنون الدينية، وبذلك أنشأ فنًّا إسبانيًّا إسلاميًّا جديدًا.

وبنى أمويو الأندلس مملكة قوية ذات اقتصاد قوي وثقافة نابضة؛ فقد أدخل الأمويون إلى الأندلس طرقًا جديدة للزراعة، وقدَّموا أطعمةً غير معروفة للسكان المحليين، وأنشؤوا مصانع، كما صنعوا العطور والمنسوجات الحريرية والملابس والسيراميك والعاج والمجوهرات والمصنوعات المعدنية، وكلها هدفت في النهاية إلى تأكيد صورة البلاط الملكي التي تتسم بالهيبة والمكانة الرفيعة، كما أسهمت هذه المنتجات المستحدثة في إثراء اقتصاد الأندلس.

زرياب والموسيقى

وبالنسبة إلى الأمويين، فإن نشر ثقافة رفيعة كان جزءًا لا يتجزَّأ من أسلوب الحكم؛ فقد استقدم عبدالرحمن الثاني (822- 852 ميلاديًّا) الموسيقي والمطرب زرياب، إلى قرطبة، ومعه أبرز الفنون والثقافة التي كانت سائدة في البلاط الملكي في بغداد، وتحديدًا: الموسيقي الجديدة، وأحدث مستحضرات التجميل والأزياء، بالإضافة إلى الطبخ، غير أن أحد أعمق تأثيرات زرياب على الثقافة الأندلسية تمثَّل في إدخال الشعر العربي الكلاسيكي، والذي احتل مكانةً مركزيةً في الثقافة الأندلسية.

اقرأ أيضًا: زرياب.. والأساطير في الموسيقى مع مصطفى سعيد (فيديو)

وقد أحدثت القوة الثقافية لقرطبة تحولات عميقة في المجتمع الإسباني؛ إذ إنها أسهمت في انتشار “المستعربين”، ممثلين في غير المسلمين الذين سعوا إلى تقليد العرب، غير أنها في المقابل تسببت في نشأة “حركة شهداء قرطبة”؛ وهي حركة أحدثت اضطرابات اجتماعية في الأندلس، وقادها القساوسة ورجال الدين المسيحيون خوفًا على ضياع هويتهم الثقافية، لصالح الثقافة الأموية، وسعوا إلى استلهام تضحيات الشهداء الذين ماتوا وهم يقاومون اضطهاد الدولة الرومانية الوثنية للمسيحية. ولاقت هذه الحركة مقاومةً، حتى من جانب المسيحيين الذين اعتبروها تضر بعلاقاتهم مع المسلمين.

ومع تولِّي عبدالرحمن الثالث الحكم، شهدت الأندلس عصرها الذهبي؛ خصوصًا مع اتجاه الملك الجديد إلى إضفاء الطابع الهسباني على حكمه، وذلك في محاولة منه لتوحيد مختلف الطوائف المسلمة في الأندلس، التي تنتمي إلى أصول إثنية مختلفة. ففي بداية حكمه (912 ميلاديًّا)، واجه عبدالرحمن الثالث تمرد “المولودين”، أي العائلات الإسلامية الإسبانية؛ خصوصًا  “بني حفصون” و”بني قسي”، فبعد أن تمكَّن الملك من إخضاع ثورتهم ضده، قام بتمكين المسلمين الإسبان، وأضعف سلطة الطبقة الأرستقراطية العربية، كما بنى حرسه الخاص من المرتزقة من الفرنسيس (القبائل الجرمانية التي كانت تقطن فرنسا)، وقاطني ليون الإسبانية (وهي مملكة مسيحية كانت تقع في شمال شبه جزيرة إيبيريا، ولم تخضع لسيطرة المسلمين).

اقرأ أيضًا: رحلة في مقامات “المالوف” الأندلسي (فيديو)

كما قام عبدالرحمن الثالث باتخاذ خطوة جريئة، وهي الانفصال عن الخلافة العباسية من خلال إعلان نفسه خليفة المسلمين، كما قام بتبنِّي خطوات دبلوماسية نشطة؛ حيث سيطر على بعض مناطق شمال إفريقيا، لتأمين دولته من الخلافة الفاطمية في تونس، كما أنشأ علاقات دبلوماسية مع الإمبراطورية البيزنطية، وكذلك الملوك المسيحيين لإيطاليا وألمانيا. ومن ثَمَّ تمكَّن عبدالرحمن الثالث من تحقيق الاستقرار داخليًّا، فضلًا عن اكتساب مكانة دولية مرموقة آنذاك.

ويلاحظ أن استناد عبدالرحمن الثالث في حكمه إلى ثقافة إسبانية بدلًا من عربية ارتبط في جانب كبير منه بأصله؛ فقد كانت والدته “مزنة” (راين كلود) من إقليم الباسك، فقد درج ملوك الأمويين على الدخول في علاقات مصاهرة مع الممالك الشمالية المسيحية، ولذلك كان بعضهم يتحدث بلغتَين بدلًا من اللغة العربية وحدها.

مزجت المساجد في قرطبة بين الطابع الإسلامي والمحلي بالتصميم

وعندما تولَّى الحكم المستنصر بالله، تاسع أمراء الدولة الأموية في الأندلس، وثاني الخلفاء، قام ردًّا على الهجمات التي شنَّتها مملكتا ليون (الإسبانية) ونافار على حدود الأندلس، بإخضاع نافار وليون وكاستيل وبرشلونة؛ الأمر الذي دفع ملوك هذه الممالك إلى تملقه خوفًا من سطوته. ومن الملاحظ أن هذه الحروب لم تكن حروبًا دينية؛ نظرًا لأن العلاقة بين الملوك المسلمين والمسيحيين في شبه الجزيرة الإيبيرية كانت قوية، فعلى الرغم من أن العداء والتوتر غلبا عليها في بعض الفترات؛ فإنه كانت هناك علاقات تقارب وود على الجانب الآخر.

مملكة قشتالة

وبدأ التاريخ السياسي لقشتالة مع الملك سانشو الأكبر (1000 ميلاديًّا)، ملك نافار وابنه فرديناند، والذي أسَّس مملكة قشتالة، والذي بدأ حكمه بضم ليون، وباقي الممالك المسيحية تحت سيطرته، ثم بدأ في إقامة علاقات مع الممالك الخاضعة لملوك الطوائف، والتي تأسست مع سقوط الخلافة الأموية في الأندلس في القرن الحادي عشر الميلادي؛ حيث انقسمت الدولة الأموية هناك إلى عدد من الممالك الأصغر حجمًا، والتي نشب الصراع في ما بينها، كما بدؤوا في الاعتماد على جيش فرديناند في المعارك العسكرية التي كانت تدور في مواجهة بعضهم بعضًا، ولم تكن نية فرديناند غزوهم؛ ولكن الاستعانة بهم كحلفاء وأتباع، فضلًا عن نهبهم اقتصاديًّا، وبوفاة فرديناند انقسمت الممالك المسيحية من جديد.

ويلاحظ أن هذه الممالك المسيحية في الشمال كانت متصارعة هي الأخرى، ولم يكن هدفها في البداية السيطرة على الممالك الإسلامية؛ ولكن الحصول منها على الجزية والأموال، لتوظيفها في المعارك التي كانت دائرة بين الممالك الشمالية.

وفي مايو 1085، تمكن ألفونسو السادس من السيطرة على “طليطلة” (توليدو) بعد حصار رمزي، ودون أي قتال يُذكر، ووعد ألفونسو المسلمين في طليطلة بالأمن على أرواحهم، وحرية العبادة، وحق التملك، وإقامة صلاة الجمعة، وكان هذا التسامح نابعًا من أن ألفونسو عاش في طليطلة في ظل حكم المأمون، وعاش مع المسيحيين المستعربين في المدينة، عندما كان منفيًّا من قِبَل أخيه.

وفي عام 1157، قام ألفونسو السابع بتقسيم مملكته الموحدة بين ابنَيه، سانشو الثالث (قشتلية) وفرديناند الثاني (ليون)، غير أن سانشو توفِّي بعد وفاة أبيه بسنة واحدة، تاركًا الحكم لابنه ذي العامَين ألفونسو الثامن، والذي توفيت والدته عند إنجابه؛ ولذلك سعى فرديناند الثاني إلى توحيد المملكة من جديد، وسعى إلى السيطرة على “توليدو”؛ حيث كانت تتم تنشئة الطفل الأمير، وإعلان نفسه وصيًّا عليه، غير أنه فشل بسبب ولاء المستعربين لألفونسو وابنه من بعده. وعندما تولَّى ألفونسو الثامن الحكم، وهو في عمر 15 عامًا، قام بإبعاد أولئك الذين تحالفوا مع عمه، وقام بالاعتماد في حكومته على المستعربين. كما قام من أجل توطيد حكمه بتوزيع قصور أمراء الطوائف على الموالين له، فضلًا عن رجال الدين المسيحي؛ وهو ما أدى إلى تدمير بعضها، أو تحويلها إلى كنائس.

 اقرأ أيضًا: حكايات عربية.. مروان بن محمد في أواخر أيام دولته

وقام ألفونسو الثامن، ملك قشتالة، بقيادة معركة “لاس نافاس” ضد الموحدين، إحدى الممالك الأندلسية في عام 1212 ميلاديًّا، وتمكن من السيطرة على عاصمتها أشبيلية في عام 1248. وأصبحت “سيفيلا” (أشبيلية سابقًا) عاصمة مملكة قشتالة. وقام المطران رودريجو، خلال تلك الفترة، بإعادة كتابة تاريخ الحرب الكبرى عام 1248، باعتبارها حربًا صليبية بين المسيحيين المتحدين من جانب، والعدو الروحي والأبدي، ممثلًا في المسلمين، من جانب آخر، وذلك بدلًا من النظر إليهم باعتبارهم تهديدًا جغرافيًّا مؤقتًا. وكان يهدف من ذلك التصوير إلى تقوية الهوية المسيحية القشتالية؛ خصوصًا بين الأجيال الشابة.

وفي عام 1491، ومع سيطرة الملك الكاثوليكي فرديناند، وزوجته إيزابيل، على مدينة غرناطة، وتوقيع اتفاقية الاستسلام مع محمد السابع، الحاكم الثاني عشر لإمارة غرناطة، آخر الإمارات الإسلامية في شبه جزيرة إيبيريا، تم النص في هذا الاتفاق على أحقية مسلمي غرناطة في العيش، وممارسة شعائرهم الدينية، وعدم مصادرة مساجدهم أو مآذنهم أو الأوقاف أو حتى التدخل في عاداتهم وتقاليدهم، فضلًا عن السماح للأقليات الدينية بإدارة شؤونها دون تدخل؛ أي الامتثال إلى النظام الذي وضعه المسلمون في شبه جزيرة إيبيريا منذ عام 711 ميلاديًّا.

اقرأ أيضًا: هل سمعت من قبل بالاحتلال الإسباني الحالي للمدن المغربية؟

ولكن ملوك قشتالة لم يكونوا على استعداد للالتزام بعهودهم؛ ففي صيف 1492 تم طرد اليهود من شبه جزيرة إيبيريا، غير أنه حتى نوفمبر 1492 كانت اللغة العربية هي اللغة الرئيسية في المبادلات الدبلوماسية، ولذلك بدأ تدريجيًّا القضاء على مظاهر الثقافة العربية في شبه جزيرة إيبيريا، وتم طرد المسلمين في النهاية في عام 1614، وصارت الثقافة القشتالية (الإسبانية) هي ثقافة مسيحية خالصة؛ سواء على مستوى الاعتقاد أو على مستوى العادات الثقافية، وليتم القضاء بذلك على التعددية الثقافية والدينية التي أثرَت الحضارة القشتالية.

اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات