الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفةشؤون عربية

فسيفساء تونس.. فن بعطر التاريخ

الفسیفساء هي إحدى وسائل التعبير الفنية في العصور القدیمة.. طورها الحرفيون اليونانيون وتوارثها التونسيون حتى اليوم

تونس – فاطمة بدري

على مدار 3000 سنة كانت تونس موطناً للعديد من الحضارات الكبرى، تركت جميعها بصماتها وإرثها الثقافي والفني الذي كشف عن أسرار الحياة في تلك العصور.

ويعد فن الفيسيفساء أحد أبرز هذه الفنون التي توارثها أجيال من التونسيين منذ العهد الروماني، وحافظوا عليها إلى اليوم، حتى أصبحت الفسيفساء عنواناً لهذا البلد؛ فمخزون البلاد من الفسيفساء تحول إلى إرثٍ تاريخي مهم يعود إليه المؤرخون لدراسة حياة وأحلام ومخاوف أناس مروا على أراضيها منذ آلاف السنين، فيما جنب الحفاظ على هذا الفن وتطويره من اندثاره رغم الصعوبات التي يواجهها ممتهنو هذه الحرفة.

معمودية مسيحية تعود إلى النصف الثاني من القرن السادس الميلادي

والفسیفساء هي إحدى وسائل التعبير الفنية المميزة للعصور القدیمة، طورها وأوجدها الحرفيون اليونانيون الذين ابتكروا التصاميم لأول مرة في القرن الخامس قبل الميلاد باستخدام رقائق حجرية صغيرة؛ وهي أجزاء لا تتجزأ مـن فضاءات المباني في العصور الیونانیة والرومانية،  وقد أثبتت الحفريات الأثرية التي تمخضت عن آلاف من اللوحات الفسيفسائية الضخمة أن سكان إفريقيا قديماً (تونس والشرق الجزائري والغرب الليبي) كانوا بارعين في تصميم لوحات الفسيفساء، وقد اعتمدوها للتعبير عن طرق العيش والتفكير والحياة اليومية والأيديولوجيا في ذلك العصر وحياة الحكام أيضاً في تلك الحقبات التاريخية.

اقرأ أيضاً: هل يمكننا الاحتماء بالفن حين تطغى المأساة على الواقع؟

ورغم أن هناك الكثير من الفضاءات التي بوسعها أن تخبرك عن سحر فن الفسيفساء في تونس؛ فإنه يبقى متحف باردو، الذي يعد أشهر المتاحف في العالم والمدرج من قِبل منظمة اليونسكو، ضمن قائمة التراث العالمي الأنسب لهذه المهمة؛ ففي هذا المكان بوسعك أن تجد أكبر وأفضل مجموعة من الفسيفساء في العالم.

للنباتات مكانتها في الفسيفساء الرومانية

وستكون أمام لوحات فسيفسائية ضخمة متوسطة تعرض تفاصيل العالم الروماني؛ حيث صور الحياة المنزلية والزراعة والنباتات والحيوانات والآلهة والأبراج تزين الجدران من كل جهة. كما تروي بدقة تفاصيل الحياة اليومية النابضة في تلك العصور؛ كصيد الحيوانات، وتعكس جمال المنازل والنوافير والحدائق والمزارع حينها.

الحيوانات محور عدد كبير من لوحات الفسيفساء الرومانية بتونس

وتمتد اللوحات الفسيفسائية الموجودة بالمتحف من القرن الأول قبل الميلاد مروراً بقرطاج البونية والرومانية، ووصولاً إلى قرطاج البيزنطية، وتعد وسيلة مهمة لمعرفة الإطار التاريخي والاجتماعي الذي عاشته تونس خلال تلك الحقب، حتى دخول العرب في القرن السابع الميلادي.

فسيفساء لأوانٍ رومانية في متحف باردو

فرجيل ونبتون

ورغم الزخم الكبير الذي يميز اللوحات الفسيفسائية الموجودة في المتحف؛ فإن هناك لوحتَي الشاعر الروماني فرجيل، وإله البحار نبتون، اللتين تستأثران بالاهتمام دائماً، وتصنفان كأثمن وأهم اللوحات في العالم.

لوحة الإله نبتون والفصول الأربعة

ولوحة “فسيفساء فرجيل” أو “فرجليوس مارو” التي توصف بـ”الجوهرة الفريدة” والأهم ضمن مجموعة الفسيفساء الرومانية النادرة التي تمتلكها تونس، وتحظى بهذه المكانة باعتبارها الصورة الأقدم والأقرب شبهاً للشاعر الروماني.

وتصور هذه اللوحة النادرة (طولها 1.4 متر وعرضها 1.38 متر) الشاعر العظيم “فرجيل” يجلس على مقعد وثير وهو بصدد قراءة الإلياذة أمام الإمبراطور أوغيست. ويبدو الشاعر الروماني مرتدياً جلباباً أبيض مطرزاً ومحاطاً بربتَي الفن “كليو” و”ميلبومان”، حسب الميثولوجيا اليونانية القديمة، وبين يدَيه ورق كتبت عليه مقاطع شعرية من “الإلياذة” “يا ملائكة الإلهام ذكريني وقولي لي.. لأرى أي أسباب لانتهاك الحقوق المقدسة”. وتم العثور عليها سنة 1896 في موقع أثري في محافظة سوسة أو “حضرموت” سابقاً. ويذهب الكثيرون للقول إنها الفسيفساء الأغلى في العالم.

شاهد: فيديوغراف.. الفجوة بين المثقف والمجتمع

وأعارت تونس هذه اللوحة إلى أكثر من متحف عالمي بطلبات من باحثين وعلماء مختصين، كان آخرها متحف “قصر تي” بمدينة “مانتوفا” الإيطالية سنة 2011، مصحوبة ببطاقة هوية بتأمين قدره 4 ملايين يورو.

أما لوحة إله البحار الروماني “انتصار نبتون”، فهي واحدة من أكبر الفسيفساء المحفوظة من العالم القديم، تبلغ مساحتها 130 متراً مربعاً، وتزن 4 أطنان؛ وهي لوحة ضخمة في غاية الجمال تجسد إله البحار الروماني “نبتون” وهو يحمل رمحاً ذا ثلاثة أسنان محاطاً بالفصول الأربعة. اكتشفت بمحافظة سوسة (حضرموت سابقاً) في القرن الـ19، وتم وضعها بطريقة عمودية ببهو المتحف.

جزء من لوحة الإله نبتون مقربة

فن الذوق والدقة

رضا حفيظ؛ أحد الفسيفسائيين التونسيين الذين يمتهنون هذه الحرفة منذ سنوات في مدينة الجم، يرى أن الفسيفساء رغم صعوبتها؛ فإنها تظل فناً له مميزاته وجماليته الخاصة التي تتطلب الدقة والمهارة والذوق الرفيع في آن واحد.

ويقول لـ”كيوبوست”: “هناك الكثير من التقنيات المعتمدة في صناعة الفسيفساء؛ ولكن أهمها اليوم وأجملها وأصعبها أيضاً هو تقنية الميكروموزاييك أو الفسيفساء الدقيقة؛ وهي مرحلة متقدمة في تطوير الفسيفساء الرومانية، ما زالت غير منتشرة كثيراً في تونس وحتى في العالم؛ لدقتها اللا متناهية التي تتطلب تركيزاً وصبراً لا محدودَين وعشرات الآلاف من القطع لتشكيل لوحة صغيرة”.

فسيفساء رومانية بمتحف باردو

ويؤكد حفيظ أن هناك توجهاً نحو مزيدٍ من تطوير هذا الفن وإخراجه من جلباب الماضي والتاريخ وربطه بالحاضر، عبر تحضير لوحات لفضاءات أو شخصيات لها تأثيرها في الوقت الراهن، مشدداً على أن هناك إقبالاً دولياً على الفسيفساء التونسية؛ لجودتها مقارنةً بدولٍ أخرى على غرار إيطاليا.

فسيفساء رومانية تمثل أوليس والحوريات بالقرن الثاني الميلادي

وأما بالنسبة إلى تعاطي رواد منتوجهم، فيقول: يقبل مشترو لوحات الفسيفساء من تونس أو من السائحين الأجانب على اللوحات التي تعود إلى الحقبة الرومانية؛ لا سيما لوحات فرجيل ونبتون التي نعيد إنتاجها باستمرار وبأشكالٍ وقياسات مختلفة، غالباً ما تكون صغيرة الحجم حتى يتسنى للمشتري نقلها بسهولة؛ خصوصاً الأجانب منهم.

شاهد: فيديوغراف..هل الفنون متعة خاضعة للأذواق أم قيمة خالدة؟

لكن رغم أهمية هذا الفن وانتشاره حتى اليوم في تونس، لا سيما في مدينة الجم التابعة لمحافظة المهدية (وسط شرقي البلاد)؛ فإن هناك بعض الصعوبات والمشكلات التي يواجهها ممتهنوه، فقد أدى تراجع السياحة بعد الثورة في تونس إلى تراجع المبيعات، وتفاقم الوضع مع الوضع الصحي الذي يمر به العالم. ومن جهةٍ أخرى، بات هذا القطاع يشتكي من قلة اليد العاملة؛ بسبب ارتفاع كلفة الإنتاج وارتفاع ثمن اللوحات التي أصبحت في ظل الأزمة الاقتصادية حصراً على أثرياء البلاد.

 اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

فاطمة بدري

كاتبة صحفية تونسية

مقالات ذات صلة