الواجهة الرئيسيةترجماتثقافة ومعرفة
فرانك ويتل.. البطل البريطاني المغمور الذي صنع المحرك النفاث

كيوبوست- ترجمات
جينيفر هاربي
قبل ثمانين عاماً ظهر الابتكار التكنولوجي الذي غيَّر العالم من مرآب شبه مهجور في ليسيسترشاير. كان ذلك أول محرك نفَّاث قابل للتنفيذ؛ ولكن مع انطلاق اختراع فرانك ويتل إلى السماء، أثار موجة من الأسئلة داخل المؤسسة البريطانية. هل تم تجاهل المشروع؟ وهل تأخر ظهوره إلى حد أنه لم يكن قادراً على تغيير شكل الحرب العالمية الثانية؟
لم يكن البناء القائم على مشارف مدينة تجارية هو المكان المتوقع لبناء منشأة سرية مصنفة من الدرجة الثانية، وكانت الشاحنات التي تمر أمام مبنى الطوب الأحمر أمراً لا يلفت النظر على الإطلاق. وهذا ما جعل المكان مناسباً جداً. وبينما شهد هذا المبنى تطوير اختراع غيَّر معالم السفر الحديث، يرى البعض أن هذا الاختراع قد تم تهميشه لفترة طويلة جداً.
في ثلاثينيات القرن الماضي، وقبل إنشاء طريق “M1” السريع المجاور، كان مقر لاديوود وركس في لوتروورث محاطاً بالمزارع، وكان موقعاً سرياً للغاية يتم فيه تطوير أول محرك نفاث عملي في العالم.

وهنا قام فريق من الشباب والشابات اللامعين بضبط واختبار المحرك الذي عُرف باسم “w1”. وعلى رأس هؤلاء كان فرانك ويتل، وهو رجل مستقل من منطقة ميدلاند، شقّ طريقه من خلال تدريب مهني تابع لسلاح الجو الملكي البريطاني في كلية الهندسة بجامعة كامبريدج؛ حيث خضع لدورة لتصميم شيء ظن كثيرون أنه غير ممكن في ذلك الوقت، وهو محرك للطائرة يجعلها تحلق أعلى وأسرع من أية طائرة أخرى.
قال دونكان كامبل-سميث، المؤرخ وكاتب السيرة الذاتية المدهشة لفرانك ويتل: “أعتقد أنه بطل بريطاني تم التقليل من شأنه؛ إنها مهزلة من نوع ما”.

يرى كامبل-سميث أن السلطات في الثلاثينيات تأخرت كثيراً في دعم ويتل، ويرجع جزءٌ من أسباب هذا التأخر إلى كونه من الطبقة العاملة، وليس جزءاً من المؤسسة البريطانية. ويؤكد أنهم فشلوا في إدراك أنهم كانوا يتعاملون مع رجل كان تفكيره أكثر تطوراً من تفكيرهم بكثير. وقال: “لقد كان تصميم محرك ويتل النفاث بمثابة نقلة نوعية كبيرة من المحركات ذات المكابس التي كانت تستخدم في الطائرات، حتى ذلك الوقت. وفهم المحرك النفاث يتطلب فهماً مختلفاً للديناميكا الهوائية والديناميكا الحرارية. ولم يتمكن كثير من المهندسين البريطانيين البارزين من إدراك ذلك؛ ربما يمكنك أن تتفهم فشل الموظفين المدنيين في فهم الأهمية المزلزلة لهذه النقلة”.

طرح ويتل فكرة المحرك النفاث على الحكومة البريطانية في عام 1929؛ ولكن تم رفضها. وبسبب ضائقته المالية اضطر إلى أن يترك براءة اختراعه لتنتهي صلاحيتها عام 1933؛ ولكن ابنه إيان، وهو ضابط في سلاح الجو الملكي البريطاني، يعتقد أن عدم أخذ الحكومة لوالده على محمل الجد كان فرصة ضائعة. ويقول: “كل هذا تخمين بالطبع؛ ولكن لو أن السلطات أبدت اهتماماً لكانت لدينا طائرات مقاتلة بمحركات نفاثة في الخدمة، وربما كانت هذه الطائرات لتعطي هتلر شيئاً يفكر به”.

نجح ويتل في تأمين دعم خاص، وأنشأ شركة تُدعى “باور جيتس”. ويرى كامبل-سميث أن توقيت الحرب العالمية الثانية لم يكن في صالح ويتل؛ حيث تولت الحكومة زمام المشروع الذي رأت أنه مهم بما فيه الكفاية ليأخذ صفة مشروع سري للغاية، ولكن ليس ليحظى بالأولوية في حالة الطوارئ، والغزو المحتمل للبلاد. يقول كامبل سميث: “بالنسبة إلى الموظفين المدنيين كان المحرك النفاث بمثابة إلهاء عن وضع الحياة أو الموت الذي فرضته الحرب. وكانت الأولوية لإنتاج المزيد من محركات طائرات سبيتفاير وهيريكاين”.

في عام 1940، قررت وزارة الطيران منح جميع عقود إنتاج محركات ويتل النفاثة لشركة “روفر”، وليس لويتل نفسه أو لشركته باور جيتس.
يرى الدكتور سيب ريتشي؛ نائب رئيس الفرع التاريخي لسلاح الجو الملكي، أن الحكومة لم يكن لديها الكثير من الخيارات. ويقول: “لا شك أن ويتل كان عالماً بارزاً وخبيراً بالرياضيات ومهندساً عظيماً؛ ولكنني لا أعتقد أنه كان قادراً على إدارة مؤسسته الصناعية الخاصة”.

يروي كامبل-سميث أن ويتل أُصيب بإحباطٍ شديد؛ بسبب ذلك. ويقول: “كان كل اجتماع مع الحكومة أشبه ما يكون بالسير في الظلام الدامس. ولم يتمكن من إقناعهم ببناء المحرك بالطريقة التي أرادها”. ويضيف: “أدخلت شركة (روفر) الكثيرَ من التعديلات على تصميم ويتل، وفشلت في جعل أي محرك يطير”.
شعر ويتل بيأسٍ شديد، وهو يقف مع عائلته الصغيرة خارج منزلهم في وارويكشاير، ليشاهدوا الغارة التي دمَّرت مدينته كوفنتري في نوفمبر 1940. قال إيان: “لقد ولد ونشأ في كوفنتري؛ لقد كان الأمر مؤلماً جداً لوالدي. أتذكر أنني كنت أقف مع بقية أفراد عائلتي في الحديقة، وسمعت الصوت المميز للقاذفات الألمانية فوق رؤوسنا، ثم أضاءت السماء بالقنابل التي ألقتها”.

وقد ترك كل هذا التوتر أثراً سيئاً على صحة ويتل. قال إيان: “أتذكر أنه تحول من شخص مرح جداً إلى شخص بائس. كانت والدتي تعتني به؛ ولكنه بالطبع لم يكن قادراً على إخبارها بأي شيء عن عمله بسبب السرية المحيطة به”.
كان عمله في بعض الأحيان مخيفاً؛ فالمحركات النفاثة كانت تصدر أصواتاً مخيفة عند اختبارها، وتخلف بقعاً كبيرة من الوقود القابل للاشتعال.
قال كامبل-سميث: “كان الضغط على الرجل هائلاً، ووصل به إلى الانهيار في نهاية المطاف. كانت أسباب انهياره تتوزع بين الضغط الذي يواجهه في عمله لإنجاح المحرك، فقد كان عليه القيام بحسابات هائلة، وبين الألم الذي أصابه كفرد من سلاح الجو الملكي البريطاني؛ بسبب عدد الرجال الذين كانوا يفقدون حياتهم”.

ولزيادة الضغط عليه، وصلت أنباء إلى الحكومة البريطانية من ألمانيا النازية، تفيد أن برنامجها للطائرات النفاثة قد انطلق عن الأرض.
في أغسطس 1939، تم تركيب محرك نفاث صممه مهندس شاب يُدعى هانز فون أوهاين، على طائرة صغيرة. قال كامبل-سميث: “يُقال إن الألمان نجحوا في إطلاق طائرة نفاثة؛ ولكن هذه الطائرة لم تحلق مرة أخرى. وفي غضون ذلك، حقق ويتل المستحيل؛ إذ حول محركاً تجريبياً بدائياً إلى محرك قابل للطيران”.
“كان عملياً يعمل بمفرده -من المدهش أنه نجح في ذلك- لقد حول محركاً كان يعمل من على منصة إلى محرك قادر على التحليق. لقد اضطر إلى أن يتوسل ويستدين ليجمع المال اللازم لمشروعه في مواجهة اللا مبالاة المستمرة، وغياب التشجيع والإهمال”.

يبدو تصميم محرك “W1” مألوفاً لمَن شاهد محركاً نفاثاً معاصراً. يقول دان برايس؛ المدير الهندسي لشركة “آي تي بي إينجنز” البريطانية، التي تملك الاسم التجاري “باور جيتس”، والتي لا تزال تعمل في موقعٍ سابق للشركة في ويتستون: “لا تزال التقنية نفسها مستخدمة اليوم؛ لقد صقلنا أفكار ويتل الأصلية، ولكن الأسس لا تزال نفسها”.
في 15 مايو 1941، اجتمع ويتل مع عددٍ من المهندسين المهتمين، وزملاء له من سلاح الجو الملكي، في قاعدة كرانويل الجوية؛ حيث وقفت طائرة قصيرة تشبه السيجار، عُرفت باسم “سكويرت غلوستر E28/39″، على المدرج، وعلى متنها طيار الاختبار جيري ساير. وعندما انطلقت إلى السماء لتحلق لمدة 17 دقيقة قبل أن تهبط مجدداً، لم يكن لدى جميع الحاضرين أدنى شك حول أهمية هذا الحدث.
اقرأ أيضاً: السيارة الطائرة باتت حقيقة ولا يفصلنا عنها إلا القليل
وخلال الرحلات التجريبية الإضافية التي تمت في الأيام التالية، تمكنت الطائرة من الوصول إلى ارتفاع 25.000 قدم (7620 متراً) وسرعة 370 ميلاً في الساعة.
قال غامبل-سميث: “تقنياً، كان ذلك بمثابة الدليل على نجاح محركه، وأظهر أن المحركات النفاثة سوف تحلق في السماء”. وأضاف: “في ذلك اليوم شعر كل الذين كانوا معه بالرهبة، كانوا يعلمون أنه قام بإنجاز هائل”.

وقد بعث هذا النجاح النشوة في الحكومة البريطانية. يقول كامبل-سميث: “كان تأثير الصدمة على الحكومة البريطانية بالغاً؛ فقد لفت الانتباه إلى مدى الإهمال الذي عاناه ويتل. وكان وينستون تشرشل أحد الذين تحمسوا كثيراً. وعندما سمع عن الطائرة كان في غاية الاندفاع نحوها، وسأل: “لماذا لا نصنع ألفاً منها؟”.

المزيد من التأخير كان يعني أن رؤية تشرشل لن تتحقق. وبحلول الوقت الذي اكتمل فيه تطوير الطائرة، كانت الحرب تقترب من نهايتها.
يقول الدكتور ريتشي: “كانت هنالك درجة كبيرة من الإحباط بسبب الوقت الطويل الذي استغرقه تطوير الطائرة؛ ولكن لا أعتقد أن الحكومة كانت في وضع يمكنها فعل أكثر من ذلك”.
“انتهى المطاف بالكثير من أسرارنا المهمة؛ بما فيها تصميم ويتل، إلى تقاسمها مع الولايات المتحدة؛ إذ كنا ندرك أنه لم يعد لدينا المزيد لنضعه في مثل هذه المشروعات”.
اقرأ أيضاً: الشاحنات ذاتية القيادة
بعد الحرب، حصل ويتل على لقب فارس، وانتقل للعيش في الولايات المتحدة؛ حيث أصبح تصميمه الأساس لصناعة مزدهرة.
واليوم يتساءل كثيرون إذا ما كان اختراعه قد طغى على اسمه.
قال الدكتور ريتشي: “هنالك عدد كبير من الطرق التي يمكن من خلالها إحياء ذكراه؛ ولكن في ما يتعلق بمدى شهرته، فالأمر يرجع إلى تعاقب الأجيال؛ فنحن نبتعد أكثر فأكثر عن جيل الحرب العالمية الثانية”.

بالنسبة إلى البعض، كان إنجاز ويتل في 15 مايو يحمل شيئاً من المرارة.
يقول كامبل-سميث: “كان ويتل بطل الساعة؛ ولكن نجاح تجربة الطائرة لم يؤدِّ إلى إنتاج المحرك أثناء الحرب. أثبتت الحرب بطريقةٍ ما أنها تسببت في تشتيت كبير؛ كانت الحكومة في غايةِ القلق من الغزو، ولم يكن أحد فيها قادراً على التفكير في تطورٍ كبير مثل إنتاج المحرك النفاث. هذه هي أهمية تجربة مايو 1941”.
“لا عجب في أنها صدمت الناس؛ كان كثيرون ينظرون في الاتجاه الآخر، ويتساءلون إذا كانوا يملكون ما يكفي من الطائرات التقليدية لكسب الحرب؛ لم يكونوا ينظرون إلى هذا الرجل وحفنة من زملائه في هذا المصنع في ليسيسترشاير، بينما كانوا يبنون المستقبل”.
المصدر: بي بي سي