الواجهة الرئيسيةترجماتشؤون دولية
غياب المساواة سيقود الصين إلى خيار صارخ
لا يمكن تقييد الأوليغارشية الجديدة إلا عن طريق الحكومة التي خلقتها

كيوبوست- ترجمات
برانكو ميلانوفيتش♦
لقد أنتج النموذج الصيني للرأسمالية السياسية نمواً مذهلاً، وانتشل الملايين من الفقر؛ ولكنه وسَّع الفجوة بين الأغنياء والفقراء في البلاد. وهذا الواقع الجديد يهدد النظام الصيني ويقوض مبادئه الاشتراكية الرسمية، كما يقوض العقد الضمني بين الحكومة والشعب. ومعالجة هذه المشكلة تتطلب معرفة جذورها وتحديد مدى انتشارها، وهذا ليس سهلاً في الصين.
الأصول البنيوية
في الخمسينيات والستينيات، رأى الاقتصادي الأمريكي سايمن كوزينتس، أن الاقتصادات التي تنتقل من الزراعة إلى الصناعة، ومن الأرياف إلى المدن، تميل لأن تعاني زيادة عدم المساواة؛ لأنه في بداية الانتقال من الريف إلى المدينة، يكون سكان المدن أعلى دخلاً وقادرين على تحصيل وظائف أفضل من أولئك العاملين في الزراعة. وعندما ينتقل المزارعون إلى المدن يوفرون عمالة رخيصة تزيد مكاسب أرباب العمل في المدن، ومن ثم تزيد عدم المساواة؛ ولكن هذا الأمر لا يدوم إلا في وجود فائض دائم من العمالة، وبمجرد استنفاد هذا الفائض تبدأ أجور العمالة غير المؤهلة في الارتفاع، وتبدأ مظاهر عدم المساواة في الانحسار. ومن غير المفاجئ أن الصين تشهد ارتفاعاً في مستوى عدم المساواة منذ مطلع القرن الحادي والعشرين. وحسب البيانات الرسمية (التي يصعب التحقق من صحتها)، فإن مؤشر جيني (مقياس لعدم المساواة يتراوح بين 0 و1) في الصين يبلغ 0.47، وبالمقارنة تبلغ نسبة المؤشر في الولايات المتحدة 0.41. وقد صرح قادة صينيون مرات عديدة بأن مؤشر عدم المساواة عندما يتجاوز 0.4 قد يؤدي إلى زعزعة الاستقرار.

عدم المساواة في الصين
يفسر الانتقال إلى المجتمع المديني مسار الصين، وربما تكون البلاد قد لامست منحنى كوزينتس عندما بدأ مستوى عدم المساواة فيها بالتراجع في مطلع القرن الحالي، وفي هذه الحالة، فإن الصين تعتبر حالة خاصة؛ لأن السياسات الماوية السابقة أدت إلى مستويات منخفضة جداً من عدم المساواة في بداية الأمر، ثم جاء النمو بالغ السرعة، والذي جعل الصين تتجاوز منحنى كوزينتس خلال جيلَين فقط، بدلاً من قرن أو أكثر كما في بلدان أخرى.
اقرأ أيضاً: دخول التنين… نفوذ الصين المتزايد في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا
ولكن هذا النموذج لا يعكس قصة الصين بأكملها؛ فقد أثرت السمات الخاصة للنظام السياسي والاقتصادي للبلد كثيراً على مستوى عدم المساواة، بما في ذلك التفاوت الكبير بين المناطق الريفية والمدن؛ حيث بلغت نسبة 4 إلى 1، بينما تبلغ في الولايات المتحدة 2 إلى 1.

والفجوة بين مستوى الدخل في المدن ونظيره في الأرياف كبيرة جداً في الصين؛ فالشخص الذي يتمتع بمتوسط الدخل الحضري في الصين يقع في المرتبة المئوية السبعين عالمياً (أي أنه أغنى من 70% من سكان العالم)، بينما يقع نظيره في الريف في المرتبة الثانية والخمسين (أغنى من 52% من سكان العالم). وقد أظهرت دراسة تقارن بين عدم المساواة في الصين والولايات المتحدة أن 22% من عدم المساواة في الصين ترجع إلى عاملَين بنيويَّين؛ هما الفوارق بين الأرياف والمدن، والفوارق بين المقاطعات. بينما يبلغ تأثير هذين العاملين 2% فقط في الولايات المتحدة، وهذه العوامل البنيوية أو الجغرافية تضيف طبقة أخرى فوق قصة كوزينتس في مسألة عدم المساواة في الصين.
اقرأ أيضاً: استراتيجية الصين الكبرى: الاتجاهات والمسارات والتنافس طويل المدى
الفساد والحزب
إن عدم المساواة في الصين، مثل كثير من البلدان، ليس هيكلياً فقط؛ بل سياسي أيضاً. فالفساد وعضوية الحزب الشيوعي الصيني، يمكنهما تأمين مستويات عالية من الدخل. في عام 2012 أطلق الرئيس الصيني حملة لمكافحة الفساد، وتعهد بنشر تفاصيلها؛ بما فيها المبالغ المختلسة ومدة النشاطات غير القانونية وعدد الأشخاص المتورطين فيها، ويمكن من خلال هذه المعلومات احتساب المبالغ المختلسة في مختلف المستويات الإدارية في الحكومة وفي الحزب.

وتظهر البيانات أنه كلما ارتفع المستوى الإداري للجناة زادت مكاسبهم، وأن الفساد يكون أكثر ربحاً على مستوى المدينة منه في الأرياف. وظهر أن مسؤولي الحزب الشيوعي الصيني قد حققوا مكاسب غير مشروعة أكبر من تلك التي حققها موظفو الحكومة ورجال الأعمال. وبلغ معدل المبالغ التي اختلسها مسؤولو الحزب ثلاثة أضعاف ما اختلسه المسؤولون الحكوميون من خارج الحزب.
يرى الخبير بالعلوم السياسية يوين يوبن أنغ، أن بعض أشكال الفساد في الصين تسهم في النمو؛ لأنها تسرع في اتخاذ القرارات المحلية، وتعطي دافعاً للمسؤولين للترحيب بالشركات، ولكن بمقدار ما تكون هذه الفرضية صحيحة، فإن الفساد يقوِّض النظام السياسي؛ لأنه يؤدي إلى تفاقم عدم المساواة غير العادلة، حيث يرى المواطن العادي أن من يتمتعون بعلاقاتٍ سياسية جيدة يجنون ثرواتٍ بسرعة فائقة.
توفر دراسة الحزب الشيوعي الصيني توضيحاً مفيداً. وقد أجريت دراسة بالاشتراك مع زملاء لي على أعلى 5% من سكان الصين دخلاً، (سندعو هؤلاء بالنخبة لتوخي التبسيط) خلال الفترة 1088- 2013. ووثقنا تغيرات اجتماعية استثنائية؛ فخلال خمسة وعشرين عاماً تحولت النخبة الصينية من كونها تتألف من موظفين حكوميين بنسبة 75% إلى أن أصبح رجال الأعمال والرأسماليون يشكلون نصف أعضائها؛ ولكن هذا التحول لم يصل إلى أعضاء الحزب. ففي عام 2013، كان 31% من أعضاء النخبة هم من المنتمين إلى الحزب، وهذه نسبة قريبة جداً من نسبة عام 1988؛ ولكن الذي اختلف هو أن أعضاء الحزب كانوا من العمال وموظفي الدولة عموماً، والآن أصبحت عضوية الحزب تشمل شرائح أخرى من المجتمع؛ خصوصاً ممن ينتمون إلى النخبة الجديدة.
اقرأ أيضاً: أصدقاء الصين قليلون.. ولا يعتمد عليهم!
لا يزال الحزب الشيوعي الصيني يستقطب غالبية أعضائه من الشرائح الاجتماعية “القديمة”؛ ولكنّ أعضاءه الأكثر ثراء يأتون عموماً من الشرائح الاجتماعية “الجديدة”، حيث تشكل عضوية الحزب فرصة لهم لزيادة ثرواتهم. وبعد دراسة أخذت جميع المتغيرات ذات الصلة بعين الاعتبار، وجدنا أن عضوية الحزب ترتبط بزيادة الدخل فقط عند أصحاب الأعمال الكبيرة في القطاع الخاص؛ فإما أن يكون أعضاء الحزب الذين يتمتعون بقوة سياسية كبيرة قد قرروا الاستثمار في القطاع الخاص، وإما أن مَن تمكنوا من جمع ثرواتٍ بشكل مستقل قد قرروا الانضمام إلى الحزب؛ لتعزيز قوتهم الاقتصادية.
كبح جماح الأقلية
لقد قُلتُ في مناسباتٍ أخرى إن الفساد يتلازم مع أنظمة الرأسمالية السياسية، ويهدد في الوقت نفسه شرعية هذه الأنظمة؛ لأنها تستند في جاذبيتها إلى فرضية تحقيق الرخاء والعدالة النسبية للجميع. ولذلك، يُتوقَّع أن تتبنى كل هذه الدول، من وقتٍ لآخر، حملاتٍ لمكافحة الفساد إذا كان قادتها يتمتعون بالحرية السياسية للقيام بذلك.
والتناقض بين روسيا والصين يمكن أن يلقي الضوء على هذه الناحية؛ فقد أوصلت حملة غير سياسية لمكافحة الفساد أليكسي نافالني، إلى موقع أصبح فيه أخطر خصم يواجهه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حتى الآن. من الواضح أن حملة مكافحة الفساد ستلاقي شعبية في روسيا؛ ولكن بوتين، على عكس نظيره الصيني، غير قادر على إطلاق مثل هذه الحملات؛ خوفاً من أنها ستزعزع التوازن غير المستقر أصلاً بين صفوف الأوليغارشية الروسية. أما الرئيس الصيني فهو في وضع أفضل بفضل سيطرته على الحزب الذي قاد البلاد تاريخياً، وربما تكون المكاسب السياسية قد أسهمت في دوافع حملته؛ ولكن لا شك في أن هذه الحملة الكبيرة على الفساد كانت حقيقية؛ لأن استئصال الفساد سيعود عليه بالفائدة، إذ ستُطمئن الشعب من ناحية شرعية النظام، والترتيبات الاقتصادية التي يفرضها.

ومع ذلك، فإن حملات مكافحة الفساد في المستقبل يمكن أن تواجه عقبات أكبر؛ فالقوى السياسية والاقتصادية تندمجان لخلق نخبة سياسية اقتصادية هجينة سيكون من الصعب جداً اقتلاعها بعد أن ترسخ جذورها. ولن تكون لهذه النخبة أية مصلحة في الحد من الفساد أو دعم حملات مكافحته. وهنا يكمن التناقض في الجهود المبذولة للحد من الفساد في الأنظمة ذات الحزب الواحد؛ فالتطور القوي للقطاع الخاص، كما هي الحال في الصين، ينتج طبقاتٍ اجتماعية جديدة.
ومن أجل استمالة هذه الطبقات، تلجأ الحكومة إلى دعوتهم للمشاركة السياسية من خلال عضوية الحزب؛ ولكنهم بذلك يصبحون من الطبقة العليا ذات القوة الاقتصادية والسياسية، وينفصلون عن بقية المجتمع وغالبية أعضاء الحزب. فكيف يمكن السيطرة على قوة هذه النخبة؟ ففي غياب انتخابات حرة، ينتهي الأمر بالسلطة العليا في أيدي دائرة ضيقة من مسؤولي الحزب الشيوعي الصيني والحكومة المخلصين والأوفياء لخلفياتهم. وهذه السلطة الاستبدادية لديها القدرة على كبح جماح النخبة وسعيها المحموم لتحقيق المكاسب الاقتصادية؛ بل ربما لديها القدرة على القضاء على هذه النخبة. والصين الآن أمام خيارَين: الأوليغارشية أو الاستبداد.
♦كبير الباحثين في مركز “ستون لأبحاث عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية”.
المصدر: فورين أفيرز