الواجهة الرئيسيةشؤون دولية
غسيل الأموال في تركيا وتهديد الأمن الدولي
توفر بيئة تركيا العديد من عوامل الجذب لأنشطة غسيل الأموال.. حيث تعد إسطنبول أحد مراكز تجارة السبائك الدولية.. وتعد تركيا واحدة من بين أكبر عشر دول استهلاكاً للذهب في العالم

كيوبوست
كان أداء التنمية الاقتصادية والاجتماعية في تركيا منذ عام 2000 مثيراً للإعجاب. ومع ذلك، حسب البنك الدولي، فقد أصبحت هذه الإنجازات مُهدَّدة بالتحطيم منذ بضع سنوات.
وتعود المخاطر وعدم اليقين اللذان يواجهان الاقتصاد التركي إلى أسبابٍ؛ منها انكماش الاستثمار، وارتفاع نقاط ضعف الشركات والقطاع المالي. لا تؤدي هذه الأسباب إلى تراجع الاقتصاد فحسب؛ بل أيضاً إلى جعل تركيا منطقة جاذبة لغسيل الأموال وتمويل الإرهاب، وقد أثار تصنيف الولايات المتحدة شركاتٍ وأفراداً يعملون من تركيا لدعم المنظمات الإرهابية مالياً، مخاوف المراقبين من استمرار -وربما ازدهار- التدفق النقدي للجهاديين من تركيا.
شاهد أيضاً: فيديوغراف.. اقتصاد تركيا يتهاوى مع اقتراب الانهيار
مخاطر مثيرة للقلق
أصدرت مجموعة العمل المالي (فاتف)، العام الماضي، تحذيراً لتركيا بوضعها في “القائمة الرمادية” الدولية إن لم تُحسِّن -حسب التقرير- أوجه القصور الخطيرة في نهجها لمكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب.
اعتقلت الشرطة التركية 280 شخصاً مشتبهاً بهم في عام 2018 بشأن غسيل أموال في تحويل نحو 323 مليون جنيه إسترليني من العملات الأجنبية إلى حسابات مصرفية في الخارج. وعلى الرغم من تحركات السلطات التركية تلك؛ فإنها لا تزال تُوصف بأن لديها “مُعدّل إدانة منخفض بتهمة تمويل الإرهاب”، وهو ما يعني في نهاية المطاف استمرار وازدهار نشاط غاسلي الأموال والإرهابيين.
ومن بين أحدث الشواهد على ذلك هو قيام الولايات المتحدة، في يوليو الماضي، بإدراج اثنين من المُيسّرين الماليين لتنظيم داعش؛ أحدهما في تركيا، ويُدعى أمين الراوي. وحسب مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأمريكية، فإن الراوي “قام بمساعدة أو رعاية أو توفير الدعم المالي أو المادي أو التكنولوجي، أو السلع أو الخدمات، لتنظيم الدولة الإسلامية من تركيا”.
اقرأ أيضاً: مستقبل مرتزقة تركيا بعد هدوء الأوضاع في ليبيا يقلق الجزائر
وفي حديثه مع وكالة “فويس أوف أميركا”، قال أيكان إردمير، وهو مُشرِّع تركي سابق يعمل حالياً خبيراً في الشؤون التركية في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات بواشنطن: “تعكس هذه التصنيفات التي تستهدف شبكة الراوي وغيرها، مدى استفادة الجماعات الجهادية المختلفة من بيئة تركيا المتساهلة”.
جاذبية تركيا للأنشطة المالية غير المشروعة
غسيل الأموال هو عملية غير قانونية لجعل الأموال غير الشرعية تبدو شرعية، ليمكن استخدامها بأمان. للقيام بذلك، ينجذب المجرمون والإرهابيون إلى الدول ذات المؤسسات المالية الضعيفة، أو التي لديها قدرة أقل على إنفاذ القانون، أو ببساطة الدول ذات الإرادة السياسية المنخفضة؛ لاتخاذ الإجراءات اللازمة لمكافحة غسيل الأموال.
اقرأ أيضاً: تركيا الآن هي اللاعب الأكثر خطورة في الشرق الأوسط
تشمل بعض عوامل الجذب الأخرى القدرة على الوصول إلى مراكز تجارة السبائك الدولية، ووجود أسواق كبيرة لتجارة الذهب والألماس والأحجار الكريمة، وسهولة تأسيس الشركات وحيازة الملكية كالعقارات.
توفِّر بيئة تركيا العديد من عوامل الجذب لأنشطة غسيل الأموال؛ حيث تُعد إسطنبول مثلاً أحد مراكز تجارة السبائك الدولية، وتُعد تركيا واحدة من بين أكبر عشر دول استهلاكاً للذهب في العالم.
تمثل سوق الذهب التركية ميزة عظيمة لغاسلي الأموال؛ حيث يمتلك تُجار المعادنَ والأحجار الكريمة؛ فهي أقل شمولاً وأحياناً محدودة المخاطر التي يواجهونها جرّاء تورطهم المحتمل -وربما غير المقصود- في غسيل الأموال، في بلد تتهاون أو تتساهل فيه الدولة في معاملتها للكيانات والأفراد الجهاديين الذين يمارسون هذا النشاط.
وكمثالٍ على استغلال قطاع الذهب، قام قيادي في “داعش” بتحويل أكثر من 300 ألف دولار إلى عمر الراوي -أحد أفراد شبكة الراوي- لشراء وبيع الذهب، ثم إعادة عائدات الذهب إلى نقدٍ لـ”داعش”. امتلك عمر الراوي عدّة شركات في العراق وسوريا وتركيا، وقد أدرجته الولايات المتحدة كأحد المُيسّرين لـ”داعش” في 2019.
اقرأ أيضاً: مستقبل النفوذ الإقليمي لتركيا وإيران في الوطن العربي
استغلال الأزمات والتقنيات
يُقبل الأتراك مؤخراً على شراء الذهب بشكلٍ لافت؛ بسبب الاقتصاد المتدهور وعدم الاستقرار الجيوسياسي. يضطر البعضُ حتى إلى بيع منازلهم لامتلاك الذهب. إنها إحدى الفرص المستغلة من قِبل غاسلي الأموال الذين يستثمرون في الأصول القيِّمة -كالعقار والذهب- ويبيعونها بحذر.

وإلى جانبِ الأساليب القديمة الشائعة لغسيل الأموال، أضاف الإنترنت اليوم إمكانات جديدة؛ حيث أدى ظهور المؤسسات المصرفية عبر الإنترنت وخدمات الدفع المجهولة من خلاله، والتحويلات من نظير إلى نظير؛ كـ”باي بال” باستخدام الهواتف المحمولة، إلى زيادة صعوبة اكتشاف التحويل غير القانوني للأموال.
تشمل أحدث إمكانات غسيل الأموال استخدام العُملات الرقمية؛ مثل البيتكوين، والتي تُستخدم بشكل متزايد في مخططات الابتزاز، وتجارة المخدرات، وتمويل الإرهاب.
وفي أحدث مثال على استغلال الجهاديين العملات الرقمية، قامت الولايات المتحدة هذا الشهر بمصادر عُملة افتراضية -رقمية- يُزعم أنها تُستخدم لتمويل جماعات متشددة. وحسب مسؤولي إنفاذ القانون، فإن المجموعات الجهادية طلبت تبرعات بعُملة رقمية من خلال عملية احتيال لجمع الأموال من خلال بيع معدات الحماية الشخصية لوباء فيروس كورونا.
وكشف المُدَّعون العامون عن تهم جنائية ضد شخصَين تركيَّين متهمَين بالعمل كغاسلي أموال تتعلق بالعُملة الرقمية؛ أحدهما صاحب موقع إلكتروني مُسجّل في تركيا لبيع أقنعة الوجه وغيرها من الأدوات الوقائية للمساعدة في الوقاية من فيروس كورونا. وقد تم إنتاج الأقنعة من قِبل شركة تركية.
مساهمة غسيل الأموال في دعم أجندة تركيا
يُسهم نشاط غسيل الأموال في تركيا في دعم سياسات أنقرة وحلفائها بشكل أو بآخر. على سبيلِ المثال، يوجد نشاط مزدهِر لغسيل الأموال الليبية في تركيا، وكذلك غسيل أموال لشركاتٍ تركية تعمل في ليبيا؛ خصوصاً في مجال البناء، بمبالغ تزيد على 19 مليار دولار من العقود المُعلَّقة.
اقرأ أيضاً: فايز السراج.. وقيادة ليبيا نحو المجهول
كما أسس الملياردير اليمني حميد الأحمر، شركة “سبأ تُرك” في تركيا، وهي تعمل في مجال الاستشارات والمبيعات والاستثمارات العقارية، وتقدم مئات الأنواع المختلفة من العقارات الجاهزة؛ يصل سعر بعضها إلى 2- 6 ملايين دولار أمريكي. يمتلك الأحمر في تركيا أيضاً 70% من أسهم شركة “إنفست تريد” لإدارة المحافظ الاستثمارية. تُقدِّم الشركة مجموعة من الخدمات بأدوات استثمارية مختلفة في محافظ استثمارية متنوعة؛ منها صناديق الاستثمار العقاري. من أهم مزايا صناديق الاستثمار العقارية هو القدرة على تصفية الأسهم بسهولة، وبالتالي الحصول على الأموال عند الحاجة إليها.
اقرأ أيضاً: هل ينقذ إصلاحيو اليمن الاقتصاد التركي؟
يُعتبر الأحمر أحد أهم حلفاء تركيا الداعمين لحزب الإصلاح في اليمن؛ وهو فرع تنظيم الإخوان المسلمين هناك، ويُعتقد أنه حصل على ثروة هائلة بفضل نفوذه القبلي وفساده، كما يُعتقد أن نشاطه اللافت للنظر في تركيا هو أحد أشكال غسيل الأموال.

يؤدِّي اشتهار تركيا بأنشطة غسيل الأموال دوراً بارزاً في تفويت الفرص الاقتصادية على البلاد، ولا يقتصر هذا التأثير السلبي على الداخل التركي فحسب؛ بل يمتد أثره المُدمّر إلى المنطقة، كالعراق وسوريا وليبيا واليمن؛ مما يهدد الأمن والسلام والنظام المالي الدولي؛ وهو أمر يتطلب مراقبة أنقرة وإجبارها على العودة إلى المسار الصحيح.