الواجهة الرئيسيةمقالات
عودة الأموات إلى الحضور

كيوبوست – د. عبدالله المطيري
شاهد كثير منَّا لقاء الأم مع تصميم واقع- افتراضي لابنتها التي توفيت قبل عدة سنوات. المشهد أثار كثيرًا من ردود الفعل لدى المتابعين ما بين مؤيد للفكرة وساخط عليها؛ ولكن لنبدأ بوصف المشهد أولًا. التقنية كانت متقنةً لدرجة أن البنت بدت على قدر عالٍ من التفاعل في المشهد. من جهتها، كان تفاعل الأم عميقًا وعاطفيًّا. نستطيع أن نقول ولو لوهلة إن الأم صدَّقت أن ابنتها عادت إلى الحياة؛ لكننا نعلم تمامًا كذلك أن الأم متأكدة أن ابنتها قد توفيت منذ سنوات عديدة وأنها تشارك الآن في تجربة علمية. لدينا تناقض في قلب المشهد. الأم بين حالة من التصديق والتكذيب. ابنتها الآن ولو للحظات أصبحت: حيَّة وميتة في ذات الوقت.
اقرأ أيضًا: أريد بنتي حية!
هذا التناقض تحديدًا هو ما أشار إليه كثير من المعلقين على المشهد بأن هذه التجربة ستكون مؤلمة بشكل كبير؛ لأنها ستقوم بالتالي: إحياء الأمل ثم قتله في ذات الوقت. الأمل رفيق درب الألم في تاريخ البشرية؛ فهو دافع الحياة لديه والسبب الأساسي في كثير من آلامه في ذات الوقت. على مدار تاريخ الإنسان الطويل تعامل الإنسان مع الأمل بطرق مختلفة؛ ليحتفظ به ويحمي نفسه منه في ذات الوقت. من تلك الطرق أن يقاوم الأمل بالنسيان، ومنها أن يبعد ذلك الأمل إلى عالم آخر. هنا يكون لقاء الميت في عالم آخر، في عالم ما بعد الموت. سنلتقي ولكننا لن نلتقي هنا أبدًا. اللقاء هنا حاضر وغائب في ذات الوقت. في الحالتَين نحن أمام حالة من الحضور والغياب للأمل. الأمل إمكان وبشارة بالحضور، أما النسيان فهو حل وسط بين الأمل وفقدان الأمل. النسيان إبقاء للأمل مع منعه من الحضور.
شاهد: التكنولوجيا تصلي نيابة عنك!
في حالة الأم والتقنية نحن أمام تجربة جديدة على الوعي الإنساني. التقنية أحضرت لها ابنتها بطريقة مختلفة. صحيح أن الإنسان ليس حديث عهد بلقاء تذكاريّ مع الموتى. فمنذ القدم اخترع الإنسان طرقه لذلك. منذ القدم وضع الإنسان علامةً على قبر موتاه؛ لكي يلتقيهم بشكل أو بآخر. لاحقًا مع تقنية التصوير والفيديو احتفظ الإنسان بنسخ من الميّت؛ كصورة أو كمشهد مصوَّر. إلى الآن كان الميت تذكارًا بلا حضور ولا مستقبل. الصور وبقايا آثار الميت تؤكد وفاته، وبالتالي فهي لا تدخل الإنسان في حالة حادة من التناقض. الميت حتى الآن لا يتحدث إلينا ولا يتفاعل. حتى الآن لا يزال الميت ماضيًا. مع التقنية الحديثة وفي تجربة الأم مع بنتها حدث تحوُّل نوعي في التجربة باعتبار أن الميت عاد وهو يحمل وعيًا حاضرًا قابلًا للتصديق ولو للحظة. البنت الصغيرة تتفاعل مع أُمِّها في ذات المشهد. تتحدث مع أُمِّها باعتبار أنها معها في هذا العالم الآن. هنا يعود الأمل بشكل كبير وحاد. التجربة الحسية للأم من الصعب تجاهلها فهي ترى بنتها وتسمع صوتها؛ ولكن الأهم من ذلك أن البنت تتدفق فيها مياه الحياة/ مياه الوعي والتفاعل والمشاركة. لكن الأم لن تلبث أن تفيق من هذا الوهم الحقيقي؛ فهي تعلم عن التقنية وقبل ذلك تعلم يقينًا أن ابنتها قد ماتت بالفعل. تدخل علينا هذه التقنية من نافذتَين: الأولى أننا كائنات مكشوفة مهما حاولنا تحصين أنفسنا. حواس الإنسان نوافذ لا يمكن إغلاقها، وبالتالي فهو لا يستطيع تجاهل ما يسمع ويرى. الثانية أننا كائنات تطارد الأمل مهما كلَّفها ذلك.
لفهم المشهد السابق لابد برأيي من الإشارة إلى مفهوم الزمن الوجودي واختلافه عن الزمن الموضوعي. الزمن الموضوعي يقيس زمن الأشياء؛ فهو مقياس موضوعي يتحرك بثبات بشكل مستقيم يتكوَّن من ماضٍ انتهى وحاضر آنيّ ومستقبل سيأتي. هذا الزمن تقيسه الساعات. ولكنْ هناك زمن آخر يقيس التجربة الإنسانية ولا تقيسه الساعات. هذا المفهوم للزمن يشرح لنا لماذا تبدو لنا اللحظات السعيدة قصيرة واللحظات الحزينة طويلة رغم أنها متساوية في مقياس الزمن الموضوعي. ما يهمنا هنا هو أنه في الزمان الوجودي يلتقي الماضي بالحاضر بالمستقبل. الماضي موجود والمستقبل موجود؛ ولكن على مستويات مختلفة عن الحاضر. عند سارتر الماضي والمستقبل موجودان في الوعي قبل التفكُّري pre-reflective، بينما الحاضر وحده موجود في الوعي التفكُّري.
اقرأ أيضًا: هل سيصل العلم إلى إعادة الحياة للأموات عبر التجميد العميق؟
الوعي ما قبل التفكُّري هو الوعي الذي يرافقنا؛ ولكن دون أن نركز عليه تفكيرنا. مثلًا حين نقود السيارة ونحن نستمع إلى الراديو، فإن وعينا ما قبل التفكُّري هو ما يتكفل بعملية القيادة، بينما يتفرغ وعينا التفكُّري للتركيز في مضمون كلام الإذاعة. التجربة العلمية تريد أن تنقل البنت من وعي أُمِّها ما قبل التفكُّري إلى وعيها التفكُّري، وهذه مغامرة كبيرة. إننا نحتفظ بالماضي في وجودنا كما نعيش بالمستقبل في وجودنا كذلك؛ ولكن هذا الوجود متسق مع النسيان والتأجيل. الحاضر حاد وقاسٍ ومباشر؛ لذا لا نستطيع مواجهة الموتى فيه. يبدو أننا حتى الآن نريد أن نحتفظ بموتانا في ماضينا ومستقبلنا؛ ولكن ليس في حاضرنا إلا إذا كان للتكنولوجيا رأي آخر.