الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفةشؤون خليجية
عن أسطورة “نحن بنينا الخليج”
إن الغموض في مفاهيم التمدن والحضارة علاوة على الجهل بتاريخ منطقة الخليج.. أدَّيا إلى انتشار صورة نمطية مشوهة عن الخليج وإنسانه

كيوبوست
مقدمة
لقد تجادل العرب في ما تجادلوا فيه حول أمورهم الثقافية والسياسية في القرن الماضي، وأخذ منهم موضوع “المركز والهامش”، و”الحضارة والبداوة”، و”عرب النفط وعرب الماء” الكثير. وكانت الاجتهادات تبحث عن صيغة معينة لتنميط منطقة ما من العالم العربي؛ بوصفها منبعاً للتمدن، وأخرى على أنها ثقب أسود بلا عمق حضاري من الممكن اختصار إنسانيته وغناه الثقافي والتاريخي بـ: سلعة استراتيجية (النفط)، أو حيوان تراثي (الجمل)، أو لباس وطني (الثوب الأبيض والعقال). إن الغموض في مفاهيم التمدن والحضارة، علاوة على الجهل بتاريخ منطقة الخليج، وكذلك التحيزات الأيديولوجية والشوفينية لغالب جمهور المثقفين العرب، قد أدى إلى انتشار صورة نمطية مشوهة عن الخليج وإنسانه. واليوم أتاحت منصات التواصل الاجتماعي، التنفيس عن هذه العنصرية والنمطية، فتتكرر عبارات مثل: “نحن بنينا الخليج” أو “نحن علَّمنا الخليجيين”، “نحن أهل الحضارة والخليجيون أهل البعير والخيام”. وهذه العبارات تُقال في سياق يُقصد منه إهانة بشر الخليج، والتقليل من مُنجزات أوطانهم، ونسبتها إلى النفط أو الحظ أو بطبيعة الحال إسهامات الآخرين.
اقرأ أيضًا: التغير الاجتماعي الخليجي والذائقة الفنية!
لماذا لم يرَ العرب الآخرون الخليجَ على حقيقته؟
السؤال الأول هنا هو: ما مدى دقة الانطباعات والتحليلات والآراء التي يوردها العرب من خارج الخليج عن أهل الخليج والجزيرة في كتاباتهم ونقاشاتهم؟ وماذا نأخذ منها اليوم وننتقي، وماذا نترك ونتجاوز؟ هل السؤال الطويل والمعقد لم يكتسب كل هذه الأبعاد من فراغ؟ فالعديد من هذه الكتابات كانت دائماً تحت وطأة اتجاهَين أساسيَّين: إما أنها تسعى لتشويه الحقائق عن عمد لتناسب وجهة نظر الأحزاب والتيارات السياسية التي ينتمي إليها كاتبوها، وإما أنها قد أعطت انطباعات تنميطية لظواهر يشوبها الغموض وعدم الفهم؛ بسبب اختلاف المرجعية الثقافية والتاريخية لهؤلاء المثقفين[1].
وهناك دوافع رئيسية وراء هذه الصورة النمطية؛ لعل أهمها الصورة الاستشراقية التي ورثها المثقفون العرب التقليديون عن الحداثة والمدنية، فالتقدم والتطور والحداثة ارتبطت في أذهان الكثير من مثقفي بيروت ودمشق وبغداد والقاهرة، بالتخلي عن صورة العربي القادم من الصحراء والخيام والجدب والجمال، إلى التوجه صوب الحضارة الغربية الناجحة والمتفوقة والتي تقدم الحل لكل معضلات العرب، والعرب ومعضلاتهم ارتبطوا دائماً في السرديات الغربية بصورة عنصرية عن الجزيرة العربية وشعوبها، وقد انتقلت هذه الصورة تباعاً إلى كتابات المثقفين العرب النهضويين في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين[2]، واكتسبت قوة دفع كبيرة مع التحول التدريجي لبوصلة الاهتمام الغربي بالعرب من منطقة المشرق إلى الجزيرة؛ نتيجة لاكتشافات النفط الأولى والأهمية الجيوسياسية المتعاظمة لموقع الجزيرة، مما أحدث شعوراً بالغبن لدى طبقات المتعلمين والمثقفين العرب خارج الجزيرة والذين بدأت تنتشر بينهم تباعاً أفكار أكثر راديكالية وثورية معادية للغرب الرأسمالي وحلفائه في الخليج والجزيرة الذين يتعاونون معه بصفتهم رأس حربة للإمبريالية والرجعية في المنطقة[3].

خصوصية خليجية في التكوين والمنشأ
وعلى الرغم من التأكيد المستمر على كون الخليج هو الإقليم الأقل حظاً من الحضارة والثقافة في العالم العربي؛ فإن أمراً غريباً حصل في العقود الماضية، فقد دخلت معظم الدول العربية غير الخليجية في دوامة طويلة من الحروب وعدم الاستقرار والفقر وفشل التنمية والثورات، بينما استمرت دول الخليج في استقرارها الهادئ؛ بل وأصبحت الجزء الأكثر تأثيراً في الفضاء العام العربي اليوم، السؤال: لماذا؟ الأجوبة متعددة؛ لكن اللافت للنظر هو أن سيلاً من الكتابات البحثية الغربية بدأ في السنوات الأخيرة بالإشارة إلى حقيقة لطالما شعر بها الخليجيون وتحدثوا عنها، ولطالما أهملها المثقفون العرب من خارج الخليج والجزيرة، ألا وهي أن هناك شيئاً طبيعياً بل وعضوياً في التركيبة الاجتماعية للأنظمة السياسية الخليجية؛ ففي كتاب صادر من جامعة سان أندرو البريطانية، يُقارن فيه بين تشظي الدولة العراقية، واستقرار الدولة السعودية، تبرز الخلاصة التالية؛ وهي أن الدولة السعودية -مثلها مثل باقي دول الخليج- تكونت من داخل مجتمعها المحلي وأتت مشابهة له في ظروف تكوينها أو مؤسساتها أو تقاليدها. وسواء أكان تكوين الدولة الخليجية قد حصل عبر التفاوض أم حروب توحيد أم البيعة، فإن ظروف النشأة لم يتم فرضها من الخارج، ولم تكن غريبة على المجتمع؛ وهو ما حصل في العراق وبلاد عربية أخرى أو حتى دول شرق أوسطية أخرى[4].
اقرأ أيضًا: دراسة حديثة للبنك الدولي.. تحديات ومستقبل النفط والثروة في الخليج
وكما أن تكوُّن الدولة والمجتمع في الدول غير الخليجية كان في الغالب “غير طبيعي”، فإن الحياة الثقافية والاجتماعية في تلك البلاد شهدت صراعاً أيديولوجياً وهوياتياً عنيفاً هزّ تلك المجتمعات وقدَّم مكانة الأيديولوجيا على المطالب التنموية والحياتية الأكثر إلحاحاً، كما أن الصراع الأيديولوجي والسياسي أفقد تلك البلاد أكثر من فرصة لتطوير هوية وتقاليد سياسية خاصة بها تعينها على الاستمرار كدول ناجحة في عالم اليوم، وهو عكس ما حصل في الخليج؛ حيث إن بلاد الخليج، رغم بساطتها الظاهرية في مجالات الإنتاج الثقافي والفكري؛ فإنها كانت أكثر تماسكاً من ناحية هويتها السياسية، مما أعانها على امتصاص الصدمات الجيوسياسية المتتالية في إقليمنا، ومن ثمَّ المحافظة على مسار التطور التدريجي[5].

خلاصة:
دارت الأيام وتبدل الزمان، وأصبح الخليج الآن قائداً للعالم العربي، وما عبارات وشعارات شعبوية مثل: “نحن بنينا الخليج”، أو “نحن علمنا الخليجيين”، إلا تنفيس عن فشل متراكم على أكثر من مستوى، المُدهش هو عندما يردد رؤساء دول هذه المقولات، كما حصل مؤخراً مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس[6]، وهو دليل على رسوخ العقلية القديمة التي تقلل من شأن الخليج وأهله؛ ولكن هذا كله لن يغير من واقع أن استقرار التاريخ السياسي وظروف النشأة الاجتماعية وتوافق المجتمعات مع قياداتها، بجانب عوامل أخرى، كانت ولا تزال تشكل خصوصية بل وتفرداً في منطقتنا، حيث نقاط الضوء قليلة، وأكثرها الآن من الخليج.
قائمة المراجع:
- راجع الفصل الثاني من كتاب المفكر الكويتي محمد الرميحي، “الخليج ليس نفطاً“؛ حيث يفصل الحديث عن دوافع تشويه صورة الخليج وأهله. الطبعة الثالثة من الكتاب، المنشورة في 2013، تضمنت تحديثاً يناسب وضع المنطقة والخليج من بعد الربيع العربي.
- راجع الفصل الثالث من كتاب الإنجليزي- اللبناني ألبرت حوراني “تاريخ الفكر العربي في عصر النهضة 1798 –1939″؛ حيث يحلل تأثير الاستشراق الغربي على أفكار أهم الشخصيات العربية التنويرية في تلك المرحلة.
- نفس المرجع أعلاه.
- أصدرت جامعة سان أندرو البريطانية كتاباً في عام 2012 للباحث أدهم ساولي، بعنوان “الدولة العربية.. تحديات التكوين المتأخر”، ويقارن فيه بين ظروف نشأة العراق والسعودية وأسباب الافتراق في المسار والنتائج.
- تتناول الباحثة الفرنسية فلورانس غاوب، في كتابها “لحظة الخليج.. العلاقات العربية منذ 2011“، ما سمَّته (المهارة التقليدية) لحكام الخليج في التعامل مع أحداث المنطقة؛ ولكنها لا تُرجع ذلك إلى حكمة تقليدية بل أساس توافق الحُكم في الخليج مع مجتمعاته المحلية؛ وهو أمر نادر في المنطقة، حسب الباحثة.
- https://www.youtube.com/watch?v=3Vr5aiQtXhA