الواجهة الرئيسيةشؤون دوليةمقالات

عندما تتحرك ألمانيا يجب على العالم أن ينتبه

كيوبوست

د.دينيس ساموت♦

لم تسفر الانتخابات الألمانية، يوم الأحد الماضي، عن أية مفاجآت كبيرة. ومع ذلك فقد أثارت التغيرات البسيطة في شعبية بعض الأحزاب اهتمام وسائل الإعلام. لا يزال الحزبان اللذان هيمنا على الحياة السياسية الألمانية منذ الحرب العالمية الثانية -ائتلاف الاتحاد الديمقراطي المسيحي مع الاتحاد الاجتماعي المسيحي من يمين الوسط، والحزب الديمقراطي الاشتراكي من يسار الوسط- الحزبَين الأكبر في البلاد، وكلاهما كان جزءاً من الحكومة الائتلافية المنتهية ولايتها، وأحدهما سيقود الحكومة المقبلة. كما حقَّق حزبان آخران تحسناً في عدد الأصوات التي حصلا عليها؛ وهما حزب الخضر وحزب الديمقراطيين الأحرار، في حين شهد حزب البديل من أجل ألمانيا، اليميني المتطرف، تراجعاً في أصوات الناخبين؛ مما يشير إلى أن شعبيته قد بدأت في التراجع. سوف تبدأ الآن المفاوضات بين الأحزاب لتشكيل ائتلاف حاكم جديد. ومن المتوقع أن تستغرق هذه المفاوضات عدة أسابيع، في حين تشير التوقعات المتفائلة إلى أن ألمانيا سوف تحظى بحكومة جديدة بحلول نهاية العام الجاري.

اقرأ أيضاً: ألمانيا تبحث عن خليفة ميركل بين ثلاثة مرشحين

والسبب في الاهتمام العالمي بالانتخابات الألمانية، هو أن هذا البلد بمثابة عملاق نائم. وكلما تحرك هذا العملاق تشخص إليه أنظار العالم باهتمام بالغ؛ ولكن الانتخابات الأخيرة لن تسبب القلق لأحد، فألمانيا أثبتت مرة جديدة أنها تقف على أساس صلب من الاستقرار؛ حيث تبقى السياسة ضمن حدودها.

لقد تعافت البلاد من صدمة فظائع النازية في الثلاثينيات، ومن الهزيمة في الحرب وألم المصالحة مع خطاياها التي تمثلت في أوضح صورها بالمحرقة والدمار الذي جلبته ألمانيا على كل أوروبا في النصف الأول من القرن العشرين؛ ولكن الدروس لا تزال محفورة في أذهان الأجيال الألمانية المتتابعة، ولن يتسامح الألمان على الإطلاق مع سياسات تقودهم إلى حافة الهاوية.

حزب البديل لأجل ألمانيا اليميني المتطرف يتراجع في الانتخابات.. ولكنه باقٍ- “نيويورك تايمز”

أعادت ألمانيا بناء نفسها؛ فهي ليست قوة اقتصادية عظمى فحسب، بل هي المحرك الذي يدور حوله الاتحاد الأوروبي. قادت أنجيلا ميركل البلاد خلال الستة عشر عاماً الماضية، لخَّصت خلالها الفلسفة السياسية الألمانية المعاصرة، وأسهمت في صياغتها في الوقت نفسه. وعلى الرغم من الاضطرابات السياسية التي اجتاحت أوروبا والعالم على مدى العقد ونصف العقد الماضيين؛ فإن ألمانيا كانت واحة من الهدوء والاستقرار. حاولت الأحزاب الشعبوية التي نشرت الفوضى في أنحاء أوروبا أن تطل برأسها القبيح في ألمانيا أيضاً؛ ولكن جاذبيتها كانت محدودة للغاية. حافظت ألمانيا بقيادة ميركل على التزامها بالمشروع الأوروبي، حتى عندما كانت بريطانيا تغادر الاتحاد وكانت بعض الدول تفكر بالشيء نفسه. وفي اللحظات الحاسمة، مثل الأزمة المالية الخانقة في اليونان، تصرفت ألمانيا بحزم وأنقذت البلاد ولم تتلقَّ إلا القليل من الشكر في المقابل. كانت ميركل مصممة على ألا ينهار المشروع الأوروبي في عهدها. وربما كان قرارها الأكثر إثارة للجدل هو السماح لمئات الآلاف من اللاجئين السوريين بطلب اللجوء في ألمانيا التي كانت تسترشد بدروس الماضي في هذا الأمر بقدر ما كانت تسترشد بمصلحتها الحالية.

اقرأ أيضاً: في عامها الأخير كمستشارة ألمانيا.. ميركل امرأة أوروبا الحديدية

أما من الناحية الجيوسياسية، فإن ألمانيا تلعب بأقل من وزنها بكثير؛ فهي بطريقة أو أخرى لا تتعدى كونها لاعباً ثانوياً خجولاً. وهي تشعر بالضيق في كل مرة تنشر فيها جنوداً في مهمة خارج حدودها، على عكس بريطانيا وفرنسا؛ حيث يندر التشكيك بالمغامرات العسكرية الخارجية لجيشيهما. وأياً كان مَن سيحل محل ميركل، فمن غير المرجح أن يغير هذا الأمر بشكل جذري، ولكن ربما سيكون هنالك بعض التغيرات الطفيفة؛ فهنالك طلب متزايد على ألمانيا لأن تلعب دوراً جيوسياسياً أكثر فعالية، وهذا الأمر متروك للمستشار الجديد وائتلافه الحكومي لصياغة الدور الجديد للبلاد.

جنود من الجيش الألماني في أفغانستان- وكالات

وما لم تحدث مفاجآت كبيرة، فإن الائتلاف الجديد سيكون بقيادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي وزعيمه أولاف شولتز. في السنوات الأخيرة، بدا الحزب وكأنه يتراجع؛ ولكنه انتعش أثناء قيادة ويلي براندت، مع ازدياد الدعم لأحزاب يسار الوسط الديمقراطية الاشتراكية الذي ظهر في أنحاء أخرى من أوروبا.

اقرأ أيضاً: التكنولوجيا سلاح اليمين المتطرف في ألمانيا

ومن المرجح أن يشكل حزب الخضر جزءاً مهماً من الائتلاف القادم، وربما يتولى حقيبة الخارجية؛ إذ يتبنى الحزب سياسة صارمة للغاية في ما يتعلق بالتغيرات المناخية، ولكن سياساته الأخرى أصبحت مؤخراً متماشية مع التيار السائد. في سياسته الخارجية أيضاً سيكون دعم الاتحاد الأوروبي هو النقطة المحورية.

كما يرجح أيضاً أن يكون الشريك الثالث في الائتلاف هو حزب الديمقراطيين الأحرار الليبرالي، الذي سيسعى للتأثير على سياسات التجارة والاقتصاد للبلاد.

أولاف شولتز مرشح الحزب الديمقراطي الاشتراكي لمنصب المستشار الألماني يدعو إلى الهدوء والبراغماتية- “دويتشه فيله”

كما هي الحال في الحكومات السابقة، سوف يهيمن فن التسويات على أسلوب ومضمون الحكومة الألمانية القادمة. ومن المرجح أن تكون هذه الحكومة أكثر التزاماً بالاتحاد الأوروبي من حكومة ميركل. وهنا أيضاً ستظهر بعض الفوارق البسيطة؛ فالاتحاد الأوروبي لا يزال يتكيف مع خروج المملكة المتحدة من هيئات صنع القرار فيه. في الماضي، غالباً ما كانت المملكة المتحدة تلعب دور الثقل الموازن لفرنسا في النقاشات، بينما كانت ألمانيا تلعب دور واضع الحلول الوسط. والآن أصبحت ألمانيا مضطرة إلى لعب دور الثقل الموازن لفرنسا؛ وهي مهمة تشكل حرجاً لألمانيا بسبب علاقاتها المتميزة مع فرنسا التي نشأت عبر قرون من العلاقات المتبادلة (والحروب)؛ ولكن بتشجيع الدول الأعضاء الأخرى من المحتمل أن تجد ألمانيا نفسها في المستقبل تلعب هذا الدور بشكل متزايد عند الضرورة. وهنالك أيضاً قضية الانتقال بالمشروع الأوروبي إلى خطوته المنطقية التالية؛ وهي تطوير قدرات جيوسياسية في الدبلوماسية والدفاع. ومن المرجح أن تكون الحكومة القادمة حريصة جداً على ذلك ومستعدة لتوفير رأس المال السياسي والموارد اللازمة لهذه الخطوة. وربما ستكون هنالك رغبة أكبر في برلين لتجديد العلاقات السياسية مع موسكو؛ ولكن يجب عدم المبالغة في تقدير هذا الأمر أو إساءة فهمه.

اقرأ أيضاً: ترجمات: ألمانيا غير موجودة.. تحليل حركة “مواطنو الرايخ”

ولكن كل ذلك مؤجل إلى العام التالي. ففي ما تبقى من عام 2021 ستبقى ميركل في المستشارية الفيدرالية؛ حيث يؤدي البوندستاغ [البرلمان الألماني- المترجم] الجديد اليمين الدستورية، وتسير المفاوضات الجدية نحو تشكيل الائتلاف الحاكم. وبعد دقائق من إعلان نتائج الانتخابات الأولى، ليل الأحد الماضي، ذكر المستشار الألماني الجديد المحتمل أولاف شولتز، في حديث أدلى به، سمتَين من السمات التي يأمل أن تتميز بها الحكومة القادمة؛ هما الهدوء والبراغماتية، وهي كلمات مطمئنة للألمان وبقية دول العالم على السواء.

♦مدير معهد “LINKS Europe” ومدير التحرير في موقع “كومونسبيس”.

 www.commonspace.eu ([email protected])

لقراءة الأصل الإنكليزي: When Germany stirs the world takes notice

اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

مقالات ذات صلة