الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفةشؤون دولية

عبدالرزاق قرنح.. التنزاني الذي انتزع نوبل بروح “حضرموت”

الحضرمي في تغريباته المتعددة وسردياته البديعة وتنزانيته الأثيرة وإنجليزيته المتماسكة

كيوبوستعبدالجليل سليمان

يبدو أن الكاتب الحضرمي، محمد بحاح، لم يكن يتوقع عندما أحصى نزوح آل قرنح من حضرموت إلى أصقاع الدنيا وأركانها الأربعة، في نصه الرائع الموسوم بـ(التَغْرِيْبَةُ القُرْنَحِيّة)، حصول عبدالرزاق قرنح، على جائزة نوبل لهذا العام، لربما لم يخطر بباله أو ربما لا يعرفه أصلاً، وإلا لما أحصى كل القرانحة منذ امرؤ القيس الذي قال عنه: “لا شيء أصعب على القلب من أن يترك المرء أرضه! ويلاحق مُلكاً ضاع، فلا يسمع سوى رنين الريح، وخطى الحنين”، ولم يكن امرؤ القيس وحده فقد توالت هجرات آل قرنح، تاركين (حريضة) خلفهم، إلى الحويطة ثم الديس الشرقية والمكلا، ومنها هناك ضربوا عجاج البحر وفجاج الأرض إلى كل ناحية وركن؛ خصوصاً شرق إفريقيا، حطوا رحالهم على كل بقاعها؛ لا سيما جزر القمر وزنجبار؛ فحققوا النجاح وأُثروا من اشتغالهم بالتجارة، ولم يجد أثراً لعبدالرزاق في طريق هجرة القرانحة.

والخميس 7 أكتوبر، حين أعلنت الأكاديمية السويدية منح جائزة نوبل في الآداب لعام 2021 إلى الكاتب التنزاني، عبدالرزاق قرنح، سليل آل قرنح الحضارمة المهاجرين إلى زنجبار منذ تلك التغريبة الشهيرة؛ حيث ولد هناك عام 1949، قبل أن يطيب له المقام في تغريبته الأخيرة (بريطانيا)، منذ أن حلَّ بها طالب علم وليس تجارة عام 1968، ولم يعد إلى الجزيرة الإفريقية إلا لوقت قليل عام 1984.

اقرأ أيضاً: سامية حسن سولو.. امرأة من أرخبيل القرنفل على عرش “دار السلام”

تغريبة صاحب نوبل

في جامعة (كنت) بكانتربيري في جنوب شرق إنجلترا؛ حيث دَرَسَ ودَرَّس، تشكَّل وعي عبدالرزاق قرنح، إلا أن الفترة الأكثر تأثيراً في حياته في ما يتعلق بالأدب والسرد، كانت بين عامَي (1980- 1982)، حينما غادر إلى نيجيريا ليعمل مُحاضراً للآداب الإنجليزية في جامعة (بايروكانو) بشمال البلاد؛ حيث بدا بعد تجربته تلك شديد التأثر بالمسرحي والسارد النيجيري الكبير (وولي سوينكا) الحائز على نوبل للأدب عام 1986، كما تأثَّر بالروائي الكيني نغوغي وا ثيونغو، والهندي سلمان رُشدي، قبل أن يعود مُجدداً إلى جامعة (كنت) ليحصل على درجة الدكتوراه في الأدب، ويلتحق محاضراً بنفس الجامعة.

إحدى بوابات الحضارمة في زنجبار- وكالات

مثلما لم يكن صاحب “التغريبة القرنحية”، يتوقع أن إدراج عبدالرزاق ضمن مشاهير المهاجرين من آل قرنح الحضارمة إلى أرخبيل زنجبار، كان سيمنح نصه قوة دفع إضافية بعد فوزه بنوبل هذا العام، فإنه سيجد لنفسه العذر عندما يعلم أن صاحب الجائزة نفسه لم يكن يخطر بباله الفوز بها؛ حيث قال لـ”رويترز”: “لقد كانت مفاجأة كاملة بالنسبة إليَّ لدرجة أنني اضطررت حقاً إلى الانتظار حتى سمعت الإعلان الرسمي، قبل أن أصدق ذلك”!

لقرنح، الذي تخلى عن لغته الأولى السواحيلية، في ما يتعلق بكتابة السرد، لصالح الإنجليزية، التي بدأ الكتابة بها عندما كان عمره 21 عاماً، عشر روايات، ربما أكثر بواحدة، ومجموعة مُعتبرة من القصص القصيرة المثيرة، تغوص معظمها في حكايات ماهرة وحاذقة عن آثار الاستعمار والهجرة، على “تشكُّل الهوية، ومصير اللاجئين العالقين بين الثقافات والقارات، دون أية مساومة ومخاتلة، مع تمسكٍ بالحقيقة وإحجام عن التبسيط”، هي التي منحته الأسبقية ليصبح الفائز رقم 117 بجائزة نوبل للآداب، كما أوضحت لجنتها التحكيمية.

اقرأ أيضاً: من هو “جبل صهيون” حاكم إقليم تيغراي المُتمرد

دون تخطيط

 لم يكن عبدالرزاق قرنح، يخُطط قط لكي يصبح سارداً؛ فقد بدأ مشواره مدفوعاً برغبة عميقة في أن يقول شيئاً أقرب إلى الحقيقة وفيه الكثير من النُّبل، دون أي تصوُّر مُسبق؛ فكتب بعض القصاصات المتفرقة بكثير من الخوف، لكنه تمكن من كسر الحاجز عندما ابتدر النشر عام 1987، برواية “ذاكرة الرحيل”، قال لحظتها: “لقد وقعت في شِباكِ الكتابة”، بيد أن الرجل لم يكن صيداً سهلاً لها؛ بل تمكن من إعادة استخدامها لصالحه، فحصل على صيد وفير، شهرة وبريق و(10 ملايين) كرونة سويدية، بما يعادل (1.14) مليون دولار. 

“من هنا إلى نوبل”.. خريطة تنزانيا- وكالات

ربما فوجئ الوسط الثقافي العربي بعبدالرزاق قرنح؛ لكن هذا لم يحدث في إفريقيا، فروايات الرجل ذائعة من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق، والكتابات النقدية حول أعماله منتشرة، وكثير من رواياته تُدَرَّس بجامعات القارة التي ولد فيها وهاجر منها وينتمي إليها.

ربما فوجئ الوسط العربي أيضاً أن بعضاً من روايات قرنح بلغت القوائم القصيرة لجوائز عالمية مهمة؛ مثل البوكر ووايت بريد، وأن الرجل هجين ثقافات إفريقية وعربية وفارسية، (ألف ليلة وليلة) بشكلٍ خاص، وأنه استوحى إلهامه أيضاً من الشعر العربي القديم والقرآن الكريم، وتأثَّر كذلك، بويليام شكسبير وإف. إس. نايبول؛ لكن الفضاء الإفريقي الثقافي الذي يعرف الرجل، غارق الآن في الاحتفاء به؛ لأنه أعاد الجائزة إلى إفريقيا بعد نحو 18 عاماً من الغياب، حيث فاز بها الجنوب إفريقي (جون ماكسويل كويتزي)، عام 2003، ومن جهة أخرى أصاب الرجل الوجدان الإفريقي بموجة من طرب، عندما دعا أوروبا، في مقابلة مع مؤسسة نوبل، عقب إعلانها فوزه بالجائزة، إلى اعتبار اللاجئين الوافدين إليها من إفريقيا بمثابة ثروة، مُشدداً على أن هؤلاء “لا يأتون فارغي الأيدي”.

اقرأ أيضاً: أبوبكر شيكاو الإرهابي الأكثر وحشية.. هل مات منتحراً؟

ذاكرة المكان ولعنة المنفى

حكايات من ذاكرة المنفى، تعبر عن الحنين إلى المكان الذي تركه خلفه، كانت روايته الأولى (ذاكرة الرحيل/ Memory of Departure)؛ فالذاكرة ذات أهمية حيوية في أعمال عبدالرزاق قرنح كافة. يحاول بطل الرواية الشاب بعد أن غادر بلده إثر انتفاضة شعبية فاشلة، أن يبدأ حياة جديدة في بلد آخر في نيروبي بكينيا، وبدلاً من ذلك يتعرض إلى الإذلال بعد أن أعادته السلطات من حيث أتى إلى عائلته المفككة؛ والده المدمن على الكحول والعنيف، وأخته التي أُجبرت على الاشتغال عاملة للجنس.

في روايته الثانية (طريق الحجاج/ Pilgrims Way)، يضع قرنح مبضعه فائق الحساسية بمهارة شديدة ليغوص به في الأوجه المتعددة لحياة المنفي؛ حيث يواجه داود، بطل الرواية، المناخ العنصري في وطنه الجديد، إنجلترا، ثم يواجه نفسه عندما يتداعى أمام حبيبته ليحكي لها كل ما أخفاه من ماضيه؛ نشأته وحياته المأساوية والذكريات المؤلمة للاضطرابات السياسية في تنزانيا التي أجبرته على الفرار، فيتخفف أمامها من أعبائه، ويستعيد توازنه.

مجموعة من روايات عبدالرزاق قرنح- وكالات

و(دوتي/Dottie) روايته الثالثة، تحكي قصة امرأة إفريقية عاشت في ظروف قاسية بإنجلترا التي كانت مشحونة بالعنصرية في خمسينيات من القرن الماضي؛ حيث تدور أحداث الرواية، كانت تشعر أنها بلا جذور، وأن حياتها في البلد الذي ولدت فيه محض وهم وسراب؛ لكنها دأبت على خلق مكانها الخاص وهويتها المختلفة من خلال قراءة الكتب وكتابة القصص؛ فالقراءة تمنحها فرصة لإعادة بناء نفسها.

رغم تلك الأعمال العظيمة، والآثار الأدبية الإنسانية الرائعة؛ فإن تواضع الأفارقة يحكم سلوكهم ويشكل شخصياتهم، فعندما سُئل الرجل عام 2016، بعد بلوغ بعض أعماله القائمة القصيرة لجائزة (بوكر)، عما إذا كان من المناسب أن يعتبر نفسه “مؤلف ما بعد الاستعمار في الأدب العالمي”، أجاب: “لن أستخدم أياً من هذه الكلمات؛ لن أصف نفسي بأية صفة من هذا النوع، لأنني في الواقع لست متأكدًا من أنني جدير بأن أطلق على نفسي أي شيء بخلاف اسمي”.

إنه عبدالرزاق قرنح، الحضرمي في تغريباته المتعددة وسردياته البديعة وتنزانيته الأثيرة وإنجليزيته المتماسكة، يفتح أمام الجميع نوافذ برائحة القرنفل والموت والهجرة والفرح، روايات مختلفة يعيش بين تضاعيفها أفارقة وعرب وفرس وأنجلوساكسون؛ حياة واحدة وطرق متعددة.

اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات