الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفةمقالات
عبارات فلسفية رائجة- 9 “المعرفة قوة”.. فرانسيس بيكون

شايع الوقيان♦
وردت عبارة “المعرفة قوة” في كتابٍ غير معروف لبيكون، ويُدعى «تأملات في المقدس»؛ ولكنها اشتهرت بعد أن اقتبسها توماس هوبز، في كتابه الشهير «الليفَياثان» أو «التنين». ويرى مؤلفا كتاب «جدل التنوير»؛ وهما هوركهايمر وأدورنو، أن بيكون بهذه العبارة يؤسس لفكر التنوير أو الحداثة.
لقد كان العلم أو المعرفة قبل الحداثة يهدفان إلى الفهم؛ ولكن مع الحداثة أصبح الهدف هو السيطرة على العالم الطبيعي. وقد ساعدت الكشوفات العلمية، وتطور الوسائل التكنولوجية، في تحول المعرفة من الفهم إلى السيطرة وزيادة قوة ورفاهية الإنسان.
اقرأ أيضًا: عبارات فلسفية رائجة- 8 “العقلي واقعي والواقعي عقلي”.. هيجل

يعد بيكون مؤسس الفلسفة التجريبية الحديثة؛ بل إنه أبو المنهج العلمي الحديث، فقد كان العلم في وقته مقتصراً على قراءة الكتب وتحليلها وشرحها؛ سواء كتب أرسطو في الفيزياء أو بطليموس في الفلك أو أبقراط وابن سينا في الطب. وهذا أدى إلى عجز العلم عن تحقيق أي تقدم للبشرية.
اقرأ أيضًا: عبارات فلسفية رائجة- 7 “للقلب حججه التي لا يعرفها العقل” .. بليز باسكال
رأى بيكون أن المعرفة الحقة يجب أن تنطلق من دراسة الطبيعة نفسها وليس عبر الكتب، وهكذا قام هو نفسه بوضع أسس المنهج التجريبي الصحيح، ودعا إلى نبذ الكتب العلمية؛ لأنها كانت تقوم على تأملات العلماء وهم وراء المكاتب، والذين لم يكلفوا نفسهم عناء دراسة الظواهر الطبيعية ذاتها.
اقرأ أيضًا: عبارات فلسفية رائجة- 6 “المعرفة تذكّر”.. أفلاطون

اقرأ أيضًا: عبارات فلسفية رائجة- 5 “ليس هناك حقائق بل تأويلات”.. نيتشه
كتب بيكون كتابه العمدة، وهو «الأورجانون الجديد»، ويقصد المنهج الجديد الذي يطرحه كبديل لأورجانون أرسطو. ويجب أن نتذكر أن منطق وفيزياء أرسطو، آنذاك، صارا ضمن مقررات التعليم الذي تشرف عليه الكنيسة، فاكتسب أرسطو قداسةً وكأنه أحد آباء الكنيسة رغم أنه غير مسيحي. وهذا يجعلنا على وعي بأهمية كتاب بيكون ومنهجه الجديد الذي يقوم على الاستقراء العلمي الصحيح، والانطلاق من الطبيعة مباشرة. وكان يقول “علينا أن نصغي جيداً إلى الطبيعة، وأن ننساق وراءها إذا أردنا السيطرة عليها”.
اقرأ أيضًا: عبارات فلسفية رائجة- 4 “لكي يوجد الشيء لا بد من إدراكه”.. جورج باركلي
يعد بيكون من رواد الحداثة والثورة العلمية التي أدت إلى تطور الصناعة وظهور الرأسمالية. ولذا فلا غرابة أن يعده نقاد الحداثة المسؤولَ عن ظهور العقلانية الأداتية؛ أي العقلانية التي تتخذ من كل شيء وسيلة لزيادة القوة والسيطرة على الطبيعة. وهذا يفسر نشوء النزعة الاستعمارية الشرهة التي رافقت الكشوفات الجغرافية والعلمية؛ فمع تعاظم الإنتاج كانت الدول الأوروبية الكبرى في حاجةٍ إلى أسواق كبيرة، علاوة على الحاجة إلى مواد خام وأيدٍ عاملة رخيصة.
اقرأ أيضًا: عبارات فلسفية رائجة- 3 “الجحيم هو الآخرون”.. سارتر

إن تطبيق المنهج التجريبي على الطبيعة، كما أشرنا، لا يهدف إلى فهم الكون بل إلى استغلاله واستثماره في مصالح ومنافع جديدة ظهرت مع عصر الحداثة. أما الجانب الأكثر خطورة في هذا التطور العلمي الذرائعي -حسب نقاد الحداثة- فهو أن العلماء في القرن التاسع عشر أضحوا يميلون إلى تطبيق المنهج التجريبي على الظواهر الإنسانية؛ لكي تتطور العلوم الاجتماعية والنفسية، كما تطورت الفيزياء والفلك والأحياء. لكن هل هدف العلوم الاجتماعية والنفسية هو “فهم” الإنسان أم “السيطرة” عليه؟
اقرأ أيضًا: عبارات فلسفية رائجة 2: “أنا أفكر إذن أنا موجود”.. ديكارت
يجب أن نتذكر ما قاله أحد أبرز رواد الدراسات الاجتماعية وهو إيميل دوركايم: “يجب أن ندرس الإنسان والمجتمع كما تدرس العلومُ الطبيعيةُ الأشياءَ”؛ أي دراسة تقوم على الملاحظة والتجربة من أجل “التنبؤ” بسلوك الإنسان.

اقرأ أيضًا: عبارات فلسفية رائجة 1: “العلم لا يفكر”.. مارتن هايدجر
يرى نقاد الحداثة؛ كمدرسة فرانكفورت وميشيل فوكو، وغيرهما، أن ظهور العلوم الإنسانية لم يكن بريئاً؛ بل كان من أجل السيطرة على الناس، وتنظيم المجتمع البيروقراطي الحديث، واستغلال الطاقات البشرية في تدعيم السوق. ويرون أن نزع الأنسنة عن المناهج العلمية، والتعامل مع البشر كأشياء، كان سبباً في توحش الرأسمالية والتصنيع؛ خصوصاً صناعة السلاح الفتاك الذي جعل الحربَين العالميتَين أمراً ممكناً؛ فهل كان بيكون ومنهجه العلمي سبباً للدمار الشامل المصاحب للثورات الصناعية والتكنولوجية؟
أترك الجواب للقارئ.
♦كاتب سعودي