الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفةمقالات
عبارات فلسفية رائجة- 10 “الوعي هو وعيٌ بشيءٍ ما”.. هوسرل

شايع الوقيان♦
يرى الفيلسوف الألماني المعاصر إدموند هوسرل (ت: 1938)، أن من طبيعة الوعي أن يكون دائماً ملازماً لموضوعه؛ وهذا يسمى بمبدأ “القصدية”، وهو الأساس الذي نهضت عليه الفلسفة الظاهراتية (الفينومينولوجية)، وما نجم عنها من تيارات؛ كالفكر الوجودي والتأويلي والنقدي. ويعد هوسرل الأب الروحي للفلسفة المعاصرة في شطرها القاري أو التأملي؛ إذ يقسِّم المؤرخون الفلسفة الأوروبية في القرن العشرين إلى قارية، وهي التي سادت في ألمانيا وفرنسا تحديداً مع هايدجر وغادامير وسارتر ودريدا وريكور، وإلى تحليلية أو أنجلو- أمريكية؛ وهي التي سادت في أمريكا وبريطانيا.
اقرأ أيضًا: عبارات فلسفية رائجة- 9 “المعرفة قوة”.. فرانسيس بيكون
عبارة “الوعي دائماً وعيٌ بشيء ما” قضت نهائياً على مشكلة عويصة ظهرت في مطلع الفكر الفلسفي الحديث؛ خصوصاً مع ديكارت، ومن هنا تأتي أهميتها، وقد وردت في كتاب هوسرل العمدة (مباحث منطقية) وفي بقية كتبه اللاحقة.
اقرأ أيضًا: عبارات فلسفية رائجة- 8 “العقلي واقعي والواقعي عقلي”.. هيجل

اقرأ أيضًا: عبارات فلسفية رائجة- 7 “للقلب حججه التي لا يعرفها العقل” .. بليز باسكال
مع ديكارت تم تقسيم الوجود إلى قطاعَين كبيرَين: العقل والمادة؛ الأول ماهيته التفكير، والثاني الامتداد، وليس بينهما علاقة. وفي ضوء هذا ظهرت الإشكالية الشهيرة المتمثلة في ثنائية الذات المفكرة في مقابل الموضوع المادي.. فأنا كعقل أشعر بذاتي وبأنها مستقلة عن العالَم الخارجي إزائي؛ ولكن عقلي لديه القدرة على معرفة هذا العالَم. فمن أين أتت هذه القدرة؟ وبعبارة أدق: ما مصدر المعرفة؟ هل العقل أو الذات المفكرة أم المادة والواقع الخارجي؟
اقرأ أيضًا: عبارات فلسفية رائجة- 6 “المعرفة تذكّر”.. أفلاطون
رأي ديكارت أن العقلَ ينطوي على مبادئ فطرية من دونها يستحيل علينا ككائنات عاقلة أن نعرف العالَم الخارجي. فلدينا مثلاً مبادئ مثل الهوية وعدم التناقض والعلية، ومبادئ الهندسة والرياضيات؛ وهي كلها ليست مشتقة من الطبيعة أو الواقع المحسوس، بل موجودة في العقل بالفطرة.. هذه المبادئ تجعل معرفة الأشياء المادية أمراً ممكناً. وهكذا ظهرت الفلسفة العقلانية. وفي المقابل، رأى جون لوك أن العقلَ صفحة بيضاء خالية من أية فكرة، وأن كل ما يكتسبه لاحقاً من معرفة آتٍ من الواقع الحسي أو التجريبي. ومن هنا ظهرت الفلسفة التجريبية، واستمر الصراع بين العقلانية والتجريبية على مدى ثلاثة قرون، حتى أتى هوسرل بمنهجه الفينومينولوجي وألغى المشكلة. فكيف حصل هذا؟
اقرأ أيضًا: عبارات فلسفية رائجة- 5 “ليس هناك حقائق بل تأويلات”.. نيتشه

اقرأ أيضًا: عبارات فلسفية رائجة- 4 “لكي يوجد الشيء لا بد من إدراكه”.. جورج باركلي
قام هوسرل بتفكيك ثنائية الذات والموضوع (أو العقل والعالم الخارجي)، وقال إن الوعي (وهي الكلمة التي يستخدمها بدلاً من العقل) ليس “صندوقاً مغلقاً” نملأه بالمعطيات فينتج منها معرفة؛ بل هو نشاط قصدي مفتوح على العالَم منذ البداية. فالوعي يستحيل أن يفكر دون “شيء” يفكر فيه، أي دون “موضوع”.. وهكذا فالمعرفة تبدأ في الأساس باتصال الذات والموضوع وتلازمهما.
اقرأ أيضًا: عبارات فلسفية رائجة- 3 “الجحيم هو الآخرون”.. سارتر

اقرأ أيضًا: عبارات فلسفية رائجة 2: “أنا أفكر إذن أنا موجود”.. ديكارت
لكي نفهم طبيعة الوعي القصدي عند هوسرل سوف نشبهه بالضوء؛ عندما أدخل غرفة مظلمة فإني لا أرى شيئاً، وإذا أشعلتُ الضوءَ فإن الأشياء الموجودة في الغرفة “تظهر”؛ أي تُضاء.. إذن نحن أمام حادثتَين: الشيء في ذاته، أو الشيء كموجود مستقل، والشيء كما يظهر لنا -وفي مثالنا- الأشياء التي ظهرت لحواسنا بسبب الضوء. والمنهج الفلسفي الصحيح هو الذي يدرس ما يظهر لوعينا؛ أي “الظاهرة” وليس “الشيء في ذاته”. وكلمة “ظاهرة” في اليونانية تُسمى “فينومين”.. وهكذا اكتسب المنهج الفينومينولوجي اسمه.
اقرأ أيضًا: عبارات فلسفية رائجة 1: “العلم لا يفكر”.. مارتن هايدجر
الوعي كالضوء، ليس شيئاً بل نشاط متجه نحو الأشياء ويضيئها أو يقدمها لنا بوصفها ظواهر ذات معنى؛ فالظاهرة -بخلاف الشيء- تجمع بين مكونَين: أنها شيء مستقل عن العقل، وأنها تحتوي على إضافات من الوعي؛ فعندما أرى “المسجد الحرام” -مثلاً- فلا أراه بوصفه مبنًى من حجارة وخرسانة، بل على أنه مكانٌ مقدس وأفقٌ لالتقاء المسلم بالله.. وهكذا فالمسجد كمجرد مبنى هندسي محايد ليس “ظاهرة”، إنما الظاهرة هي المسجد بعدما “ظهر” للوعي القصدي المسلم كمكان مقدس. وهذا ما يجب أن نتناوله بالدرس؛ فالمسجد كظاهرة يجمع بين ماديته أو واقعيته، ولكنه أيضاً يحتوي على الدلالات التقديسية العميقة التي تشكل جزءاً من ماهيته.
♦كاتب سعودي