الواجهة الرئيسيةترجماتشؤون دولية

طريق آسيا الثالث

كيف تنجو الآسيان وتزدهر وسط منافسة القوى العظمى؟

كيوبوست- ترجمات

كيشور محبوباني

يطرح كيشور محبوباني، الباحث الأول بمعهد الأبحاث الآسيوية بجامعة سنغافورة الوطنية والممثل الدائم السابق لسنغافورة لدى الأمم المتحدة، رؤيته للتنافس الجيوسياسي الحالي بين الصين والولايات المتحدة، وكيف تمكنت منطقة جنوب شرق آسيا عبر تجمع رابطة دول جنوب شرق آسيا  (ASEAN)من النجاح في الحفاظ على علاقات جيدة مع بكين وواشنطن. ورغم أن العديد من المحللين قبل ثلاثة عقود اعتقدوا أن مصير آسيا هو الصراع، كما سبق وتوقع العالم السياسي آرون فريدبرج عام 1993، أن آسيا تبدو أكثر احتمالية بكثير من أوروبا لتكون مركزاً لصراع القوى العظمى، وتوقع أن يكون ماضي أوروبا هو مستقبل آسيا على المدى الطويل. لكن الواقع أن آسيا الآن في عقدها الخامس من السلام النسبي، بينما أوروبا في حالة حرب مرة أخرى.

على مدى العقدَين الماضيَين، حقق جنوب شرق آسيا مكاسب هائلة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية. من عام 2010 إلى عام 2020، أسهمت الآسيان المكونة من عشر دول بإجمالي ناتج محلي قدره 3 تريليونات دولار في عام 2020، في النمو الاقتصادي العالمي، وتمكنت الرابطة على الرغم من عيوبها العديدة كاتحاد سياسي واقتصادي في تشكيل نظام إقليمي تعاوني مبني على ثقافة البراغماتية والتكيف. وقد أدى هذا النظام إلى تجسير الانقسامات السياسية العميقة في المنطقة وأبقى معظم تركيز دول جنوب شرق آسيا على النمو الاقتصادي والتنمية. ومن المفارقات أن من أهم مميزات رابطة دول جنوب شرق آسيا هو ضعفها النسبي وعدم تجانسها، مما يضمن ألا ترى أية دولة أنها تشكل تهديداً لباقي الدول.

اقرأ أيضًا: جنوب شرق آسيا.. الاختيار الصعب بين الصين والولايات المتحدة

السلام والبراغماتية

ساعدت التجارة مع كل من الصين والولايات المتحدة في تعزيز النهوض الاقتصادي الملحوظ للأسيان. بلغ الناتج المحلي الإجمالي للمنطقة مجتمعة في عام 2000 نحو 620 مليار دولار فقط، أي ثُمن الناتج المحلي الإجمالي لليابان. في عام 2021، وصل 3 تريليونات دولار، مقارنة بـ5 تريليونات دولار في اليابان. وتظهر التوقعات أن اقتصاد الآسيان سيكون أكبر من اقتصاد اليابان بحلول عام 2030. ومن الواضح أن العلاقات الاقتصادية الوثيقة بين 680 مليون شخص يقيمون في دول الآسيان و1.4 مليار شخص في الصين قد حققت فوائد كبيرة للآسيان. كما دخلت الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة -اتفاقية تجارة حرة بين أستراليا والصين واليابان ونيوزيلندا وكوريا الجنوبية وأعضاء الآسيان- حيز التنفيذ في يناير 2022، ومن المرجح أن تحقق قفزات أكثر أهمية في النمو الاقتصادي في العقد المقبل .

ويبدو أن الآسيان قادرة على تحقيق المعادلة الصعبة من التعاون، ففي الوقت الذي تقيم فيه علاقات أوثق مع الصين، فإنها تحافظ على علاقات وثيقة بنفس القدر مع الولايات المتحدة. وبينما تجاهل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، جنوب شرق آسيا إلى حد كبير (كما فعل بقية العالم)، لكن الرئيس الأمريكي جو بايدن، بذل جهداً كبيراً للعمل مع الآسيان، واستجابت الدول الأعضاء فيه. في مايو 2022، استضاف بايدن قمة الآسيان في البيت الأبيض التي حضرها معظم قادة الاتحاد. في وقت لاحق من ذلك الشهر، أطلقت إدارة بايدن إطارها الاقتصادي لمنطقة المحيطَين الهندي والهادئ، والذي يهدف إلى تعميق المشاركة الاقتصادية الأمريكية مع الشركاء في المنطقة.

الرئيس الأمريكي جو بايدن- وكالات

من جانب آخر، فإن القرب الجغرافي من الصين يعني أن الآسيان ستواجه تحديات في التعامل مع الصين حتماً أكثر من الولايات المتحدة. وبالفعل، نشأت خلافات حول بحر الصين الجنوبي، على سبيل المثال، ضغطت الصين بشكل غير حكيم على كمبوديا، التي كانت آنذاك رئيسة رابطة أمم جنوب شرق آسيا، لاستبعاد أي ذكر للنزاعات حول بحر الصين الجنوبي من بيان مشترك عقب اجتماع وزاري لرابطة أمم جنوب شرق آسيا.

مصدر آخر للخلاف في العلاقات بين الآسيان والصين؛ هو حملة واشنطن العالمية ضد اعتماد تكنولوجيا الجيل الخامس للاتصالات الصيني، لكن سادت البراغماتية الخاصة بالاتحاد، حيث تتخذ كل دولة من الدول الأعضاء قرارها وفقاً لاحتياجاتها. تعاقدت إندونيسيا والفلبين مع Huawei لبناء شبكات 5G، بينما لم تفعل ماليزيا وسنغافورة وفيتنام. تشير هذه القرارات إلى أن دول الآسيان تنظر في المخاوف الأمريكية؛ ولكنها توازنها مع مصلحتها الخاصة في الوصول إلى التكنولوجيا الرخيصة التي تفيد شعوبها. ومن ثم فإن نهج الآسيان في إدارة المنافسة الجيوسياسية بين الصين والولايات المتحدة يحمل دروساً لبقية العالم النامي.

اقرأ أيضاً: الصين والولايات المتحدة في الشرق الأوسط بين التبعية والتنافس (1)

قواعد مفيدة للتعامل

كيف سيبدو النهج الأمريكي الأكثر براغماتية في التعامل إذن؟ من المهم وضع ثلاث قواعد بسيطة في الاعتبار عند التعامل مع رابطة دول جنوب شرق آسيا، وبالتالي مع بقية دول الجنوب.. الأولى هو عدم مطالبة أية دولة بالاختيار بين بكين وواشنطن. هناك سبب عملي لذلك: مقارنة بالصين، ليس لدى الولايات المتحدة الكثير لتقدمه للآسيان؛ فالأوضاع المالية المتوترة ومقاومة الكونجرس لتوسيع المساعدات الخارجية تعني أن واشنطن لن تقدم سوى جزء ضئيل من المساعدة التي قدمتها بكين للمنطقة.

صحيح أن لدى واشنطن المزيد لتقدمه من حيث التعاون الدفاعي ومبيعات الأسلحة؛ لكن الاعتماد المفرط على التعاون العسكري بدلاً من التعاون المدني قد يؤدي في النهاية إلى الإضرار بالولايات المتحدة، لكن أي جهد أمريكي لمواجهة النفوذ الصيني في جنوب الكرة الأرضية محكوم عليه بالفشل.

القاعدة الثانية هي تجنب إصدار أحكام على الأنظمة السياسية المحلية للدول. توضح رابطة دول جنوب شرق آسيا سبب أهمية هذه القاعدة؛ تضم الدول العشر الأعضاء في الاتحاد، الديمقراطيات والأنظمة الاستبدادية والأنظمة الشيوعية والملكية؛ لهذا فإن قرار بايدن تأطير السياسة العالمية على أنها صراع بين الديمقراطيات والأنظمة الاستبدادية هو خطأ.

صورة تعبيرية عن توتر العلاقات بين الولايات المتحدة والصين- “جلوبال تايمز”

بالنظر إلى القناعة الأيديولوجية العميقة للعديد من صانعي السياسة وصناع الرأي في الولايات المتحدة بأن الولايات المتحدة يجب أن يُنظر إليها دائماً على أنها مدافع عن الديمقراطية، سيكون من الصعب على واشنطن التخلي صراحةً عن هذا الالتزام. ومع ذلك، تعلمت الولايات المتحدة العمل بشكل تعاوني مع الأنظمة غير الديمقراطية (بما في ذلك الصين الشيوعية) خلال الحرب الباردة. إذا أعادت إحياء ثقافة البراغماتية القديمة تلك، فيمكنها أن تفعل ذلك مرة أخرى اليوم.

القاعدة الثالثة لإشراك الآسيان والمناطق النامية الأخرى، هي أن تكون على استعداد للعمل مع أية دولة بشأن التحديات العالمية المشتركة؛ مثل تغير المناخ. حتى لو كانت واشنطن غير مرتاحة لتزايد النفوذ الاقتصادي العالمي لبكين، فعليها أن تتبنى صعود الصين كقائدة في مجال الطاقة النظيفة والتقنيات المتجددة. الصين هي أكبر مصدر لغازات الاحتباس الحراري وأكبر مستخدم للفحم اليوم؛ لكن استثماراتها في التكنولوجيا الخضراء ستكون حاسمة في مكافحة تغير المناخ.

طور علماء ناسا والمعهد الجيوفيزيائي التابع لجامعة ألاسكا نموذجاً لكيفية استجابة الصفائح الجليدية لتغير المناخ في المستقبل

باختصار، يتعين على صانعي السياسة في الولايات المتحدة أن يدركوا في السر على الأقل أن التأثير الاقتصادي المتنامي للصين يمكن أن يكون مصدر قوة عندما يتعلق الأمر بحل المشكلات العالمية المشتركة. بالإضافة إلى تغير المناخ، يمكن أيضاً التعامل مع الفقر والأوبئة بشكل أكثر فعالية من خلال زيادة التعاون بين الولايات المتحدة والصين. ومع ذلك، سيظل هذا التعاون بعيد المنال، ما لم تتوقف واشنطن عن اعتبار أي فوز للصين خسارة للولايات المتحدة والعكس.

تعكس هذه القواعد الثلاث واقعاً تحتاج واشنطن إلى التكيف معه: الدول النامية تزداد تطوراً وقدرة بشكل أفضل على اتخاذ قرارات مستقلة. إذا تمكنت واشنطن من العمل بفعالية فقط مع الحكومات ذات التفكير المماثل، فستعزل نفسها عن جنوب العالم.

اقرأ أيضاً: المحور الأمريكي في شرق آسيا

يجب على الولايات المتحدة التوقف عن محاولة عزل الصين عن بقية العالم والبدء في محاولة تحديد المجالات التي يمكن أن تعمل فيها القوتان العظميان معاً. أما بالنسبة إلى الدول النامية التي ترغب في الشراكة مع كل من بكين وواشنطن، فيجب على الولايات المتحدة أن تتطلع إلى الآسيان للحصول على التوجيه. إن عمل التوازن البراغماتي الخاص بها، أو شيء من هذا القبيل، هو مستقبل بقية العالم النامي.

الباحث الأول بمعهد الأبحاث الآسيوية بجامعة سنغافورة الوطنية والممثل الدائم السابق لسنغافورة لدى الأمم المتحدة

المصدر: فورين أفيرز

اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

مقالات ذات صلة