الواجهة الرئيسيةترجماتشؤون دولية
شهران في مدرسة دينية إيرانية غيَّرا حياتي
كتبت هذا المقال تحت اسم مستعار لخشيتي بطش النظام الإيراني.

كيوبوست- ترجمات
أنور لوز♦
في هذا التقرير يحكي أنور لوز* عن تجربته في إيران، وعملية غسيل الدماغ التي تعرض إليها هناك، ويقول: “فاجأني رجل إيراني ضخم الجثة يرتدي عمامة بيضاء مثل بقية المدرسين في جامعة المصطفى في قم بعبارة: أعطني جواز سفرك. كنت قد وصلت لتوِّي إلى الجامعة بعد رحلة طويلة من بلدي الأم في أمريكا الجنوبية. لم أتمكن من فهم سبب اضطراري إلى تسليم جواز سفري؛ ولكنني لم أكن مستعداً لأن أتخلى عن كل شيء عند أول مضايقة في بلد كنت أعرف مسبقاً أن سجله في حقوق الإنسان سيئ. سلمته جواز سفري، وعلمت لاحقاً أن طالباً مكسيكياً قد هرب ليلاً وتمكن من الوصول إلى سفارة بلاده في طهران، وأثار فضيحة كبيرة حول تجربته. وبالطبع قال الأساتذة لنا إنه كان يكذب وربما كان جاسوساً”.
وصلت إلى هذه الجامعة المعزولة بناء على دعوة من الحكومة الإيرانية لأكون جزءاً من وفد من طلاب العلوم الدينية من دول أمريكا الجنوبية. لم تكن تلك الدعوة مشبوهة أو سرية بأي شكل من الأشكال؛ فإيران لها علاقات قوية مع العديد من حكومات أمريكا اللاتينية، وتعمل بشكل علني في تلك الدول. وتستهدف هذه المنحة الدراسية الشباب الذين تحولوا مثلي إلى الإسلام. وتتم الدعاية لهذه المنحة من خلال مزيج من الخطاب القومي واليساري المتطرف الذي يردد صداه الإعلام الرسمي للحكومات اليسارية في المنطقة؛ مثل فنزويلا وبوليفيا وكوبا. هذا وتستضيف معظم دول أمريكا اللاتينية منظمات ثقافية دينية إيرانية تعمل جسراً بين الدولة المضيفة وإيران، وتسعى طهران من خلالها إلى الوصول إلى منظمات يديرها السكان المحليون. وعادة ما يبحث الإيرانيون عن شباب مثاليين من حيث مستوى التعليم والاهتمامات الأكاديمية والقدرة على التأثير في مجتمعاتهم. وقد كنت بالنسبة إليهم “المرشح المثالي”.
اقرأ أيضاً: مجلة غربية: هكذا صممت إيران دستورها لتصدير المذهب الشيعي
ويضيف لوز: كنت لا أزال جديداً على الإسلام، وأحاول فهم طوائفه ومجموعاته المختلفة، وبحثت عن مراجع باللغة الإسبانية عن المذهب الشيعي. وكما كانت معظم الكتب التي تبحث في المذهب السُّني تقودك إلى المملكة العربية السعودية، كذلك كانت الكتب حول المذهب الشيعي قد كتبت من وجهة نظر إيران. وبدافع الفضول بحثت عن منظمة شيعية في بلدي، ووجدت موقعاً إلكترونياً تواصلت من خلاله، وعلى الفور تقريباً تلقيت مكالمة هاتفية ودعوة لتناول العشاء مع عالم دين تصادف وجوده في مدينتي في ذلك اليوم. وهو مَن كان وراء دعوتي إلى إيران. وسأطلق عليه تسمية “الشيخ ذي اللحية الرمادية”. استمر لقاؤنا ساعات طويلة، تحدثنا خلالها بعمق عن الفقه والفلسفة والسياسة، اختبرت خلالها صبره على أسئلتي حول النظام الإيراني، الذي انتقده بشكل غير مباشر؛ ولكنه قال إنه أمر إيراني لا ينبغي أن يؤثر على المسلمين خارج إيران.
بعد بضعة أسابيع، طلب “الشيخ ذو اللحية الرمادية” أن يجتمع معي ثانيةً، وبمجرد أن جلسنا بادرني بأني اخترت للدراسة في إيران لمدة أربع سنوات على نفقة الحكومة الإيرانية. كان العرض مفاجئاً؛ خصوصاً أنني لم أُخفِ في لقائنا السابق شكوكي حول الخمينية كأيديولوجية سياسية وحول بعض المبادئ الشيعية الأساسية. ولكنني كنت في الوقت نفسه منبهراً بإيران، وشعرت أنها ربما تكون فرصة رائعة. قال: سأتعلم الفارسية والعربية وسأدرس الفلسفة؛ ولكن كان لديَّ عملي وعائلتي في بلدي، ولم أرغب في ترك زوجتي لفترة طويلة؛ فشكرته ورفضت عرضه بأدب.
حاول أن يحرجني لتفضيلي مهنتي على دراسة الدين، وأن يدفعني إلى ترك أهدافي الدنيوية، وعرض عليَّ اصطحاب زوجتي إلى إيران، وأن تتحمل الحكومة الإيرانية تكاليف دراستها أيضاً. ومع إصراري على الاعتذار، قدم لي عرضاً بديلاً: دورة مكثفة لمدة شهرَين من شأنها أن تهيئني للدراسة الكاملة إذا ما غيرت رأيي ورغبت في الاستمرار في دراسة علوم الدين.

وبعد مناقشات طويلة حول الدورة المؤقتة، أخبرته بموافقتي على خوض التجربة. استلمت تذكرتي وتأشيرة دخول إيران قبل ثلاثة أيام من تاريخ المغادرة، وفوجئت بحجم المكافأة المالية التي كانت أكثر من ضعف ما توقعته، وغطت كامل مصاريف رحلتي. وجدت رفيقي في السفر قد اعتنق الإسلام مؤخراً هو الآخر، ويعد شخصية سياسية مهمة إلى حد ما. أصبحنا صديقَين على مدى الرحلة الطويلة وكان لدينا الكثير من القواسم المشتركة.
مع بدء الطائرة بالهبوط في طهران طلب إعلان عبر مكبر الصوت من النساء ارتداء الحجاب، وقد أدهشني أن 99% منهن، وجميعهن إيرانيات تقريباً، لم يكن يرتدينه منذ بداية الرحلة. أخذت انطباعاً أولياً عن مطار الإمام الخميني بأنه قديم وكئيب، أما صور الراحل الخميني وخليفته المرشد الأعلى علي خامنئي، فحدقت في وجهي في كل مكان.
قابلنا رجلاً يرتدي بدلة دون ربطة عنق، كما هي العادة في إيران، واصطحبنا إلى سيارة انطلقت بنا إلى مدينة قم، وبعد رحلة استغرقت نحو ساعة وصلنا إلى الجامعة. بعد يومين من السفر وساعات من الانتظار في المطارات كنت في غاية الحماسة لاستكشاف هذا العالم الجديد. دخلنا ملحق الجامعة الذي بدا بأسواره العالية وكأنه مركز شرطة أكثر منه مؤسسة تعليمية. اتسم المكان بالنظافة واحتوى على غرف متشابهة، وزينت كل ممراته بصور خامنئي؛ ولكن كاميرات المراقبة المنتشرة في كل مكان، باستثناء غرف النوم والحمامات، جعلتني أشعر بشيء من عدم الارتياح. وفي هذا المكان طُلب مني تسليم جواز سفري.
المحطة التالية كانت لقائي الشيخَ “ذا اللحية الرمادية” بالقرب من ضريح السيدة فاطمة المعصومة، سألته: لماذا تمت مصادرة جواز سفري، وهل يمكنني استعادته؟ فقال: لأسباب أمنية، وبالطبع يمكنك استعادته؛ ولكن عليك أن تسدد ثمن تذكرة الطائرة. لم أشعر بأنها صفقة جيدة؛ لأنني لم أكن أخطط للمغادرة مبكراً. ومع ذلك بدأ ينتابني شعور غريب؛ فالشيخ الذي كان ودوداً للغاية في بلدي أصبح الآن بارداً تماماً ولم يكن لقاؤه متاحاً دائماً على الرغم من أنه يقيم بالقرب من الجامعة. في الواقع لم أره سوى ثلاث مرات طيلة فترة إقامتي. أدركت في حينها أن مهمته قد انتهت وربما يكون قد تلقى عمولته لتجنيدي وانتقل إلى مهمة أخرى.
اقرأ أيضاً: المغرب يواجه خطط إيران لنشر التشيع في الغرب الإفريقي
وبالعودة إلى الجامعة، تناولت وجبة الغداء الأولى؛ وهي عبارة عن كباب الدجاج والأرز والحساء. ورغم جودتها؛ فإنها ستكون وجبتي مرتَين في اليوم لمدة ستين يوماً. في نهاية اليوم عُدت إلى غرفتي التي تقاسمتها مع أربعة طلاب آخرين، ووجدت أن القناة التليفزيونية الوحيدة المتاحة هي قناة البرامج الدينية الحكومية التي تبث بعدد من اللغات المختلفة.
تلقينا محاضرتنا الأولى؛ وهي عبارة عن جلسة تمهيدية حول الدورة التي سنتبعها، وقف المحاضر وكان شاباً أنيقاً على منصة تحيط بها أعلام الحرس الثوري الإيراني وتعلوها صورة خامنئي. وصف لنا المواد التي سندرسها والقواعد التي ينبغي لنا اتباعها. لم أشعر بأي شيء خارج عن المألوف إلى أن سأله أحد الطلاب كم يبلغ عدد المسلمين الشيعة في العالم؟ فأجاب: “ليس لديَّ رقم محدد، ولكن نحو 40 أو 50% من الأمة الإسلامية هم من الشيعة”.
يعرف أي شخص مهتم بالإسلام أن الشيعة يمثلون في الواقع ما بين 10 و15 في المئة من إجمالي مسلمي العالم. ولكن بما أن الهدف من الدورة كان تقديم الإسلام الشيعي إلى أمريكا اللاتينية، فمن الأفضل جعل الناس يعتقدون أنهم يعتنقون الإسلام السائد وليس جزءاً فرعياً من مجموعة فرعية. المغالطة الأخرى كانت تقديم خامنئي كزعيم للمسلمين في كل أنحاء العالم وليس للشيعة أو الإيرانيين فقط. وعندما سأل أحد الطلاب ما إذا كان المسلمون السُّنة يرونه هكذا بالفعل؟ كان الجواب “بالطبع”، على الرغم من عدم اعتراف كثير من الشيعة بسلطة خامنئي، فضلاً عن المسلمين من غير الشيعة.

كانت تجربة غريبة للغاية أن نلتزم الصمت والرضوخ لما يُقال. لقد بدأنا حقاً في التفكير المزدوج وفي السير على الخط الفاصل بين ما نؤمن به وما نتظاهر بأننا نؤمن به. وبمرور الوقت بدأ التمييز بين الاثنين يضمحل، ولم نعد نعرف ما هو الصحيح. المثال الآخر على الازدواجية كان علاقتنا بالإنترنت؛ حيث تمر الشبكة العنكبوتية في البلاد من خلال وكيل وطني يستبدل بمعظم المواقع الغربية مواقع هزيلة تعرض نصوصاً دينية. لم يكن هنالك ويكيبيديا ولا “بي بي سي” ولا مواقع سُنية ولا حتى مواقع شيعية بديلة. لذلك كان أول ما علَّمنا إياه المدرسون هو كيفية تنزيل برنامج “تور” الذي يسمح بتجاوز الوكيل الوطني؛ مما أتاح لنا الوصول إلى كل ما يقدمه “الغرب الشيطاني”. على ما يبدو، كان كل الإيرانيين يستخدمون برنامج “تور” للوصول إلى المحتوى المحظور، وغالباً ما كانت السلطات تغض الطرف عن ذلك؛ لكنها كانت لعنة مقنعة نوعاً ما لأنها تمنح السلطات إمكانية اعتقال أي شخص عندما تريد لمجرد مشاهدة مقطع فيديو أو قراءة نص ممنوع.
يتطلب العيش في نظام شمولي أن تتعلم كيفية فصل نفسك الخاصة عن نفسك العامة، حيث كل شيء عبارة عن مفاوضات مستمرة، لدرجة أنه لا يمكنك الاستمتاع بالمنطقة الرمادية الصغيرة من الحرية التي تتيحها السلطات؛ لأنك تعرف أنها قد تتراجع في أي وقت وتلاحقك. لا يمكنك فهم هذا النوع من الحكومات إذا كنت تعتقد أنها تعتمد على الدعم الشعبي؛ فهم يعتمدون على الإيمان المطلق بعدم وجود بديل للنظام الحالي، وأنه سيتم القضاء مباشرة على كل ما يهدده.
كانت الأيام الأولى من الدراسة واعدة، والتقيت مسلمين من كل دول أمريكا اللاتينية؛ ولكن بعد اليوم الثالث أدركت أنه لم يكن لأي من المواد التي ندرسها قيمة أكاديمية أو دينية باستثناء فصول تلاوة القرآن التي كانت الجانب الإيجابي الوحيد. وكل ما عدا ذلك إما بسيط للغاية وإما دعاية سخيفة مفضوحة.

قد تكون دروسنا مضيعة للوقت؛ لكنها تمت وَفق برنامج صارم، حيث نستيقظ عند الفجر للصلاة ثم نبدأ دروسنا التي تستمر حتى الظهر وتليها استراحة الغداء وقيلولة قصيرة قبل استئناف الدروس حتى العشاء. تهدف الدورة إلى الحصول على الدبلوم الذي كان مقدمة لدورة “الحوزة الشيعية” التي تتم باللغة الفارسية، وتستمر لأربع سنوات تصبح في نهايتها شيخاً.
لم أكن مستعداً لهذا القدر من الملل ومن ازدواجية التفكير بين مجموعة من المعتقدات السائدة ومعتقداتي الخاصة. ويمكنني أن أستعرض محتوى كل فصل دراسي في مقال كامل؛ ولكنني سأصل مباشرة إلى الخلاصة المهمة ومفادها أن هذه الدورة منحتني رؤية فريدة حول كيفية إدراك الجمهورية الإسلامية لنفسها ونظرتها إلى العالم. وكشخص كان يتوقع الانخراط في مدرسة دينية وجدت نفسي أتعرض إلى عملية غسيل دماغ. في الواقع شعرت وكأنهم يعلموننا أن المظاهر فقط هي المهمة. على سبيل المثال، في فصل الشريعة الإسلامية، تعلمت كيف يمكنك استئجار خدمات العاملات بالجنس تحت غطاء “الزواج المؤقت” أو ما يُسمى “زواج المتعة” مقابل مبلغ من المال هو “المهر” الذي يدفع مقابل هذه الخدمة. ومع ذلك، كان الأساتذة يحذروننا باستمرار من التورط مع النساء الإيرانيات، ويصفونهن بأنهن لا يحتملن، وأن الأمر سيكون كارثياً. شعرت بنوع من الاستياء؛ لأن الأساتذة أنفسهم لم يمتنعوا عن المغازلة والزواج من نساء أجنبيات اعتنقن الإسلام ويدرسن في الجامعة على الرغم من عزلهن عن الرجال. كان ذلك نفاقاً واضحاً. وفي إحدى المحاضرات أشار أحد الأساتذة إلى ما سماه “الحياة الجنسية المنفلتة” في أمريكا اللاتينية، وأن “أحداً لا يعرف مَن هو حقاً ابن مَن أو ابنة مَن”. وعندما واجهته بخطأ ما يقول تظاهر بأنني أسأت فهمه، ومنذ ذلك اليوم أصبحت عدوه الشخصي.
اقرأ أيضاً: 40 سنة على الثورة الإسلامية: كيف يعيش الشعب الإيراني تحت حكم ولاية الفقيه؟
جزء كبير من مقرر التاريخ الإسلامي كان عبارة عن كتب تحريضية على “الأخ الخصم” أو بعبارة أخرى “المسلمين السُّنة”. كان هذا صادماً بالنسبة إليَّ؛ لتناقضه مع الموقف الإيراني الرسمي الذي يحتفي بالوحدة الإسلامية. وبدلاً من ذلك، شملت كل الصفوف الاستهزاء بالخلفاء الأوائل وبشخصيات إسلامية مبجلة؛ مثل الإمام “أبي حنيفة”. كان الأمر مؤلماً بالنسبة إلى شخص مثلي تعرَّف على الإسلام من خلال تعليم سُني. وتعارضت مظاهر الكراهية المستمرة مع كل ما أعرفه عن القرآن، وأصبح حضور الدروس اليومية والاستماع إلى الكراهية المنظمة أمراً مرهقاً للغاية بالنسبة إليَّ. أما الأمر الأكثر إثارةً للصدمة، فهو الهجوم الشرس على التصوف، الذي يرون أنه يهدف إلى “حجب نور الإسلام الحقيقي” (الذي يمثله بالطبع أئمة الشيعة) وإعطاء الجماهير “روحانية مزيفة”؛ حتى يطيعوا الحكام السُّنة. كان من الواضح تماماً أن الهدف هو تلقيننا أفكاراً لنصبح جنوداً طائفيين صغاراً.
تصادمت دوماً مع المدرسين؛ لا سيما عندما يخطئون في توصيف ما أعرفه عن حقيقة المعتقدات السُّنية. وخلال الدروس حاول أحد المدرسين إقناعي بأن حبي للصحابة يتعارض مع حبي لأهل بيت النبي، وبأني كي أحب أهل البيت لا بد لي من أن أرفض الصحابة الذين آذوهم. هذه النقطة بالذات اعتبرتها القشة التي قصمت ظهر البعير وأدت إلى ابتعادي تماماً عن المذهب الشيعي.
شملت الدورة مقرراً أيديولوجياً أكثر انفتاحاً؛ وهو تاريخ الثورة الإسلامية في إيران، يدرس هذا المقرر أقدم باحث في الجامعة. عرف هذا الأستاذ الخميني شخصياً، لذلك كانت محاضراته في الغالب عبارة عن تمجيد لرجل الدين الراحل واستعراض للأيام المظلمة تحت حكم الشاه، ولأمجاد الثورة الإسلامية والحرب مع العراق في الثمانينيات. وبما أن هذا الموضع يتطرق إلى الخميني، لم يكن هناك من مجال للنقاش النقدي على الإطلاق.
سمعنا مئات الحكايات عن الخميني وكيف عاش حياة متواضعة كرسها للصلاة وحب البشرية جمعاء. تعلمنا كل شيء عن حياته وعائلته ومعجزاته المختلفة. ودار باقي المقرر حول مدى تقدم إيران في مجال حقوق المرأة والأقليات ومكانتها الرائدة عالمياً في مجالات العلوم والفنون والسلام. لقد كان بمثابة إعلان دعائي مطول يفتقد الحقائق الملموسة.
أما المقرر الأخير في دراستنا فسُمى “أصول وحقيقة الصهيونية”، وكان محيراً بالنسبة إليَّ. اعتقدت بأننا سنبدأ بدراسة الأب المؤسس للصهيونية، تيودور هرتزل؛ ولكن كان ذلك “سذاجة منِّي”، فقد تبين أن الصهيونية لم تبدأ في القرن التاسع عشر في أوروبا؛ بل منذ زمن الفراعنة في مصر القديمة، فالصهاينة الأوائل هم رجال الدين لدى فرعون الذين تآمروا على النبي موسى. ونادراً ما تم ذكر فلسطين في هذه الرواية التآمرية التي امتدت على مدى 3000 سنة أو أكثر كان خلالها الصهاينة يخضعون البشرية. ومن وجهة النظر هذه فقد كانت فلسطين مجرد خطوة للهيمنة على العالم.

إلى جانب كاميرات المراقبة التي وجدت في كل مكان، اكتشفت في وقت لاحق وجود منظومة مراقبة أكثر انحرافاً وتطفلاً؛ حيث يلتقط مجموعة من الطلاب صوراً لنا، وسجلوا محادثاتنا، وكانوا يتسكعون حولنا ليستمعوا إلى ما نقوله. وقد خلقوا جواً قمعياً للغاية في حياتنا اليومية. كان خامنئي أكبر المحرمات. كان يمكننا أن ننتقد بعض ما نراه حولنا؛ ولكن ليس خامنئي على الإطلاق. وكان غريباً رؤية صوره المنتشرة في كل مكان على الطريقة الأورويلية [نسبة إلى رواية جورج أورويل، 1984- المترجم] دون أن تكون قادراً على انتقاده. وسرعان ما أدركت أنه ينبغي الاحتفاظ بآرائي لنفسي. ولكن على الرغم من ذلك، وبسبب تعاطفي مع الإسلام السُّني، أصبحت معروفاً باسم “السُّني” بين الطلاب. وبدأ الآخرون يتجنبونني، وكان الجواسيس يحصون عليَّ أنفاسي، ووصل الأمر إلى الضغط عليَّ للاعتراف بأنني سُني متخفٍّ. وصل الأمر إلى أن أصبح روتيناً يومياً؛ مما أثار مخاوفي لعلمي بأن رجال الدين في إيران لديهم سلطة قانونية علينا. بدأت أشعر بالقلق وأتساءل عما إذا كنت سأدخل السجن أو إذا ما كنت سأتمكن حتى من مغادرة إيران.
لم أكن سُنياً، ولم أعبر عن وجهات النظر السُّنية؛ ولكن مجرد إظهار الشك حول أجزاء معينة من التاريخ الإسلامي والطريقة التي يتم بها نقل هذا التاريخ كان كافياً ليجعلني عدواً. لقد صدمتني حقاً هذه الكراهية الدينية. ومع أن هذه الكراهية جاءت غالباً من شيخ واحد، فإن أحداً من المدرسين الآخرين لم ينتقده أو يخطئه. وكان ذلك بحد ذاته إشكالية كبيرة.
وفي أحد الفصول اعترف المدرس أن الغاية من هذه الدورة هي تحديد “المؤمنين الحقيقيين” والتخلص من البقية. وقال إن 80% من الطلاب سيتركون الإسلام بعد عودتهم إلى بلادهم. ومن المنطقي في هذه الحالة أن يتم إيقاف هذه الدورة بعد العام الأول؛ لأنها أدت إلى نتائج عكسية. ولكن يبدو أن تصدير النموذج الخميني أكثر أهمية بالنسبة إليهم من الإسلام نفسه. وذات مرة، قال لي الشيخ ذو اللحية الرمادية: إن رجال الدين عندما يذهبون إلى طهران يتنكرون بالزي المدني؛ خوفاً من أن يتم رميهم بالحجارة.
اقرأ أيضاً: إيران تهدد الأمن القومي لألمانيا عبر حملات لنشر التشيع
ومع اقتراب الدورة من نهايتها، بدأت في التمرد أكثر فأكثر. ربما كنت أتطلع دون وعي إلى الفصل والخروج من هذا المكان بأقرب وقت. في الامتحان النهائي استخدمت عبارة الاحترام السُّنية [رضي الله عنه] التي تتبع اسم الخليفة الثاني عمر بن الخطاب. وبعد تقديم مقالتي أدركت خطورة ما فعلته وشعرت بالخوف من عواقب هذا التمرد الطفولي، وتساءلت ما إذا كان سينتهي بي المطاف في السجن أو القبر. جاء يوم النتيجة، واجتزنا جميعاً بدرجات ممتازة. كان واضحاً أنهم لم يقرؤوا مقالاتنا. أعطونا شهادات وتخرجنا رسمياً في المدرسة الدينية. وفي اليوم التالي اتصلوا بي من مكتب الشيخ ذي العمامة البيضاء. كنت على استعداد لتلقي التوبيخ أو العقاب؛ ولكنهم عرضوا عليَّ منصب مدير مركز إسلامي في بلدي، وقالوا إنهم سيتكفلون بكل التكاليف، وإنني سأتلقى راتبي منهم مباشرة. شكرتهم من باب اللياقة وغادرت.
شعرت أن المسعى كله لا طائل من ورائه، ولكنه انتهى أخيراً. أعادوا إليَّ جوازي، وفي منتصف الليل نقلوني إلى طهران. كانت لحظة خروجي من الجامعة لحظة اندفاع نحو الحرية، مع أنني كنت لا أزال في نفس البلد وأشاهد في كل مكان نفس الدعاية التي تذكرني بسيطرة النظام والميليشيات التي تحرس الثكنات بالبنادق الرشاشة حتى في قلب العاصمة.
ما رأيته في طهران أكد لي ما قاله الشيخ ذو اللحية الرمادية عن كراهية الناس لرجال الدين التي تتجلى أحياناً في كراهية الإسلام نفسه. ففي طهران لا يُرفع الأذان من خلال مكبرات الصوت؛ لأن الجيران يشتكون من الضجيج، والمساجد غالباً ما تكون شبه فارغة. وعند زيارتي إلى مدينة شيراز، وبينما كنت أتجول في إحدى أسواقها الشعبية سألني أحد الباعة من أين أنت؟ ولماذا اعتنقت الإسلام؟ وصرخ بصوت مرتفع أنت تريد الإسلام ونحن نريد التخلي عنه. صرخ بصوت مرتفع وباللغة الإنجليزية، وهو يعلم تماماً أن شرطة الأخلاق لم تكن بعيدة.
يمكنني أن أقول بثقة إنني خلال الأشهر الثلاثة التي قضيتها في إيران في الدراسة والتجول لم أقابل أي شخص (باستثناء موظفي الجامعة) أظهر أي شكل من أشكال الدعم للنظام. ونفس الأشخاص الذين أطاحوا بالشاه قبل ثلاثين عاماً وهم يصيحون “الله أكبر” أصبحوا الآن لا يكترثون للدين إلى درجة لا تصدق، بل إنهم أصبحوا معادين للدين.
لقد كتبت هذا المقال تحت اسم مستعار؛ لخشيتي من العواقب المحتملة، لقد هزتني هذه التجربة في الصميم، ولم تعِد تشكيل قيمي السياسية الأساسية فحسب؛ بل أيضاً معتقداتي الروحية. لقد أفقدتني ذلك النوع من البراءة الدينية التي غلباً ما يظهرها معتنقو الإسلام خلال سنواتهم الأولى. الحمد لله أنا ما زلت مسلماً، على عكس عديد ممن مروا بهذه التجربة؛ ولكن بعض جوانب إيماني لا تزال تحت ستار من الشك المشروع. وقد أدركت أنه يمكنني ببساطة أخذ الخير وترك الشر أينما واجهته بدلاً من الضياع في سوق الحقائق المتنافسة.
♦اسم مستعار لكاتب من أمريكا اللاتينية اعتنق الإسلام، ويرغب في عدم الكشف عن هويته؛ لأسباب أمنية.
المصدر: نيو لاينز ماغازين