الواجهة الرئيسيةثقافة ومعرفةشؤون عربية

سمير أمين: من نقد الرأسمالية إلى تعرية الإسلام السياسي

قراءة في أطروحات المفكر المصري الراحل

خاص كيو بوست – رشيد العزوزي

جسد سمير أمين موقفه من الليبرالية في نظريته الاقتصادية “المركز والأطراف”؛ إذ بين فيها هيمنة دول الشمال الصناعية المرتبطة فيما بينها بتحالفات إستراتيجية معولمة، تضمن لها السيطرة على باقي دول العالم، بشكل يحول دون ولوج تلك الدول إلى نادي الكبار، لأن منطق تراكم رأس المال لا يسمح لها باللحاق، نظرًا لارتباط الرأسمالية بالإمبريالية المتوحشة دوليًا، وظاهرة الإسلام السياسي عربيًا.

اقرأ أيضًا: هكذا استغلت جماعات الإسلام السياسي منابر المساجد

 

الإسلام السياسي وجه آخر لليبرالية المتوحشة

لا بد من الإشارة منذ البداية إلى أن المفكر المصري سمير أمين (3 سبتمبر/أيلول 1931 – 12 أغسطس/آب 2018) عندما يتحدث عن الإسلام السياسي، لا يفرق بين أحزاب معتدلة وأخرى متطرفة، بما أنهما يلتقيان في الجوهر والهدف الذي يسعيان إلى تحقيقه في المحصلة، وحتى وإن وقفنا على بعض التمايزات على مستوى الآليات والوسائل،  فإن الطرفين يتكاملان أكثر من كونهما يتناقضان.

في الملحق السادس من كتابه “ما بعد الرأسمالية المتهالكة“، تحت عنوان “الإسلام السياسي”، نجد مادة على درجة كبيرة من الأهمية، أرجع فيها أمين “اختراع الإسلام السياسي الحديث إلى الهند على يد المستشرقين، لخدمة السلطة البريطانية، ليتبناه ويبشر به المودودي الباكستاني، بهدف “إثبات أن المسلم المؤمن بالإسلام لا يستطيع العيش في دولة غير إسلامية، لأن الإسلام لا يعترف بالفصل بين الدين والدولة حسب زعمهم. وهكذا تبنى أبو الأعلى المودودي فكرة الحاكمية لله، رافضًا فكرة المواطن الذي يسن التشريعات لنفسه، وأن الدولة عليها أن تطبق القانون الساري إلى الأبد – “الشريعة”، محاولًا بذلك استنبات أصولية إسلامية في بيئة لا تقبلها.

اقرأ أيضًا: علاقة الإسلام السياسي بالديمقراطية: تنافر في مصر، ومحاولات بائسة في تونس

ورغم أن سمير أمين مطلع على التاريخ، وله تصور خاص به، شيده من خلال مفهومين محددين هما: أنماط الإنتاج، والتشكيلات الاجتماعية -بعيدًا عن الأساس التعاقبي كما درج على ذلك رفاقه- إلا أنه لم يجد أي امتداد تاريخي لظاهرة الإسلام السياسي في الثقافة العربية، ليعتبره في المحصلة وجهًا من أوجه الليبرالية المتوحشة، “فجميع المذاهب والحركات النشيطة في العالم المعاصر حديثة، لأنها بكل بساطة لا يمكن فصلها عن واقع الرأسمالية، وعليه فكل الظواهر السياسية، والاجتماعية، والثقافية، بل والطوائف والبدع الظاهرة، جميعها حركات مرضية”.

في تقدير مفكرنا الماركسي، ينبني هذا الاستنتاج على تحليل ملموس لواقع ملموس، “يمكن سحبه على الهندوسية السياسية والبوذية السياسية والمسيحية الأصولية الأميركية”، وغيرها من التيارات الراديكالية، التي ما فتئت تقدم إجابات خيالية لا تعتمد على تحديد علمي لطابع التحدي المطروح على الأرض، بقدر ما تروي أوهامًا خطيرة حول قدرتها على تغييره، أما حكاية نجاح بعض هذه الحركات في تعبئة مناضلين من أصول شعبية وفقيرة فلا يعدو أن يكون إلا “دليلًا على نوعية طابعها السياسي” من جهة، وعلى فشل اليسار وعدم قدرته على مواجهة المعسكر الليبرالي الذي تقوده الولايات المتحدة بقوة التكنولوجيا والمال من جهة أخرى. 

وهكذا، لا يتعارض خطاب رأس المال الليبرالي للعولمة مع خطاب الإسلام السياسي، بل هما في الواقع يكملان بعضهما، فالأيديولوجية “الجماعية” على الطريقة الأمريكية، التي يجري الترويج لها حاليًا، تعمل على إخفاء الوعي والصراع الاجتماعي، لتحل محلهما “توافقات” جماعية مزعومة تتجاهل هذا الصراع. وإستراتيجية سيطرة رأس المال تستخدم هذه الأيديولوجية لأنها تنقل الصراع من مجال التناقضات الاجتماعية الحقيقية إلى العالم الخيالي، الذي يوصف بأنه ثقافي مطلق عابر للتاريخ. والإسلام السياسي بنوع من التدقيق هو ظاهرة “ماعية” [مال + صناعة] كما يؤكد سمير.

اقرأ أيضًا: هكذا يتم استخدام الدين في خدمة الأغراض السياسية

 

الإسلام السياسي معيق للتنمية

يجهر أمين بموقفه الرافض للإسلام السياسي على اعتبار أنه معيق للتنمية باختلاف أوجهها، وبين محدوديته في أكثر من مناسبة على المدرجات الجامعية، أو في متن كتبه الأكاديمية التي وصلت الـ30 مؤلفًا على مدار 86 سنة من البحث، جعلت منه واحدًا من أبرز المربين والتنويريين العالميين.

وللتدليل على ذلك قدم سمير 3 نماذج للإسلام السياسي اعتبرها معيقة للتنمية بالضرورة، هي مصر ما بعد مبارك، إضافة إلى النموذج التركي، وإيران الخمينية. فيما يتعلق بالأخيرة، تعيش إيران وضعية اقتصادية متدهورة تحولت معها مخططاتها من رغبة في استنساخ النموذج التنموي الكوري في المنطقة، إلى السقوط في براثن “العالم الرابع”.

ويضيف أن تجاهل الجناح المتشدد في الحكم للمشاكل الاجتماعية التي تواجه الطبقات الشعبية، أدى إلى نجاح من يسمون أنفسهم “معتدلين”، بحكم تبنيهم مشروعًا يمكن أن يخفف من تشدد الديكتاتورية الدينية، ولكن دون التخلي عن مبدئها الأساسي، أي ولاية الفقيه الوارد في الدستور.

اقرأ أيضًا: كيف استنسخت حركات الإسلام السياسي نظرية المؤامرة النازية؟

هذه الدول الثلاث – يقول أمين في حوار صحفي- “تغرق في مشكلات متعددة الأوجه، اقتصادية وسياسية واجتماعية، وكلها معرضة للانفجار في أي لحظة مجددًا؛ فتركيا مثلًا تتأزم فيها العلاقات الكردية التركية، ونظامها الإسلامي يعارض أيديولوجيته الإخوانية قطاع مجتمعي واسع”، كما أثبتت نتائج الانتخابات  الأخيرة التي فاز فيها حزب العدالة والتنمية بفارق بسيط للغاية عن أقرب منافسيه.

 

في العلاقة بين فشل الثورات العربية والإسلاميين

على شاكلة أغلبية الماركسيين، تحفظ الماركسي، الاشتراكي، الشيوعي، الأممي -كما أطلق على نفسه- سمير أمين على تسمية (الربيع العربي) بـ”الثورة” لأن “مفهوم الثورة” في مدرسته أعمق بكثير مما حصل عام 2011. وأوضح فكرته تلك قائلًا: “ما جرى في مصر لم يكن متوقعًا؛ كنت أرصد غليانًا في الشارع توقعت أن يؤدي إلى إصلاحات، لكن الأنظمة لم تلتفت إلى ضرورة الإصلاح، فكانت الثورات. إن ما حدث أكبر من انتفاضة وأقل من ثورة، هو مجرد خطوة ثورية، [تلزمها] خطوات أخرى كي نسمي ما جرى ثورة”.

والسبب في ذلك يرجع حسب مؤلف كتاب “في نقد الخطاب العربي الراهن” إلى عدم تحقق 3 مطالب هي: العدالة الاجتماعية -ولا يحدث ذلك إلا بسياسة اقتصادية مختلفة عما كان سائدًا- وديمقراطية حقيقية للمجتمع -أكثر من مجرد انتخابات؛ بل دمقرطة للعلاقات الاجتماعية في العائلة والعمل- وتحقيق استقلالية للوطن في المنظومة العالمية.

وحمل سكوت الطبقة المثقفة المسؤولية التاريخية في ذلك، منبهًا الجميع إلى رفضه التحالف مع المتطرفين، وملمحًا إلى خطورة التعاون مع السلطات القمعية، مقترحًا حلًا وحيدًا هو “الصراع من أجل ديمقراطية مستقلة عن النمط الأمريكي – ديمقراطية مرتبطة بالمصالح الحيوية للطبقات الاجتماعية، يمثلها مجتمع مدني حقيقي، في إطار علماني، غير ملحد، يلغي استغلال الدين وأي أيديولوجية”. 

كما تأسف سمير أمين لأن الثورة لم تحقّق أيًا من أهدافها حتى الآن، وإن لم يفقد الأمل لأن “الأهداف لا تزال موجودة بقوة في أذهان الشباب. ولاستمرار الثورة، لا بد من تكتل القوى الوطنية الساعية إلى أن تصبح مصر دولة مدنية”، لتكون قوة ضغط قادرة على محاسبة السلطة التشريعية” على حد تعبيره، وهو الأمر الذي يجعل نار الثورة تبقى مشتعلة دومًا.

 

هذا هو الإسلام السياسي.. فما العمل؟

كان أمين صريحًا كعادته، وأكد على ضرورة “دحر أوهام الإسلام السياسي”، معتبرًا هذه العملية شرطًا لإنعاش العقيدة نفسها، إلى جانب إنجاز التقدم في جميع مجالات الحياة الاجتماعية. تلك مسؤولية اليسار التقدمي كما يردد أمين، وهي مسؤولية حاسمة، دون أن يقلل من أهمية النضال في الساحة الأيديولوجية. على أن محور النضال الأساسي كان دومًا بالنسبة لمؤلف “الأمة العربية القومية وصراع الطبقات”، هو الصراع الطبقي على أرضية التحديات الملموسة التي تواجهها الطبقات الشعبية، التي تعاني من الاستغلال والاضطهاد، وهو ما فسره العديد من الباحثين على أنه وفاء من الرجل لأيديولوجيته المتشبعة بالفكر المادي حتى آخر أيام حياته، التي تعتبر الصراع الطبقي محركًا للتاريخ.

ويشير سمير إلى أنه لا يصحّ الجمع السريع بين ظاهرة إسلام الضواحي الشعبية في أوروبا -التي يعرف ثقافتها جيدًا لأنه من أم فرنسية وأب مصري- والولايات المتحدة، وظاهرة الإسلام السياسي في المجتمعات الإسلامية؛ فظاهرة فقراء الضواحي لا تعدو عن كونها انتفاضة مهاجرين فقراء، شأنها شأن احتجاجات اجتماعية أخرى، فهي رد فعل على ممارسات تمييزية لها طابع اجتماعي طبقي قبل أن يكون ثقافيًا.

ومن أجل رفع التحديات المفروضة من طرف دول المركز على الأطراف في إطار “فيروس الرأسمالية والعولمة” -التي قدم نقدًا معمقًا لها نظريًا في كتابه “أزمة الإمبريالية أزمة بنيوية”- طرح بدائل واقعية لتجاوزها من خلال إدارته سنوات طويلة مؤسسات تابعة للأمم المتحدة، في مالي والكونغو ومدغشقر وداكار.

راهنية سمير أمين اليومتوفي إلى رحمة الله عالم الاقتصاد المصري الكبير سمير امين، الذي من الواجب إن أردنا أن نعرف قيمته…

Posted by Mohamed Aballagh on Tuesday, 14 August 2018

ولكسب الرهانات المتعددة في سياقنا الإقليمي، طالب أمين بإعادة قراءة تاريخنا العربي قراءة نقدية، خصوصًا “عصر النهضة العربية” في القرن التاسع عشر، بعيدًا عن أشكال الانغلاق كسبيل للخروج من الانحطاط، والدخول في التحديث، عبر إدراك معاني الدين وجوهر العلمانية، على اعتبار أنها شروط أساسية لقيام نهضة حقيقة متينة، بعيدًا عن ظاهرة الإسلام السياسي.

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

مقالات ذات صلة