الواجهة الرئيسيةشؤون خليجية

سلمان العودة والفكر اليباب (الجزء الثاني)

كيف ساهمت حرب الخليج الثانية وأزمات أخرى في صعود نجم سلمان العودة

كيوبوست

خالد العضاض 

الحلقة الثانية من المراجعات لفكر سلمان العودة ستركز على أزمة الخليج الثانية وصعود تيار الصحوة، وأحداث أخرى أثرت في صعود نجم سلمان العودة  

أزمة الخليج الثانية.. سلم الصعود

انفجرت أزمة الخليج الثانية في 2 أغسطس/آب 1990 بعد اجتياح القوات العراقية لدولة الكويت، وخلال سبعة أشهر بين: 2 أغسطس/آب 1990 وحتى 27 فبراير/شباط 1991، وهي الفترة الزمنية ما بين الاجتياح والتحرير، حدثت هزة فكرية واجتماعية كبيرة في المشهد الاجتماعي السعودي، وغدت مجموعة هائلة من المفاهيم والقيم على المحك؛ إذ ظهر رجوع الكثير من أفراد المجتمع إلى التدين، ونشط دعاة الصحوة في صفوف المشاهير والشباب والفتيات بشكل لافت جدًا، حتى أصبح التدين سمة عامة لمشاهير المجتمع ونجومه من اللاعبين وغيرهم، وكان الحدث الأبرز على الإطلاق هو بزوغ نجم دعاة السرورية ضمن الإهاب العام للصحوة.

طالع الجزء الأول: سلمان العودة والفكر اليباب

أزمة الكويت أبرزت المعارضة الصحوية الكامنة، إذ إن الصف المشيخي السعودي كان يبدو متوحدًا ومتراصًا في ظل زعامة الشيخ عبد العزيز بن باز مفتي عام المملكة العربية السعودية حينئذٍ، ولا تظهر للمراقب البعيد أي فرقة أو انقسام في الصف، على الرغم من إدراك المراقبين القريبين لوجود تمايز واضح وجلي -حتى وإن كان تحت السطح-، وكان لا بد لهذا التمايز أن يظهر على السطح إلا أنه ينتظر حدثًا أو قضية ما، ليطل برأسه،  فجاءت أزمة الكويت لتكون أفضل بيئة، وبقعة ضوء تسلط على هذا التمايز، حيث انقسم الصف المشيخي إلى قسمين أحدهما يمثل كبار المشايخ، والآخر يمثل قيادات الصحوة، كان وكما هو متوقع ذهاب الشيوخ التقليديين، في اتجاه التوجه الحكومي، ولكن الذي لم يكن متوقعًا للمراقب العادي أو رجل الشارع البسيط، هو بزوغ المعارضة السياسية لقيادات الصحوة، من خلال معارضة الحل الحكومي لمعالجة أزمة الخليج الثانية -الاستعانة بالقوات الصديقة لدرء خطر صدام وقواته، وتحرير الكويت، هذه المعارضة أظهرت وجه الصحوة بشكل أكثر وضوحًا، ونقلتها إلى ضفة جديدة هي المعارضة السياسية.

محاضرة وضعت العودة في واجهة الأحداث

برز اسم سلمان العودة، وقفز إلى واجهة الأحداث بمحاضرة ألقاها في بريدة في 7/2/1411 هجرية (29/8/1990)، وكان عنوان المحاضرة: (أسباب سقوط الدول)، وبعد هذه المحاضرة جاءه تنبيه لطيف وودي من أحد رموز الدولة حينها، هو وزير الداخلية الأمير نايف بن عبد العزيز -رحمه الله-، وبعد توقف أسبوعين عاد لدرسه ومنبره من جديد وكأن شيئًا لم يكن!

العودة في إحدى محاضراته في بيته بعد المنع عام 1413

مرت مجموعة أحداث كبيرة كان للعودة فيها كلمة وموقف مؤثر ساهم في صياغة رأي الصحويين وكثير من المتابعين العاديين، من أهم الأحاديث التي صاغ فيها العودة الرأي العام الصحوي، كانت محاضرة في 22/4/1411هـ، بعنوان: (لسنا أغبياء بدرجة كافية)، وكان أبرز ما فيها الحديث حول قيام مجموعة من السيدات السعوديات بقيادة السيارات في مدينة الرياض في السادس من نوفمبر/تشرين الثاني 1990، التي أطلق عليها العودة “مظاهرة”، وقال: (إن الغرض من هذا العمل -المظاهرة النسائية- هو جعل طلبة العلم والعلماء والدعاة في حالة من الارتباك لا يستقر لهم فيها قرار، فما أن يستفيق الواحد منهم من هول خبر إلا يأتيه خبر أهول منه… إلخ).

وكذلك محاضرة ألقيت في: 1/6/1411هـ، بعنوان: (الشريط الإسلامي ما له وما عليه)، وكانت ردًا على مقالات للدكتور غازي القصيبي في صحيفة الشرق الأوسط جاءت نقدًا لأفعال ومقولات الصحويين الذين اجتالوا جزءًا كبيرًا من المجتمع إلى ضفة معاداة الحكومة أو التوجس منها في أقل الأحوال.

استمر الوضع على ما هو عليه حتى بعد تحرير الكويت، ومغادرة القوات الصديقة الأراضي السعودية، في تصاعد منتظم عبر مجموعة كبيرة من المحاضرات والدروس والخطب واللقاءات.

ما بعد تحرير الكويت.. مواصلة الصعود الشعبي

بعد تحرير الكويت، تركزت الأضواء على العودة، وتشكل خطابه وأدوات ذلك الخطاب بشكل واضح، وكان من أهم تلك الأدوات إشراك الكم الهائل من المتواصلين مع العودة عبر الوسائل المتاحة حينها؛ من أهمها التواصل الشخصي أو عن طريق الفاكس، أو المكاتبات أو غيرها، وكان يعرض ما يأتيه أمام الناس في تلك المحاضرات التي يحرص على تسجيلها ونشرها معنونةً مؤرخةً مرقمةً، وقد لاقت تلك المحاضرات انتشارًا واسعًا عبر وسيلة هي الأقوى والأسرع والأكثر فاعلية هي الكاسيت.

ناصر العمر

وأذكر في هذا الصدد أن السمة المنتشرة بين الشباب المتدين هي الاستماع إلى الأشرطة في السيارة، حيث يمضي الشاب ساعات يجوب خلالها الطرقات للانتهاء مما لديه من حصيلة كاسيتات، التي كانت تأتي على النحو التالي: محاضرة الشيخ سلمان العودة، والأسئلة والأجوبة على درس العقيدة الطحاوية للشيخ سفر الحوالي، وخطبة الجمعة للشيخ عبد الوهاب الطريري، والجديد من محاضرات كل من الشيخ عائض القرني والشيخ ناصر العمر، ومشايخ آخرين مثل سعيد بن مسفر وسعد البريك وعوض القرني وغيرهم، لكن الوجبة الرئيسة هم المشايخ الثلاثة: الأول مع ناصر العمر وعائض القرني، وعلى كلٍ كانت سمة تلك السُنيات الالتصاق بالكاسيت كموجه أول.

الصحوة وتحولٌ إلى لغة الخطابات والمطالب ثم العمل المؤسسي

في بداية الأمر وقبل نهاية أزمة الخليج الثانية، قام أحد رموز الصحوة -هو الدكتور عبد الله بن حمود التويجري- بإعداد رسالة على هيئة نصيحة شخصية، مقدمة للملك فهد -رحمه الله- حينها، واستطاع التويجري إقناع ما يربو على المئتين من المشايخ والدعاة والأكاديميين بالتوقيع عليها وسلمها للحكومة، وكانت المطالب في الخطاب عبارة عن إصلاحات في الجيش والاقتصاد والتعليم والصحة والخدمات.

خطاب شوال (أو خطاب المطالب/وثيقة شوال)

سعد الفقيه

وبناء على تجربة التويجري، فكرت مجموعة من أساتذة جامعة الملك سعود -ستعرف لاحقًا باسم لجام أو لجنة الجامعة- على رأسهم الدكتور محسن العواجي والدكتور خالد الحميضي والدكتور سعد الفقيه والدكتور محمد الحضيف وغيرهم، بكتابة خطاب أدق وأشمل وأعمق، وتطلب هذه الأمر عقد لقاءات طويلة زادت عن العشرين لقاءً، بحثت هذه اللقاءات عن وسيلة فعالة تناسب الظروف والمعطيات وتحقق الأهداف، واستعرضت كل تجارب حركات التغيير الصحوية في السعودية من المحاضرة إلى الشريط إلى التجمعات والمسيرات، واستقر الرأي في النهاية على الخطاب المكتوب الموَّقع من شريحة واسعة من الصحويين وغيرهم.

اقرأ أيضًا: سلمان العودة والفكر اليباب – الجزء الثالث

تمت صياغة الخطاب قبل رمضان من عام 1411هـ، و كان أول الموقعين على الخطاب الشيخ حمود بن عبد الله التويجري، ثم وقع بعده الشيخ عبد الله بن جبرين، والشيخ عبد المحسن العبيكان، وعدد من مشايخ الرياض، ثم انتقل الخطاب إلى مكة، حيث وقع عليه الشيخ سفر الحوالي والشيخ محمد بن سعيد القحطاني، وغيرهم.

سفر الحوالي

وبعد ذلك ارتحل الخطاب إلى القصيم حيث وقع عليه الشيخ سلمان العودة، والشيخ عبد الله الجلالي، ومشايخ القصيم، ثم إلى المنطقة الشرقية حيث وقع عليه الشيخ محمد الشيحة وعدد من القضاة والمشايخ في المنطقة الشرقية، ثم إلى المدينة المنورة وإلى المنطقة الجنوبية حيث وقع عليه المشايخ هناك، بعد ذلك عاد الخطاب إلى الرياض واستكملت التواقيع من قبل عدد من المشايخ وأساتذة الجامعات والشخصيات الإسلامية، وكان من أبرز ما أفرزه العمل على هذا الخطاب هو جمع أطياف الصحوة والتنسيق فيما بينها للعمل المشترك، بلغ المجموع الكلي للتوقيعات حوالي 400 توقيع. وبعد استكمال التوقيعات، نجحت المجموعة المعدة للخطاب في الحصول على تزكية من الشيخ ابن باز للخطاب، وشجع ذلك الشيخ ابن عثيمين على كتابة خطاب تأييد لما قاله الشيخ ابن باز عن الخطاب.

قُرِرَ أن ترسل النسخة الأصلية للملك فهد، ونسخة لكل من: ولي العهد الأمير عبد الله، والأمير سلطان، والأمير نايف -رحمهم الله جميعًا- وأخرى للأمير سلمان -حفظه الله-.

وفي العشرين من شوال سُلم الخطاب للديوان الملكي في جدة، عن طريق وفد مكَّون من: الشيخ عبد المحسن العبيكان والشيخ عبد الله التويجري والشيخ عبد الله بن جبرين والشيخ سعيد بن زعير، ثم بعد ذلك سلمت النسخ الأخرى للأشخاص المحددين.

مطالبة بعودة خطيب جمعة تطورت إلى كتابة مذكرة النصيحة

بعض تواقيع مذكرة النصيحة

بعد أسابيع عدة من تسليم خطاب المطالب، حدثت مجموعة أحداث في سكن جامعة الملك سعود بالرياض، وجامع السكن، وكانت عبارة عن خطبة متجاوزة أعقبها منع الخطيب في الجمعة التالية، فقام ما سمي حينها بمهرجان الجامعة وهي كلمات عدة ألقاها صحويو الجامعة من الإخوان تحديدًا، بعد صلاة الجمعة عندما رأوا أن خطيبهم قد منع. وعبَّر المتكلمون عن انزعاجهم من هذا المنع واعتراضهم على معاملة أساتذة الجامعات معاملةً غير لائقة، وطالب المتكلمون بضرورة تكوين وفد من المصلين يقابل المسؤولين ويعبر عن رفضه لتلك التصرفات، وبادر أحد المتكلمين، وطلب من المصلين تكوين لجنة لدراسة القضية ومناقشتها مع الجهات المختصة، وتم ذلك في الوقت نفسه حيث انتخب من بين المصلين 12 أستاذًا من أساتذة الجامعة، وأصبحوا أعضاء في لجنة المطالبة بعودة الخطيب.

وباشرت اللجنة عملها فورًا، واجتمعت في المسجد نفسه بعد ذلك المهرجان، وانتخبت مقررًا وأعدت جدول أعمال لمتابعة القضية، وكلفت أعضاءها بمهمات للقاء القادم، وحاولت اللجنة لقاء بعض المسؤولين الكبار، ولم تفلح، ثم لجأت لمقابلة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله-، وبعد لقاء الشيخ اجتمعت اللجنة وقررت توسيع مهمتها من مجرد المطالبة بعودة الخطيب إلى مجموعة مطالب شاملة للإصلاح، وقررت تلك اللجنة أن ترتب المطالب وتناقش مع الشيخ بطريقة أشمل من مجرد المطالبة بعودة خطيب مفصول، فكان اللقاء الثاني مع الشيخ قبيل رمضان من عام 1411هـ، وكان اللقاء بمثابة استعراض لأوضاع البلد من وجهة نظر هؤلاء الصحويين.

اقرأ أيضًا: سلمان العودة والفكر اليباب – الجزء الرابع

فكان ابن باز كلما حدثوه عن قضية طلب منهم الكتابة حولها حتى يتبنى الأمر بإيصاله إلى الملك أو المسؤولين، وبعد أن كرر الشيخ طلبه ذلك اقترحوا عليه أن يجعلوا الكتابة مرة واحدة تكون شاملة لكل تلك القضايا المطروحة، وأيد ابن باز ذلك.

كيو بوستس

تكفَّل عدد من أعضاء اللجنة لإعداد مسوّدة كاملة عن أوضاع البلد وعرضها على اللجنة خلال أسبوع، ومضى الأسبوع وكانت المسوّدة جاهزة، وبعد مداولتها وصلوا إلى قناعة بضرورة تطوير الفكرة وتحويل تلك المسوّدة إلى مذكرة جامعة عن أحوال البلد، وكلفت من أعضائها مجموعات فرعية للكتابة التفصيلية في الأبواب التي تطرقت إليها المسوّدة، وتقرر أن يكون كل لقاء من لقاءات اللجنة -التي أصبحت لقاءات منتظمة كل أسبوع- مخصصًا لمراجعة أحد الأبواب.

وفي أحد الاجتماعات في منتصف رمضان، قرر الأعضاء مراجعة دور اللجنة التي تجاوزت عمليًا دورها للمطالبة بإعادة الخطيب المفصول، وقررت اللجنة تحديد إطار لعملها وبرنامجها. وفي لقاء اللجنة التالي، تقرر أن تهتم اللجنة بشؤون الإصلاح على مستوى الجامعة والمجتمع، وتهتم كذلك بمناصحة الدولة، وسميت بناءً على هذا الأساس “لجنة الجامعة للإصلاح والمناصحة”، واختصر الاسم بعد ذلك بعبارة “لجام”. استمرت لقاءات “لجام” بعد ذلك في مراجعة ما تم إعداده من مادة المذكرة إلى نهاية شوال، حيث أعدت من خلال تلك المراجعة المسوّدة الثانية للمذكرة التي تشبه إلى حد كبير الشكل النهائي للمذكرة.

سلمان العودة وعبد الله بن جبرين

بعد أن أعدت المسوّدة، تقرر توزيعها على عدد محدود من الدعاة لمراجعتها وتقريظها، وكان من أبرزهم الدكتور سلمان العودة، والدكتور سفر الحوالي، والشيخ عبد الله الجلالي، والشيخ عبد الله الجبرين، الذين أيَّدوا ما كتب فيها، وتبين من خلال تلك المراجعة أن المذكرة جاهزة لعرضها للتوقيع.

بعدها ثار جدلٌ طويلٌ استغرق أسابيع عدة حول المضي قدمًا في مشروع المذكرة، أو التوقف، واضطر بعض الموقعين أن يسحبوا أسماءهم، بسبب بعض الخلافات حول ما ورد في المذكرة، غير أنه تم تجاوز هذا الإشكال بتوجيه المذكرة للشيخ ابن باز لمراجعتها، ورفع ما يقره منها للملك، وبذلك يكون الذين أعدوا المذكرة غير مسؤولين عما لا يقره ابن باز، كما تم تنفيذ اقتراح آخر هو إجراء مراجعة أخيرة من قبل اثنين من أكثر المشايخ دقة وحذرًا هما الشيخ عبد الله التويجري، والشيخ عبد الرحمن البراك، ونجح كل ذلك، وأعدت المذكرة بشكلها النهائي بعد أن جمع لها أكثر من مئة توقيع من المشايخ وأساتذة الجامعات، وطبعت المذكرة، وكتب على غلافها: “مذكرة النصيحة”، وحملها وفد مكَّون من ثلاثة من المشايخ وأساتذة الجامعات إلى الطائف حيث مقر الشيخ ابن باز وقتها.

اقرأ أيضًا: سلمان العودة والفكر اليباب – الجزء الخامس

سارت الأحداث على غير ما توقع أصحاب المذكرة، إذ نُشِرت المذكرة كاملةً وبتواقيعها بعد ثلاثة أسابيع تقريبًا من تسليمها لابن باز، وذلك في جريدة المحرر الباريسية، فقامت هيئة كبار العلماء بإصدار بيان شديد اللهجة انتقد فيه المذكرة، واتهم الذين أعدّوها بسوء النية، وقصد التشهير وكشف العيوب، وكان بيان الهيئة فرصة لأصحاب المذكرة لنشرها علنًا؛ فمجرد توزيع المذكرة ونشرها بمثابة الرد الهازئ ببيان هيئة كبار العلماء، ولكنَّ أصحاب المذكرة لم يكفهم ذلك بل أعدّوا ردًا خاصًا على البيان موجهًا لهيئة كبار العلماء بشكل مباشر، وكان الرد مكونًا من صفحتين، ووقع عليه ثلاثة من المشايخ هم: الشيخ حمود العقلا، والشيخ عبد الله المسعري، والشيخ عبد الله بن جبرين، وسُلم الخطاب لأعضاء هيئة كبار العلماء، وانتشر بعد ذلك بين أيدي الناس.

لقد كان مشروع المذكرة أهم مشاريع الصحوة -في نظري- لأنه نقلها بقوة إلى ضفة المعارضة السياسية.

لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية

بعد مذكرة النصيحة، كان أهم الأحداث: إنشاء ما سمي “لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية”، في ذي القعدة من عام 1413هـ، الموافق مايو/أيار 1993.

جامع بريدة الكبير قبل بنائه من جديد على نفقة الملك فهد -رحمه الله- حيث كان العودة يلقي درسه الأسبوعي كل أحد

وكان أول باعث مباشر على التفكير بتأسيس اللجنة ما حدث في رجب من عام 1413هـ، الموافق ديسمبر/كانون الأول 1992 -أي بعد تسليم مذكرة النصيحة بسبعة أشهر- وذلك حين تم إيقاف الشيخ إبراهيم الدبيان من طلبة العلم في بريدة، الذي اجتمع على أثره، في لقاء موسع في منزل الدكتور حمد الصليفيح، ما يقارب الأربعين من الدعاة وأساتذة الجامعة، وكان ذلك في شهر رجب 1413هـ، الموافق مايو/أيار 1992. وفي هذا اللقاء، طرحت قضية إيقاف الدبيان، واعتبر المجتمعون أن إيقاف الدبيان فرصة مواتية لطرح قضية إيجاد تجمّع يسعى لرفع الظلم والدفاع عن المظلومين، واقترح هؤلاء تكليف شخص أو مجموعة أشخاص بإعداد ورقة عمل عن كيفية إنشاء هذه المجموعة.

وفيما تم هذا اللقاء بذلك الأسلوب الجماعي شبه المعلن، تبنت المجموعة التي نفذت مشروع خطاب المطالب، ومذكرة النصيحة، مواجهة الجميع بالأمر الواقع بطريقة مشابهة للتجربتين السابقتين، وتبين لدى تلك المجموعة أن محور القضية هو في كيفية صياغة وثيقة تكون معبّرة عن مهمة ذلك التجمع الساعي لرفع الظلم، فإذا ما وفقت في صياغة تلك الوثيقة، فإنه يمكن إقناع عدد من الرموز المؤثرة في تبني تلك الوثيقة، واعتبار أنفسهم من الداعين إليها والمتكفلين بمسؤولية ما جاء فيها، ورأت تلك المجموعة أن هذا الأسلوب أكثر واقعية وأدعى للنجاح من أسلوب الاجتماعات المتتالية لأعداد كبيرة وطرح أوراق عمل.

البيان التأسيسي للجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية

أُعدت الوثيقة وتم الاستعانة بعدد من المختصين، وأصبحت هذه الوثيقة فيما بعد البيان التأسيسي للجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية، وجاء فيها حث على من يريد لمظلمته أن ترفع أن يكتب أو يتصل أو يقابل الموقعين على تلك الوثيقة، وحين تم الانتهاء من الصياغة وقع الاختيار على ستة أشخاص يفاتحون بهذا المشروع وطبعت تلك الأسماء مع الوثيقة، وبدأت فورًا عملية إقناع أولئك الستة بالتوقيع، فوافق أربعة من الستة على التوقيع دون تردد، وهم: الشيخ عبد الله المسعري، والشيخ عبد الله التويجري، والشيخ عبد الله بن جبرين، والشيخ سليمان الرشودي، ولم يتمكن معدو الوثيقة من مقابلة الشيخين الآخرين لأنهما من خارج الرياض.

أثناء محاضرة لسلمان العودة في الولايات المتحدة

وفيما كان الجميع متحمسًا لاستمرار العمل في كلا المسارين، المسار العام المفتوح من خلال لقاء الدكتور الصليفيح، والخاص السري من خلال الوثيقة المذكورة، وحينما أطلق سراح الدبيان، وتناقل الجميع خبر إطلاق سراحه، قل الحماس للفكرة نوعًا ما، ومضى رمضان من ذلك العام 1413 دون حوادث هامة، ولكن لم ينتصف شوال إلا وقد تم إيقاف الشيخ الدبيان مرة أخرى فكان ذلك داعيًا قوًيا لتجديد العمل على الفكرتين، فتم ترتيب لقاء آخر في منزل الدكتور عبد الله الحامد شارك فيه معظم الذين شاركوا في اللقاء الأول، وكان ذلك في أواخر شوال عام 1413، الموافق أبريل/نيسان 1992، وفي ذلك اللقاء تم الاتفاق على إنشاء مجموعة باسم “لجنة النصرة والحقوق”، وكُلف اثنان من الحاضرين بإعداد لائحة تفصيلية لتلك اللجنة واقتراح الشكل المناسب لتبني مجموعة معينة لهذا العمل، وانفض الاجتماع على هذا الأساس من أجل اللقاء خلال أسبوع، أعيد النظر في الاسمين اللذين لم يتمكنا من التوقيع، واستبدلا باسمين آخرين هما الدكتور حمد الصليفيح، والدكتور عبد الله الحامد، اللذين لم يترددا في التوقيع فور عرض الوثيقة عليهما، فاجتمع في تلك الوثيقة ستة توقيعات كاملة، وتم ذلك بعد الاجتماع الأخير الذي تقرر فيه إعداد لائحة “للجنة النصرة والحقوق”.

حضر الجميع إلى لقاء في منزل الأستاذ عبد الله الحامد في مطلع ذي القعدة 1413 (مايو/أيار 1993) لمناقشة لائحة “لجنة النصرة والحقوق”، وحضرت معهم المجموعة التي أعدت وثيقة الأسماء الستة، وبعد أن عرضت اللائحة المقترحة للجنة النصرة والحقوق، وبدأ نقاش كيفية تبنيها في مجموعة بأسماء معلنة، كانت الفرصة مواتية لعرض الوثيقة الثانية كإثبات بأن هناك ستة من القياديين قد وقعوا فعلًا على تبني هذا المشروع علنًا، ولم يكن هناك خيار للمجتمعين إلا تأكيد تلك الخطوة والإعجاب بشجاعة أولئك الستة، واعتبار ذلك الاجتماع دعمًا لمشروع تلك الوثيقة، وانفض الاجتماع على أساس تأييد نشر تلك الوثيقة.

كان رأي معدي الوثيقة أنها غير صالحة للنشر دون اختيار اسم لتلك المؤسسة أو المجموعة ووضعه في رأس الوثيقة، وبعد استشارات وقع اختيارهم على اسم “لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية”.

اقرأ أيضًا: خبراء يشرحون: إلى أين انتهى تيار الصحوة في السعودية؟

الاستعانة بـ مجموعة”ليبرتي” في بريطانيا

تم التنسيق مع إحدى المنظمات الحقوقية في لندن، هي مجموعة “ليبرتي” التي يقودها الإخواني الفلسطيني عزام التميمي، القريب من محمد سرور بن نايف زين العابدين.

محمد المسعري

قامت هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) بعد استلامها الخبر بالاتصال بالهاتف الوارد في البيان، وهو هاتف أمين اللجنة الشيخ عبد الله المسعري، لإجراء مقابلة مع الشيخ لكونه أمين اللجنة، ولعدم اتقان الشيخ عبد الله المسعري للغة الإنجليزية أحالهم إلى ابنه الدكتور محمد المسعري، إذ تمت المقابلة مع الدكتور محمد بصفته متحدثًا باسم والده في ذلك اليوم، وكانت المقابلة باللغة الإنجليزية، وترجمت إلى اللغة العربية في إذاعة لندن العربية، وكان هذا أول دخول للدكتور محمد المسعري على خط الصحوة، وهو المنتمي لأفكار حزب التحرير. بعد ذلك، دعا الشيخ عبد الله المسعري إلى اجتماع لأعضاء اللجنة الستة، وشرح لهم قصة مشاركة الدكتور محمد في اللقاء، ووافق الجميع على اقتراحٍ بتعيينه ناطقًا رسميًا باسم لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية.

كانت أول ردة فعل رسمية معلنة هي إصدار بيان من قبل هيئة كبار العلماء في يوم الإثنين 20 ذي القعدة 1413هـ، الموافق 11 من مايو/أيار 1993، حيث أكّد البيان الذي صدر بإجماع أعضاء الهيئة أن إنشاء هذه اللجنة غير مشروع، ولا يجوز قيام أي كيان مهما كان إلا بإذنٍ من ولي الأمر، وأن الذين أقدموا على ذلك يستحقون العقاب.

بعد بيان هيئة كبار العلماء، تم فصل كل من الدكتور محمد المسعري، والدكتور حمد الصليفيح، والدكتور عبد الله التويجري، والدكتور عبد الله الحامد من وظائفهم، وإقفال مكاتب المحاماة لكل من الشيخ عبد الله المسعري والشيخ سليمان الرشودي، بعدها بأيام تم إيقاف الدكتور محمد المسعري.

غالب النشاطات التي تمت في الرياض، وذيول ما حدث حول لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية، هو عمل إخواني اختص به مجموعة من إخوان الزبير، والإخوان التابعين للصليفيح، والإخوان التابعين للفنيسان، ومن ذلك توجه وفد مكّون من ثلاثين أستاذًا جامعيًا إلى إمارة الرياض لمقابلة الأمير سلمان أمير الرياض حينها.

أما على المستوى السروري فقد قاد الدكتور سلمان العودة، وفدًا من مشايخ القصيم يقدر بخمسة وعشرين، في مقدمتهم الشيخ حمود العقلا، الذي كان يستفتح بداية الحديث، ثم يفسح المجال للعودة لإكمال الحديث، وكان الباعث على زيارة الوفد القصيمي للرياض هو إيقاف الدبيان، ومحاولة التوسط له عند من يستطيعون لقاءه، وبالفعل قابل الوفد الشيخ ابن باز، ثم ولي العهد حينها الأمير عبد الله، وأمير الرياض الأمير سلمان، وقابلوا بعض مشايخ الرياض.

(أخي رجل الأمن) محاضرة جريئة أكثر من اللازم

صورة للعودة يرجح أنها التقطت أثناء تدريسه في المعهد العلمي في بريدة

ألقى العودة هذه المحاضرة في جامع الذياب في حي المنتزه بمدينة بريدة، بتاريخ 26/11/1413هـ، التي جاء فيها توجيهات لرجال المباحث حول كتابة التقارير الأمنية، وذكر العودة فيها أخبار الوفد المشيخي من القصيم الذي قابل ولي العهد، ووزير الداخلية، وأمير الرياض، وعدد من أعضاء هيئة كبار العلماء، وعرج على انتقاد لاذع لهيئة كبار العلماء، وثناء كبير ومبالغ فيه على الشيخ عبد الله الجبرين والمشايخ الذين فصلوا من أعمالهم. وفي سؤال معدّ سلفًا عن لجنة المسعري والفقيه، جاء الجواب ثناءً باذخًا عليها، وهذا تاريخ معروف مكتوب في مصادر عدة، وقد امتدت هذه الفترة التي شاركه فيها العودة وغيره، من رموز الصحوة، حتى جاء الإيقاف الرسمي في أغسطس/آب 1993 عن كل المناشط بما فيها التدريس في الجامعة، وانتقل بعدها ليلقي دروسه في المنزل، حيث كان يستقبل الجمهور من الشباب والمتعاطفين، الذين كانت تغص بهم جنبات قسم الرجال في منزله بحي النازية في بريدة، وألقى خلال تلك الفترة مجموعة من الدروس، كان اللافت فيها محاضراتٌ ثلاث بعنوان: (أحاديث الربيع)، ألقى فيها باللائمة من طرف خفي على رفاق الأمس، وأنهم قومٌ مصرون على التقولب والتكلس، والاستمرار على النمط ذاته، وكأنه يعلن بذلك مفاصلته التامة عن التيار السروري بعد أن خرج من التنظيم.

استمر العودة على النمط ذاته في التعاطي مع وضع الإيقاف، الذي قطعه بالدروس في منزله، والأسفار الداخلية، التي تخللها رحلة خارجية إلى الفلبين فلتت من عين الرقيب بسبب فني -على ما يبدو- في المنفذ الحدودي السعودي على البحرين، أو بسبب اسمه المكتوب بالخطأ في جواز السفر (سليمان)، كما ذكرنا.

فبعد الفراغ من حرب الخليج، تفرغت الحكومة السعودية لتشغيبات الصحوة السياسية التي بدأت مع الحرب، وتحديدًا مع مسألة الاستعانة بالقوات الأجنبية، كان هامش الحديث حول الممنوع السياسي واسعًا، تجاوز الخطوط الحمراء بمسافات بعيدة، مما جعل الحكومة تعطي وبطريقة غير مباشرة، الفرصة للحوار، وفتح خط الرجعة لقيادات الصحوة، فظل التجاذب بين الحكومة ورموز الصحوة، سنوات عدة، حتى جاء الوقت الذي وجدت الحكومة نفسها أمام خيار واحد لإطفاء تلك المشاغبات السياسية، التي ستُنتِج عمَّا قريب مناهج مغايرة لفكرة الحل الإسلامي على الساحة السعودية، كان الخيار هو اعتقال القيادات الصحوية ومجموعة من الأتباع.

وفي مغرب السبت الرابع من شهر ربيع الثاني لعام 1415 (صيف 1994)، سجل سلمان العودة شريطًا “كاسيتيًا” في قبو منزل الدكتور ناصر العمر في مدينة الرياض، حينما نما إلى علم العمر أن قرارًا صدر بحق العودة والحوالي يقضي بإيقافهما لدى سلطات الأمن السعودي، فاجتمع في بيت العمر مجموعة من الحركيين ذلك اليوم، وكان رأيهم أن يسجل العودة شريطًا صوتيًا يتكلم فيه عن الوضع والمستجدات بعد خبر الإيقاف، واختار العودة والمجتمعون عنوانًا لذلك التسجيل: (رسالة من وراء القضبان). ظهر الشريط لأول مرة بعد شهرين من هذا التاريخ تقريبًا، وقد تحدث العودة في هذا التسجيل عما أسماه في ذلك الحين حملة الاعتقالات للدعاة، وقال: “فهذه رسالة من وراء القضبان لكل من يريد أن يعرف قضية الدعاة والدعوة إلى الله -عز وجل-“، وتحدث عن الحرية، وعن الابتلاء، والصبر في سبيل الدعوة، ومواصلة المسيرة، وغيرها من المعاني في هذا السبيل، وأطلق جملته الشهيرة (اسجنونا ولكن أصلحوا الأوضاع).

بعض كاسيتات سلمان العودة

ومن المفارقات أن العودة عدل عن فكرة إخراج الشريط بعد يومين أو ثلاثة من تسجيله، لعدم تأجيج الموقف، وتخفيفًا لبعض ما ينتظره وراء القضبان من مساءلات، ولكن الشريط خرج في النهاية، كما أن العودة حول خطابه الديني والشرعي إلى خطاب مدني حقوقي، فشدد على الحقوق والحريات والفساد وغيرها من الهموم المدنية، التي لم يكن له أو لغيره من دعاة الصحوة أي اهتمامات سابقة بها.

في الأيام التالية، تزايد التصعيد، بين الأمن من جهة، وبين سلمان العودة من جهة أخرى. ولأيام عدة، استدعي خلالها العودة لمبنى الإمارة، للتوقيع على تعهد بإيقاف نشاطاته كافة، غير أنه امتنع عن التوقيع، وخلال تواجده في الإمارة أقام مؤيدوه مؤتمرًا أسموه مؤتمر النصرة، وخطب فيه الكثير من الصحويين حينها، وحدثت خلال هذه الأيام مسيرتان إلى مبنى الإمارة: الأولى كانت مع العودة أثناء ذهابه إلى الإمارة، والثانية كانت بعد إيقافه ونقله إلى الرياض، كانت نهايتها دخول مجموعة من المحتشدين إلى مقابلة مسؤولي الإمارة حينها، ولكنهم خرجوا بلا طائل، وانفض السامر، واستمرت الحشود أمام منزل العودة ومسجده فيما سمي مؤتمر النصرة، وهناك في مساء يوم الثلاثاء (8/4/1415) يوم إيقاف العودة، تحدث للناس الشيخ عبد الرحمن العجلان، رئيس محاكم القصيم حينها، واقترح عليهم الانصراف على أن يتم تشكيل لجنة مكوَّنه منه، ومن كلٍ من: الدكتور علي البراهيم اليحيى، والدكتور ناصر بن عبد الله القفاري، والدكتور صالح بن محمد الونيان، لتتواصل مع الداخلية فاستجاب الناس لطلبه وانصرفوا.

مظاهرة بريدة

بعد انصراف الناس، انتشر خبر حول فكرة اجتماع جماهيري عند نادي الشباب في الرياض -وكان حينها في أول مدخل الرياض للقادم من القصيم- سيتم في الغد يوم الأربعاء، وذلك لترتيب ما يمكن فعله وتجميع المؤيدين من مختلف مناطق المملكة، خصوصًا من مدينة الرياض، وكان مخططًا أن ينتج عن هذا التجمع مؤتمر مشابه لمؤتمر بريدة “نصرة العلماء والدعاة”، وأن يتم التحرك باتجاهات عدة، أهمها مقابلة المسؤولين الكبار في الدولة، ومقابلة كبار العلماء، وهو ما حدث؛ إذ بدأت مجموعات من الشباب والدعاة بالتجمع في المكان المتفق عليه مسبقًا، غير أن سلطات الأمن السعودي فرقت الجمع، وأوقفت كل من حضر أو تجمهر هناك.


 باحث مختص بعلوم الشريعة وأصول الدين، ومهتم بتاريخ الصحوة الإسلامية، وقضايا الإسلام السياسي، وكذلك قضايا التطرف والإرهاب. 

اتبعنا على تويتر من هنا

تعليقات عبر الفيس بوك

التعليقات

مقالات ذات صلة